مقالات رئيس المركز
د. عمر الحسن

2019/08/28
رئيس السلطة التشريعية.. المعايير والمبادئ
يُعد منصب رئيس "مجلس النواب" من أكثر المناصب السياسية حساسية في كل دول العالم على كل الأصعدة الداخلية والخارجية؛ بصفته رئيس السلطة التشريعية، والذي ينظم العلاقة مع السلطة التنفيذية ويرسم خططها. وتتمثل وظيفته في المحافظة على المجلس، وإصدار مشاريع القوانين، ودعمها، والتحكم في سير عمليات التصويت التي تدعم الإطار القانوني للدولة وتخضع له، وأيضًا في مراقبة وتنظيم وضبط مناقشاته، ومن الأمثلة على ذلك، النقاش الذي دار في مجلس العموم البريطاني يوم 27/3/2019، بين رئيس المجلس "جون بيركو" ووزير الخارجية الأسبق، رئيس الوزراء الحالي "بوريس جونسون" وكيف أوقفه عن متابعة حديثه، وطالبه بالتقيد بالأصول البرلمانية واحترام زملائه، وكان ذلك بسبب طريقة جونسون غير اللائقة في التعامل مع وزيرة خارجية حكومة الظل، "إميلي ثورنبيري"، حيث خاطبها بلقب زوجها وليس عائلتها دون ذكر حتى اسمها الأول. وجونسون بالمناسبة كانت له تصريحات عنصرية ضد المرأة المسلمة، وتصريحات أخرى تؤيد إسرائيل بشكل مستفز للمشاعر الدينية.
ويُمنح رئيس مجلس النواب، من خلال التزامه بمبادئ النقاش الحر، والنزيه، والشامل، مجموعة من الصلاحيات؛ تشمل القدرة على السماح بعقد نقاشات عاجلة للقضايا الملحة أو الطارئة وتحديد الجدول الزمني لنقاش تلك القضايا، واختيار من يتحدث أثناءه، بما في ذلك التعديلات المطروحة التي يُمكن التحدث بشأنها.
ولدى رؤساء الهيئات التشريعية في العالم، بعض المبادئ والمعايير الأساسية التي يجب الالتزام بها وعدم الخروج عنها، ولعل أهمها، أن يتسم عمله بالإيجابية والفاعلية لضمان تلبية مسؤوليات منصبه، والتي تنطوي على أولاً: الحفاظ على الحياد والنزاهة في إدارة المناقشات وإقرار القوانين. ثانيًا: التدقيق والرقابة على أعمال الحكومة؛ حتى يكون البرلمان مثمرًا وممثلاً قدر الإمكان لشرائح الشعب. وبهذه الصفات، يمكن لرؤساء مجالس النواب أن يكونوا عنصرًا أساسيًّا في خلق بيئة سياسية محلية فعالة ومستدامة.
ولكي يُعتبر رئيس السلطة التشريعية مؤديًا لعمله بفاعلية، يتوجب عليه أن يدعم مبدأ الحياد السياسي دعمًا كاملا وقويًّا، وأن يخلق حالة من التوازن في المجلس، بحيث تكون جميع مكونات المجتمع ممثلة فيه بشكل مناسب، وقد وصف تقرير صادر عن "معهد الدراسات الحكومية"، بلندن، رئيس مجلس العموم، بأنه "المتحدث الذي تتسم خطاباته بالعصرنة، وهو شخص محايد، وعليه أن يتجنب اتخاذ أي مواقف سياسية، أو أن يُفضل مصالح معينة على مصالح الآخرين".
وبالنظر إلى "جون بيركو"، رئيس مجلس العموم، الذي كان عضوًا في مجموعتي أصدقاء مصر والبحرين في البرلمان البريطاني، نجد أنه عادة ما عبّر عن آراء سياسية قوية في عدة مناسبات منها، ما يتعلق بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (البريكست)، حيث صوّت شخصيًّا للبقاء، وهاجم الحملة الرسمية للبريكست، والتي شملت عددًا من النواب منهم بوريس جونسون؛ ولهذا عادة ما اتهمه بعضهم بإظهاره التحيّز خلال المناقشات، وفي اختياره لتعديلات وتحديد مواعيد مشاريع القوانين. وفُسر أن ما دفعه إلى إدانة جونسون بهذه الشدة، هو موقفه الشخصي منه وعداؤه له أكثر من أنه موقف محايد ودفاع عن أحد أعضاء البرلمان. وتنطلق هذه الادعاءات من منطلق صحيح، وفي هذا الشأن قال "فيرنون بوجدانور"، في مجلة "نيويوركر"، الأمريكية: "أعتقد أن بيركو، أضعف دور الرئيس، فلطالما شهد المجلس رؤساء محايدين بشكل تام، ولم يتم اتهام أي شخص بانحيازه إلى أي طرف باستثنائه".
