مقالات رئيس المركز
د. عمر الحسن

14/1/2020
بمناسبة الاحتفال بيوم الدبلوماسية البحرينية:
قراءة في كتاب: سمو «الشيخ محمد بن مبارك.. شهادة للتاريخ»
يظل الإنسان دومًا هو محور النقاش على صفحات التاريخ.. إنها حقيقة يشهد على رسوخها الزمان، فقد ارتبط تاريخ الأمم والشعوب بشخصيات جسدت الأمل.. وصنعت الحدث.. وخلفت البصمة.. واحتلت قائمة الشرف في وجدان الضمير.. كان لها عطاؤها.. وكان العطاء متجردًا، وكان لها إسهاماتها الفعالة في خدمة بلدها.
وكان للبحرين حظها من هذه الشخصيات المتميزة، التي جعلت لهذه الدولة الصغيرة مساحتها، والمحدودة إمكاناتها، مكانة متميزة بين قوى دولية فاعلة تتسع لها المساحات، وتتوافر لها الإمكانات، وقادتها وسط أنواء التحدي حتى وصلت بها إلى بر الأمان.. وفي طليعة هذه الشخصيات، سمو الشيخ «محمد بن مبارك آل خليفة»؛ نائب رئيس الوزراء، وزير الخارجية السابق، بما قدمه من خدمات جليلة لوطنه، ولأبناء شعبه وأمته على مدى نحو أربعة عقود ومازال بحكمته وحسن إدارته، وبما حققه من إنجازات في مختلف مجالات العمل الوطني والإنساني، والتي ستظل علامات مضيئة؛ لتتذكرها الأجيال، وتأخذ منها العبر والمثل بما يفيدها في حاضرها ومستقبلها، مدعومًا بثقة أمير البلاد، المرحوم الشيخ «عيسى بن سلمان آل خليفة» طيب الله ثراه، ثم عاهلها جلالة الملك «حمد بن عيسى آل خليفة» حفظه الله ورعاه، الذي تولى أمانة المسؤولية في 6 مارس 1999، وثقة رئيـس الوزراء سمو الأمير «خليفة بن سلمان آل خليفة» أطال الله في عمره، وولي العهد الأمين سمو الأمير «سلمان بن حمد آل خليفة».
وأمام شخصية مثل سمو الشيخ «محمد بن مبارك»، لا يسع باحث أو كاتب مهما بلغت مكانته أن يوجز إنجازاته أو يلم بجميع جوانب شخصيته، ولهذا يصدر «مركز الخليج للدراسات الاستراتيجية»، كتابا «تحت الطبع» عنوانه: «الشيخ محمد بن مبارك.. شهادة للتاريخ»، ليكون سجلا يؤرخ لتاريخ البحرين عبر حياته السياسية.. ويرصد ما مرت بها من أزمات وتحديات، وكيف أنها بتكوينها التاريخي والحضاري شكلت النواة أو القاعدة الصلبة والإطار المرجعي للدبلوماسية البحرينية في كافة تحركاتها، بما يمكن القول معه إن سموه قام بدوره التاريخي المبدع حينما تعرف على روح مجتمعه ونقل هذه الروح إلى دبلوماسية المملكة.
يقع الكتاب في سبعة فصول تتناول نحو خمسة عقود مضت، تجسد الدبلوماسية البحرينية والأب المؤسس لها سمو الشيخ «محمد بن مبارك»، والذي تولى مهمة السياسة الخارجية منذ ما قبل الاستقلال (عام 1968)، حتى عام 2005، ثم نائبًا لرئيس الوزراء.. وكيف نجحت في ترتيب أولوياتها طبقًا لما تقتضيه المرحلة الزمنية التي تعيشها بما تشمله من تحديات وظروف.. ففي هذه الفترة الطويلة صاغ معالم وأسس وتوجهات السياسة الخارجية بتوجيه من الأمير الراحل الشيخ «عيسى بن سلمان آل خليفة» وجلالة الملك «حمد بن عيسى آل خليفة» - دام عزه - سمو الأمير «خليفة بن سلمان آل خليفة» حفظه الله- المتسمة بالهوية العربية والإسلامية - من مبادئ وأهداف وخصائص ودوائر، وقاد معارك البحرين الدبلوماسية حتى نالت استقلالها، وأنشأ وطوّر الجهاز الذي تولى هذه السياسة، وعزز مكانتها على مستوى العالم.. وبعد أن وضع الأسس وربَّى الكوادر، كان أول ما وضعه نصب عينيه هو تثبيت وتأكيد استقلال بلاده، وذلك باستخلاص اعتراف عربي ودولي بها، والانضمام إلى المنظمات الدولية والإقليمية.
وتمثلت الخطوة الثانية في بناء الركائز الأساسية لتوجهات سياسة البحرين الخارجية، والتي التزمت بها قولا وفعلاً، ومن أهمها: انتهاجها سياسة تقوم على عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وتفعيل العلاقات التعاونية معها ومع المنظمات الإقليمية والدولية، بما يخدم قضية التنمية الشاملة والمستدامة، والالتزام بالمعاهدات والاتفاقيات الدولية.. في عقد السبعينيات بدأ نشاط الدبلوماسية البحرينية في أمور وقضايا المنطقة والتعامل مع أحداثها المتتالية؛ حيث كان قد شارك في الاجتماعات التي مهدت لإعلان اتحاد الإمارات العربية المتحدة من 1968 حتى أكتوبر 1970 من منطلق إيمانه بأن الاتحاد قوة، وأنه الرادع الوحيد لأي أطماع خارجية.. ثم من ثورة ظفار في عمان، إلى الحرب العربية الإسرائيلية عام 1973، وقرار الدول العربية النفطية قطع صادرات النفط عن الدول التي تدعم إسرائيل، ثم الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975، ثم توقيع اتفاقية (كامب ديفيد) عام 1978 بين إسرائيل ومصر، والتي على أثرها تم تعليق عضويتها عام 1979 في جامعة الدول العربية، وأثر ذلك على العمل العربي المشترك، ثم الثورة الإيرانية في نفس السنة، والتي حاولت تصديرها للدول المجاورة، وتداعياتها على المنطقة، وتجدد مطامعها في البحرين بعد فترة هدوء وتفاهم في العلاقات بين البلدين، طوال السبعينيات، وكيف واجه هذه المطامع بدبلوماسية راقية وسياسة حكيمة مدروسة بعيدة عن الانفعال وردود الأفعال.. ثم احتلال الاتحاد السوفيتي لأفغانستان عام 1979، حيث كان للدبلوماسية البحرينية دور أساسي وعقلاني وإيجابي في التعاطي مع كل هذه الأحداث.
وفي عقد الثمانينيات كانت الحرب العراقية – الإيرانية عام 1980، التي استمرت ثمانية أعوام، لعبت فيها الدبلوماسية البحرينية أدوارا على المستوى الدولي والإقليمي أدت إلى وقفها، وكيف قام مجلس التعاون الخليجي عام 1981، والذي يعد أهم إنجاز سياسي خليجي في العصر الحديث، والتي جاءت فكرة إنشائه بمبادرة من أمير البحرين الراحل الشيخ «عيسى بن سلمان آل خليفة»، وكيف كانت لدبلوماسية الشيخ «محمد بن مبارك» المكوكية الذي نقل الفكرة إلى قادة دول المجلس دور كبير في ميلاده، وفي الارتقاء بمستوى العلاقات بين أعضائه في كل المجالات.. ثم ما تبع ذلك من أحداث مثل، ضرب المفاعل النووي العراقي في نفس العام، والاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، وحصار إسرائيل لبيروت، بهدف القضاء على قادة منظمة التحرير الفلسطينية وفصائلها، ودور سموه في إفشال تحقيق ذلك من خلال ترؤسه وفدا شكله مجلس جامعة الدول العربية لزيارة لندن في يوليو 1982، إلى جانب وفود أخرى إلى الدول الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، ولقائه الناجح يوم 8 يوليو 1982، رئيسة الوزراء «مارجريت تاتشر»، والتي رحبت بسموه ووعدت بتلبية الطلب.. ثم ما شهدته هذه الفترة من أحداث متتالية، مثل اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، والجهود التي بذلتها الدبلوماسية البحرينية مع دول مجلس التعاون للعمل على إنهاء الحرب العراقية الإيرانية والحد من أضرارها على العراق وإيران ودول المنطقة، والدور الذي بذلته أيضا في إعادة مصـر إلى جامعة الدول العربية عام 1989، بما في ذلك إعادة مقرها إلى القاهرة.