في ضوء ما تقدم، نحاول إجراء مقارنة بين إدارة أي رئيس لمجلس العموم البريطاني مع أي رئيس لمجلس النواب البحريني، نجد أن الصلاحيات والإجراءات واحدة تقريبًا، ولكن الإدارة تختلف من رئيس لأخر، فالهدف واحد هو تحقيق إنجازات تشريعية تخدم المواطن من خلال التزام الأعضاء وتقيدهم بالأصول البرلمانية والانضباط أثناء الجلسات، فمنذ بدأ المشروع الإصلاحي للملك تداول على رئاسة مجلس النواب البحريني ثلاثة هم أصحاب المعالي خليفة الظهراني (2002-2014)، أحمد الملا (2014-2018)، والرئيسة الحالية فوزية زنيل (2018 حتى الآن).
خليفة الظهراني، هو أول شخصية قادت مسيرة ونهضة المؤسسة البرلمانية في البحرين كجزء من المشروع الإصلاحي لجلالة الملك "حمد بن عيسى آل خليفة"، وهو من عاصر مراحل مهمة من تاريخ البلاد، وأثرى المجتمع بعطائه في مجالات عدة، فقد مارس العمل البرلماني مدة عشر سنوات متواصلة كعضو في مجلس الشورى البحريني منذ تأسيسه عام 1992 وحتى عام 2002، كما حظي بالثقة الملكية السامية ليكون عضوا باللجنة العليا لإعداد مشروع ميثاق العمل الوطني خلال الفترة 2000 – 2001، ودخل أول ثلاثة انتخابات برلمانية، وفاز بأغلبية أصوات دائرته من الجولة الأولى في انتخابات الفصل التشريعي الأول 2002 والثاني 2006 والثالث 2010، كما تم انتخابه رئيسا لمجلس النواب خلال الفصول التشريعية الثلاث الأولى، وخلال هذه الفترة، ناقش الكثير من القوانين والتشريعات، التي أثرت مسيرة البحرين التنموية في كافة المجالات، حيث بلغت (مشاريع القوانين510، والمقترحات بقوانين262، والمراسيم بقوانين30).
ونظرًا إلى ما يتمتع به من عقلانية وخبرة بمختلف قضايا الوطن، وثقة أغلبية أطياف الشعب والحكومة، كلفه عاهل البلاد برئاسة وإدارة حوار التوافق الوطني في الفترة من 2-25/ يوليو2011. وتميز بحياده في تعامله مع مختلف المواقف والقضايا، وحرصه على لم الشمل وعلى وحدة المجلس، ولم تشكل حداثة التجربة البرلمانية تحديا له، فقيادته المتوازنة للأمور، وخلفيته في العمل التطوعي والإنساني ورؤيته الواضحة شكلت أسس عمله البرلماني؛ ومن ثمّ تميزت نقاشاته ومقترحاته وطروحاته بالواقعية والجدية والحيادية والمصلحة الوطنية وبُعد النظر.
ومن مقترحاته التي قدمها ورحبت بها الحكومة وأصبحت موضع التنفيذ، إنشاء صندوق احتياطي للأجيال القادمة، على أن يُقتطع دولار من قيمة كل برميل نفط لصالح هذا الصندوق، ومقترح تفعيل القرارات الخليجية حول تسهيل انتقال العمالة الوطنية وزيادة فرص التوظيف في دول مجلس التعاون الخليجي، وزيادة الاحتياطي المائي للطوارئ، وعشرات المقترحات الأخرى، التي تدل على مدى وعيه بهموم وطنه وشعبه. وكان أول من استشعر خطر "حزب الله"؛ ولهذا قرر مجلس النواب برئاسته يوم 27/3/2013 اعتبار الحزب، منظمة إرهابية، وناشد المجالس التشريعية بدول مجلس التعاون اتخاذ نفس الموقف بعد أن قدم لهم كل ما يثبت صواب قراره من مستندات وأدلة. وأثمرت جهوده بإصدار السعودية والإمارات قوائم تضم منظمات إرهابية منها حزب الله، ووضع من يدعمه ويرعاه في خانة المقاطعة والعزل، وعلى رأسهم إيران.
وقد استقت شخصية "الظهراني"، من حكمة وعقلانية المرحوم الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة -طيب الله ثراه- ومن مدرسة الأمير خليفة بن سلمان آل خليفة، الذي حمى المجلس وعزز مكانته وقلل من خلافات أعضائه كما هو معروف، وأيضًا من الثقة التى منحها له جلالة الملك حمد بن عيسى؛ ولهذا كانت شخصية الظهراني غنية بعطائها، قريبة من الجميع، تتميز باستقلال القرار النابع من عقلية إدارية في التخطيط والإدارة، وحل المشكلات بأسلوب المتمكن، وهو ما مّكن لاستمرار التجربة النيابية بسلاسة بعد أن أرسى أسسها وقواعدها في البلاد، فسهل كثيرا على من ترأس المجلس من بعده وهو أحمد الملا، الذي مارس صلاحياته باقتدار، فلم تتوقف اجتماعات المجلس لمرة واحدة، ولم تتراجع قراراته وتعاون مع السلطة التنفيذية ومارس وظائفه الرقابية، ونجح في إدارة جلسات مجلس النواب رغم ما شهدته بعض الجلسات من مشادات بين أعضائه؛ بسبب خلافات شخصية وليست برلمانية وهو ما كان له تأثيره على العملية التشريعية، غير أن الرجل بقيادته الحازمة وخلفيته القانونية والعسكرية، تعامل مع بعض النواب غير المنضبطين أو الغائبين عن جلسات المجلس بحزم وشدة بما في ذلك توقيع عقوبة الخصم من رواتبهم، على من كان يتغيب دون عذر. وعلى الرغم من قصر فترة رئاسته للمجلس، والتي لم تتعد الأربع سنوات، مقارنة بمن سبقه في الرئاسة، فقد استطاع أن يثرى تجربة البحرين الديمقراطية بالعديد من التشريعات والقوانين التي بلغت (المشاريع بقوانين164، والمقترحات بقوانين121، والمراسيم بقوانين37).
أما فوزية زنيل، فقد شاركت في الانتخابات البرلمانية البحرينية مرتين، (عن الدائرة الثامنة بالمحافظة الوسطى 2006، والدائرة الخامسة بالمحافظة الجنوبية 2014، وكان لديها إصرار على تحقيق الفوز، وهو ما نالته في نوفمبر 2018، واعتبر نجاحها كنائبة في مجلس النواب، ثم انتخابها رئيسة له، هو إنجاز سياسي للمرأة البحرينية.. والحق يقال إن هذا النجاح تحقق لها، كما أشارت إليه بعض الكتابات، ليس فقط لكونها شخصية على درجة من العلم والثقافة، متمكنة وقوية تستوعب التقاليد والأعراف البرلمانية، وليس لحسن إدارتها للجلسات، لكن لأن هناك أطرافا أسهمت في تحقيقه، منها، دعم القيادة السياسية، ومؤازرة المجلس الأعلى للمرأة لها، برئاسة، الأميرة سبيكة بنت إبراهيم آل خليفة، وشعبيتها التي نالتها من احترامها لتقاليد المجلس وأعرافه، كل ذلك أوجد تعاون أعضاء المجلس معها في الدورة الأولى من عمر هذا الفصل التشريعي، وهو ما أثمر إنجاز 38 مشروع قانون، و13 مرسوم بقانون.
وقبل أن نختم، لابد من الإشارة إلى أن المسيرة الديمقراطية في البحرين بدأت بعد تدشين المشروع الإصلاحي لجلالة الملك.. وهي لن تتوقف، وستبقى مستمرة؛ فقد نالت دعم جميع شرائح المجتمع وفعالياته السياسية المختلفة وإشادات دولية ومنظمات حقوقية.
وعند تقييم أداء مجلس النواب، يجب مراعاة أن تجربته قصيرة إذا ما قورنت بتجارب أخرى عربية أو أجنبية، فهي لا تتعدى 17عاما.. وإن كانت التجربة حديثة لكنها مستمرة تكبر وتتطور سنة بعد أخرى. ونجح المجلس خلالها في إرساء أعراف برلمانية لم تنجح برلمانات كثيرة عبر نصف قرن في إرسائها، ونجح في تمرير قوانين مهمة أثرت رصيد البحرين التشريعي، بلغ عددها في الفصول التشريعية الخمسة 1175 قانونًا، تمحورت حول: مجالات اقتصادية وسياسية وأمنية ودفاعية وتنمية بشرية وتحسين المستوى المعيشي للمواطنين وحقوق الإنسان والاعتراف بالدور الكبير للمرأة في الحياة السياسية.