ومع بداية التسعينيات، دوليا، انتهت الحرب الباردة، وتغير النظام الدولي من ثنائي القطبية إلى أحادي القطبية، وبرزت ظاهرة العولمة، تعاملت الدبلوماسية البحرينية معها جميعها بمهنية. وإقليميًّا، احتل النظام العراقي الكويت في أغسطس من عام 1990، فرفضت الدبلوماسية البحرينية الغزو وشجبته وطالبت بدحره، وحذرت من تداعياته على العراق والكويت وعلى منظومة العمل العربي المشترك، وإزاء ذلك كان لها دور فاعل وتحرك سياسي مع شقيقاتها دول المجلس ودول عربية في حشد الطاقات عسكريًّا وسياسيًّا وإنسانيًّا من أجل إنهاء احتلال الكويت.. وبعد تحريرها حرصت على رأب الصدع العربي سريعًا نتيجة الغزو والتخفيف من وطأة الحصار المفروض على شعب العراق، باعتباره المتضرر الأول.. وفي عام 1991 بدأت مفاوضات مدريد للسلام بين العرب وإسرائيل وانتهت باتفاقية أوسلو عام 1993 بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وانضمت البحرين إلى منظمة التجارة العالمية عند قيامها في 1995، وفي مارس 1999 تولى جلالة الملك «حمد بن عيسى» أمانة المسؤولية بعد وفاة والده، وبدأ مشروعه الإصلاحي، الذي بشرت به في الخارج الدبلوماسية البحرينية، وهو ما وجد صداه في الكثير من الإشادات الدولية.
وفي العقد الأول من الألفية الثالثة، وقعت العديد من الأحداث التي كان لها انعكاساتها على أوضاع المنطقة، وأهمها الهجمات الإرهابية على برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك في سبتمبر 2001، واتهم فيها 19 شخصًا خليجيًّا، ومبادرة السلام العربية التي أقرت عام 2002 في قمة بيروت، واحتلال العراق وإسقاط نظامه عام 2003.. ثم بروز قضايا مهمة في العلاقات الدولية؛ مثل الإرهاب، وتهريب المخدرات والأسلحة، وجرائم الاتجار بالبشر، وحقوق الإنسان، وتزايد دور الفاعلين من غير الدولة كالشركات المتعددة الجنسيات، والمنظمات الدولية غير الحكومية، والتنظيمات السياسية العابرة للحدود؛ تعاملت وتعاونت الدبلوماسية البحرينية معها جميعها بمهنية أيضًا وبنجاح.
ومن زاوية أخرى، يعرض الكتاب مساحة لخطابات سموه السنوية أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة ابتداءً من عام 1972 حتى عام 2005 والتي وصل عددها إلى 34 خطابًا والتي تعتبر بمثابة وثائق نستطيع أن نستكشف من خلالها حركة الأمة عبر الزمان والمكان، فضلا عن اشتمالها على مجمل القضايا الإقليمية والدولية، والتي تعامل معها من خلال مجموعة من المبادئ، منها التزام المملكة بالقيم والأعراف والآيديولوجيات التي يقرها النظام الدولي، كمدخل للسلام والاستقرار، ومراعاة أن يكون سلوكها متلائمًا من ناحية مع التطور الذي طرأ على القضية أو المشكلة موضع الاهتمام، ومتلائمًا من ناحية ثانية مع النظرة أو الرؤية الدولية للمشكلة، ومن ناحية ثالثة مراعيا للثوابت والمصالح العربية بالأساس.
ويختم الكتاب بعد ذلك مرحلة عطاء سموه، الممتدة للبحرين بعد اختتام عمله كوزير للخارجية لمدة 34 عامًا، كما ذكرنا، والملفات الأخرى التي كانت تنتظره، والتي تُبين لنا مدى ثقة جلالة الملك، «حمد بن عيسى آل خليفة» حفظه الله، وقناعته في قدرات الرجل، وأن النجاح الذي أبداه في قيادة الدبلوماسية البحرينية، هي عوامل تزكي كفاءته في الإدارة المؤسسية لعملية التنمية.. ففي خطوة تمهيدية كان قد تم تعيينه نائبًا لرئيس مجلس الوزراء، عام 2002، ليواصل من خلاله العطاء لبلاده وأمته، ويتناول الموضوعات من منظور شامل، وبرؤية مستقبلية تضعها في خدمة المشروع التنموي البحريني.
وكانت رؤية جلالة الملك ضرورة استثمار قدرة وخبرة وسمعة سموه، التي بنت ونسجت شبكة واسعة من العلاقات المتميزة والقوية مع دبلوماسيي العالم وساسته، ما مثَّل للمملكة رصيدًا قويًّا يمكن استثماره، بما يفيد ويخدم مصالحها ودورها ومكانتها، وذلك من خلال تكليفات ومهام سامية؛ فكان في مقدمة تشكيل أي وفد بحريني مصاحب لجلالة الملك في زياراته الخارجية أو استقباله رؤساء أو ملوك أو وفود دول عربية أو أجنبية، أو في مؤتمرات القمة التي يرأسها، سواء على مستوى مجلس التعاون لدول الخليج العربية، والتي بلغت في هذه الفترة (2005 - 2019)، سبعًا وعشرين قمة، أو القمة العربية، والتي بلغت عن نفس الفترة (12) قمة، أو قمة منظمة التعاون الإسلامي، أو قمة عدم الانحياز، أو القمم المشتركة؛ كالقمة الخليجية الأمريكية، والعربية الإفريقية، أو قمة منتدى الحوار الآسيوي الذي كان سموه نفسه أحد مؤسسيه.. فضلا عن إنابته في المؤتمرات التي تتناول موضوعات تحظى باهتماماته، مثل «منتدى سان بطرسبورج» الاقتصادي الـ19 في يونيو 2015، وفي افتتاح «المؤتمر العالمي للتعليم العالي في القرن الـ21»، الذي نظمته الأمانة العامة لمجلس التعاون الخليجي في يونيو 2007.
كما نجح بشكل فاعل كذراع يمنى للملك في دبلوماسية القمة، استطاع أيضًا أن يوظِّف الدبلوماسية البحرينية التي أسسها في خدمة التنمية الشاملة للمملكة، من خلال ترؤسه للجان تعمل في جوانب هذه التنمية منها: اللجنة العليا لتقنية المعلومات والاتصالات منذ إنشائها في 2005 حتى الآن - المجلس الأعلى لتطوير التعليم والتدريب منذ إنشائه في 2006 حتى الآن- مجلس أمناء جائزة عيسى لخدمة الإنسانية منذ إنشائه في 2009 حتى الآن -لجنة إعادة هيكلة الجهاز الحكومي في 2017 حتى الآن -ثم إطلاق اسم سمو الشيخ «محمد» على أكاديمية الدراسات الدبلوماسية.. ولعل هذا الحضور القوي له، إن دل على شيء فإنما يدل على أن هذا الرجل لديه من العطاء الكثير، وما يمكن استثماره في خدمة المملكة في أي موقع يشغله، والذي حرص على توظيفه بأقصى جهد يمكنه من خدمة بلاده.
ولمكانة الرجل حرص العديد من معاصريه من الدبلوماسيين وزراء وسفراء على تسطير شهادتهم عنه وعن هذه الفترة في بداية هذا الكتاب، والتي كانت مليئة بالأحداث المحلية والإقليمية والدولية.. كانوا شاهدين عليها، موجودين فيها.. راصدين لملامح مهمة من ذلك الوعي والتميز.. ولتلك الصفحات المضيئة في تاريخ البحرين. في مقدمة هؤلاء معالي «عمرو موسى»، وزير الخارجية المصرية الأسبق، والأمين العام الأسبق لجامعة الدول العربية، والذي قال بعد أن قرأ فصول الكتاب: «وجدت بين دفتيه ما يؤرخ لمسيرة البحرين، وأبدي اعتزازي بما حققه زميلي وصديقي العزيز من إنجازات لبلاده الحبيبة.. فقد عرفته عن قرب، وأستطيع القول بكل أمانة أنني وجدت فيه الصديق الوفي، والناصح الأمين، والعربي المتين، والدبلوماسي المحنك.. نعم إنه هو أبُ الدبلوماسية البحرينية، بمثل ما أنه واحد من آباء الدبلوماسية العربية»، مؤكدا أن وزراء الخارجية المصريين يقدرونه ويحترمونه ويحبونه، فقد كان عالي الكفاءة عميق الإخلاص ودودا، كسب قلوب كل من تعامل معهم، وكسبهم إلى صف البحرين وحقها في البزوغ، دولة فتية عربية، قادرة على الوقوف على قدميها والانطلاق نحو مستقبل مشرق لأبنائها. ثمّ أردف: «حين كنت وزيرًا لخارجية مصر، عملنا سويًا كي نؤكد العلاقة بين بلدينا، مصر والبحرين، كعلاقة نموذجية قائمة على التفاهم والتضامن والتعاون والتكامل، وكذلك الحال عندما أصبحت أمينًا عاما للجامعة العربية، إذ كنا حريصين على تحقيق صياغة سليمة للعمل العربي المشترك».
وعن السبب الذي دفعه لكتابة هذه المقدمة قال «موسى»: إنها تأتي «من منطلق تقديري الكبير للدولة الشقيقة البحرين وإنجازاتها، وحبي الشخصي للشيخ «محمد بن مبارك»، وكذلك من منطلق الاحترام، الذي أكنه لأمير البحرين الراحل، الشيخ «عيسي بن سلمان»، ولجلالة الملك «حمد بن عيسى»، ولرئيس الوزراء الأريب، الشيخ خليفة بن سلمان»، والذي جمعني ولا يزال يجمعني بهم أننا جميعا ننتمي إلى الوطن العربي ويهمنا إعلاء شأنه، وتحقيق أهداف النماء والرخاء والحرية والكرامة لكافة أبنائه، وضمان العيش الكريم لأجياله القادمة».
أما دولة «طاهر المصري»، رئيس مجلسي الوزراء والأعيان الأسبق، ووزير الخارجية الأسبق في الأردن، فقد أكد أن سمو الشيخ «محمد»، «أدار شؤون بلده الخارجية» بشكل رائع.. فقد كان أمينًا في المسؤولية، ومشرفًا في التمثيل، وفاعلا في الأداء، تشهد له بذلك المكانة الإقليمية والدولية التي حققتها البحرين في ظل إدارته، وأن دبلوماسيته لعبت دورًا في نقل صورة جميلة عن البحرين وقيادتها وأهلها وترسيخها على الصعيد الخارجي. يقول: «في عام 1984، عندما أصبحت وزيرا لخارجية الأردن -البلد الأقرب للبحرين قولاً وفعلاً- تعرفت على سموه، وتعززت وتطورت علاقتي معه، فقد كانت همومنا واحدة وتحدياتنا واحدة أيضًا.. عرفت فيه الانتماء لوطنه والولاء لأمته، فقد كان بعيدا عن المزايدات، وكانت مواقفه في كل المحافل «متوازنة ومتزنة» في محتواها، وفي التعبير عنها، وفي التعامل معها، منسجمة تماما مع مصالح دولته وأمته». وعلى المستوى الشخصي والإنساني قال: إن سموه، «شخصية ودودة، سهلة المعشر، هادئا في حديثه، واضحا في مواقفه، دمث الخلق، متواضعا، نشطا، وهي الصفات التي جعلته محبوبا من الجميع».
وأشار «المصري» إلى دعوة سمو الشيخ «محمد» له لزيارة المملكة في يونيو عام 2011 للاطلاع على تجربة الأردن والاستفادة منها في إجراء الحوار، قائلا: إن «هذه الدعوة تؤكد فيما تؤكد على مدى علاقة البلدين (البحرين والأردن) تاريخيا كعلاقة نموذجية قائمة على التعاون والتفاهم والتضامن والتكامل، وكيف أن سموه كان دائما يقول إن «عدد أعضاء مجلس التعاون الخليجي هم سبعة»، معتبرا الأردن جزءا من المجلس.. وفي النهاية أشار إلى أن هذا الكتاب، «أسهم في تسجيل نقطة عربية بيضاء في تاريخ الرجل الذي شارك في صناعة الأحداث الكبرى التي شهدتها المملكة والمنطقة بصفة عامة، والتي يفخر بها وبمسيرتها وعطائها المجتمع البحريني بكل مكوناته.. وزاد على ذلك أن قدم هذه الحقائق الموثقة تاريخيا في أسلوب سلس شيق حتى يُمكن القارئ من متابعة الاسترسال دون ملل».
ليأتي وزير خارجية المغرب الأسبق، معالي «محمد بن عيسى»، ويقر أنه «ليس من السهل الكتابة عن سمو الشيخ محمد، لما تتسم به شخصيته من سمات غنية متنوعة، عصية على الحصر والاستقصاء.. ذاكرا أن السمة الشخصية الأساسية له تتمثل في أنه «مسؤول حاسم وحازِمٌ في قراراته، وفي كثير من الأحيان صارمٌ في تدبير شؤون الدولة، حريصٌ على سُمعة وطنه، وحامِلٌ مِشْعَلَ الصُّورة الحضارية المتألقة للمملكة، كما أنه رؤوف بزملائه ومساعديه وأعوانه، يرعاهم ويدافع عنهم ويحميهم».. قائلا: «عرفت سموه منذ زمن طويل، وجمعتنا صداقة وثيقة صافية امتدَّتْ إلى اليوم، وقد كان الزَّميل الوفي، والصديق المخلص، والرفيق المُمْتع، كان دائمًا مثالا حيا للتواضع والتَّسامح والاعتدال، كما كان ولا يزال داعية للتوافق والحوار وجمع الشَّمْلِ».
ويؤكد «بن عيسى» أنَّ هذا الكتاب هو «خلاصةٌ موجَزَةٌ عن تجربة ومسار سمو الشيخ محمد بن مبارك آل خليفة في كلِّ ما قام به من أجل الدِّفاع عن استقلال وحرية بلده، وما بادر به في خدمة مختلف القضايا العربية والإسلامية والإنسانية.. وأنَّ الدرس الأساسي الذي نستخلصه من تاريخ سموه هو أنه «أحد بناة دولة البحرين الحديثة إلى جانب قادتها المؤسسين، وقد عمل طِوالَ مهامِه بتفانٍ وتواضعٍ، والتزام وأخلاقٍ، فهو الإنسان المثالي المستحق لإعجاب وتقدير وحب كل من عرفه وتعامل معه». وتابع: وغني عن البيان أن هذه الشهادات -على صدقها وأهميتها- لا تغطي مختلف جوانب شخصية الرجل، ولا تفي مساره السياسي والدبلوماسي والإنساني حقه الكامل، غير أن تناول معاصريه - كل من زاويته- جوانب من خصاله ومآثره ومناقبه، قد أعطى صورة معبرة عن هذه الشخصية المتميزة الناجحة، وعبر قبل كل شيء عن مشاعر الحب والتقدير التي يتمتع بها على نطاق واسع في البحرين وخارجها، وقديما قيل «ألسنة الخلق أقلام الحق».
ويتابع: وبعد، فإن مدرسة سمو الشيخ «محمد بن مبارك»، التي رسمها كانت أصدق مرآة للشخصية البحرينية، والتي يمكن وصفها بأنها عروبية براغماتية.. في هذه المدرسة كانت سمات الكفاءة والولاء والجد هي العناوين الرئيسية التي يتم تعليمها لأبنائها من مسؤولي الدبلوماسية، وفيها أيضًا كان الالتزام بالاعتدال والتحلي بالمنطق والواقعية.
أما سفير مصر الأسبق لدى البحرين، «محمد عباس»، فقد وصف شخصيته بأنها «متميزة» معتبرا إياه «رمز من رموز الحكمة والخبرة الدبلوماسية العريضة، يحبه كل من يلتقيه على الصعيدين الرسمي والشعبي». وهي الصفات التي تلامس ما رآه سفير المغرب الأسبق، «عبدالقادر الزاوي»، في سمو الشيخ محمد، فهو «الإنسان الراقي في تعامله، المتواضع، الذي يتمتع بفضيلة الإنصات، يلمس من يخاطبه ثراء معرفته وثقافته، رجل دولة، وفارس دبلوماسي نبيل، وسيسجل التاريخ أعماله ومواقفه بكل فخر واعتزاز».
ويتفق عميد السلك الدبلوماسي، «سالم اليعقوبي»، سفير عمان الأسبق، مع كل ما سبق من قبل زميليه عن خصال سموه الحميدة، ويتابع بأنه «شخص كريم وجد منه وكل زملائه السفراء الترحيب والتشجيع والود، وكان يحرص دوما على توفير كافة التسهيلات للبعثات الدبلوماسية المعتمدة ويوجه المختصين في وزارة الخارجية بذلك، وأنه لمس في البحرين كل محبة وتقدير لأهل عمان ولجلالة السلطان قابوس من القيادة ومن الشعب».
على العموم، ما تضمنه الكتاب يؤرخ لمراحل مهمة من تاريخ البحرين، ويوثق الأحداث التي مرت بها منذ ما قبل استقلالها، حتى اليوم، ويكشف اللثام عن أسرارها؛ وبيان ما قدمته من جهودٍ لرفعة شأنها، والتمسك بحريتها، والمحافظة على هويتها الإسلامية، وقوميتها العربية، وليحفظ لها ما حققته من نجاحات في تجاوز ما مرت به من أزماتٍ، واضعا بين يدي الأكاديميين والباحثين والمؤرخين وطلبة كليتي العلوم السياسية والإعلام في الجامعات ما يساعدهم على تكوين صورة واضحة عن فترةٍ مهمةٍ من تاريخ البحرين والمنطقة العربية بشكل عام.
وختاما نقول: «محمد بن مبارك».. شخصية غنية بعطائها.. بصماته واضحة، لا يتسع المجال هنا لحصرها، وما نكتبه اليوم ما هو إلا وفاء لقامة من قامات تزخر بها البحرين سنحاول توثيق مسيرتهم -إن شاء الله- ولا سيما إذا كانت لهم صفات نيرة تتعلق بتجارب الشعوب ومعاصرة مراحل انتقالية مهمة في حياة مجتمعها.. فتكون تلك الشخصيات مقياسا دقيقا لقدرة تلك المجتمعات على التكيف مع التطور في واقعها، والانتقال بها إلى الأفضل؛ لذا فإن بصمات سموه ستبقى خالدة، حيث كان أبرز الذين شاركوا في صناعة الأحداث الكبرى التي شهدتها المملكة والمنطقة العربية بصفة عامة، باعتباره واحدا من روادها الذين حرصوا على استقرارها وتواصل مسيرتها التنموية المستدامة تحت مختلف الظروف والمتغيرات.