top of page
10/12/2019

أدوار الصين الكبرى في الشرق الأوسط

كان الشرق الأوسط -ولا يزال- موطنا لتنافس العديد من القوى الكبرى والإمبراطوريات على فرض النفوذ، وذلك نظرًا إلى أهميته الاستراتيجية وما يحتويه من موارد هائلة. ومنذ القرن العشرين كانت المنطقة ساحة للحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد السوفيتي، حيث تم إعادة تشكيلها وفقا لمناطق نفوذ كل منهما، ومع انهيار الأخير أصبحت الولايات المتحدة هي المهيمنة، باعتبارها القوة العظمى في النظام الدولي، ومع تراجع هذا الدور في العقد الأخير، عادت المنطقة ساحة للتنافس من جديد بعودة روسيا الوريث الشرعي للاتحاد السوفيتي، وظهور لاعب جديد يسعى لبسط نفوذه والانخراط في المنطقة وهو الصين من خلال توسيع هيمنتها الاقتصادية والسياسية المتزايدة.
وفي ضوء ذلك، صدر تقرير عن «المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية» في 21/10/2019 بعنوان «لعبة الصين الكبرى في الشرق الأوسط»، أعده كل من «كميل لونس، جوناثون فولتون، وديغانغ سون، ناصر التميمي»، بهدف تحليل جوانب التواجد المتنامي للصين في الشرق الأوسط، وأهمية ذلك لدول المنطقة في ضوء تحولها إلى شريك اقتصادي ودور مبادرة «الحزام والطريق» في هذه الشراكة.
ويجمع كثير من المراقبين على أن توغل الصين في المنطقة يعد الأكثر أهمية. وبالرغم من أن لديها تواجدا في الشرق الأوسط منذ بداية إنشاء طريق الحرير منذ القرن الثاني قبل الميلاد، إلا أنها قضت معظم التاريخ الحديث غائبة عن المنطقة، لكن العقد الحالي شهد عودتها مرة أخرى كنتيجة للنمو الاقتصادي والتوسع العسكري والسياسي، الأمر الذي ساعدها على بسط نفوذها وتعزيز مكانتها في المنطقة لسنوات طويلة من خلال مواردها الهائلة والإرادة السياسية لقادة الدول في الشرق الأوسط. 
ومع ذلك فإن التوغل الصيني في الشرق الأوسط ترجع أهميته إلى أنه يختلف عن باقي التدخلات لأسباب عدة منها:
أولا: يعتبر تدخلا اقتصاديا بشكل رئيسي، ويتضح ذلك من حجم النشاط التي تقوم به، حيث أقامت شراكات اقتصادية مع 13 دولة في المنطقة في العقد الماضي، شملت كلا من «مصر والجزائر وإيران والسعودية والإمارات، والعراق والأردن والكويت والمغرب وسلطنة عمان وقطر وتركيا وجيبوتي»، وبلغ حجم استثماراتها حوالي 177 مليار دولار، منها 70 مليار دولار ذهبت إلى دول الخليج، في قطاعات متنوعة مثل الطاقة والعقارات والتصنيع والبنية التحتية، وهو ما جعلها أكبر مستثمر أجنبي في المنطقة. 
ثانيا: حرصها على تجنب تكرار أخطاء التدخلات الدولية السابقة، من فرض واقع عسكري وسياسي قوي في المنطقة، للحفاظ على تأمين أهداف أوسع كإقامة الديمقراطية والقضاء على التهديدات الفكرية الاشتراكية، أو إقامة الاشتراكية والقضاء على المشروع الغربي، خاصة في فترة الحرب الباردة وما بعدها، وهو ما يجعل تجربة الصين فريدة من نوعها، مقارنة بالعديد من القوى العظمى والإمبراطوريات التي مارست نفوذا في المنطقة عبر التاريخ، فهي تروج لمشاركة محايدة مع جميع البلدان -بما في ذلك التي تتعارض مع سياساتها- على أساس اتفاقات المنفعة المتبادلة.
ثالثا: تزداد أهمية التدخل الصيني مع انسحاب الولايات المتحدة من الشرق الأوسط، وتبني الرئيس الأمريكي دونالد ترامب رؤية «أمريكا أولا» الانعزالية، التي أدت إلى حالة من الفراغ الناتج عن افتقاد العالم لقيادة طرف دولي، ما دفع أد بكين إلى التصرف بشكل أكثر أريحية كقوة عظمى اقتصادية، فضلا عن العمل بشكل أكثر انسجاما مع الجهات الفاعلة الإقليمية الخارجية التقليدية.
وبحسب معدي التقرير فإن دوافع الصين من وراء هذا التدخل تتلخص في هدفين: أولهما، تأمين وصول تدفق مستدام للنفط والغاز الطبيعي، وهو أمر أساسي في دفع الصناعة الصينية، وبالتالي تحقيق النمو الاقتصادي. وثانيهما، مبادرة الحزام والطريق (BRI) للرئيس الصيني، «شي جين بينغ»؛ وهي استراتيجية تنمية عالمية طموحة تسعى إلى إنشاء طريق بحري لتجارة السلع والخدمات الصينية للسفر من آسيا، عبر إفريقيا وأوقيانوسيا، نحو أوروبا.
وبالنسبة للهدف الأول، برز الشرق الأوسط كسوق مرغوبة للتوغل الصيني بفضل موارده الوفيرة وقربه الجغرافي منها، حيث تمثل المنطقة اليوم أكثر من 40% من وارداتها من النفط، كما أن 7 من أكبر 15 دولة مصدرة للنفط إلى الصين من الشرق الأوسط. وتعد السعودية هي ثاني أكبر مورد بصادرات بلغ مجموعها 29.7 مليار دولار من النفط عام 2018، تليها العراق بصادرات بلغت 22.4 مليار دولار، فيما قدمت عمان 17.3 مليار دولار، وإيران 15.3 مليار دولار، والكويت 11.93 مليار دولار، والإمارات 6.73 مليارات دولار، وليبيا 4.73 مليارات دولار.
أما الهدف الثاني، «مبادرة الحزام والطريق»، فتبذل الصين جهودا كبيرة لتأمين الطرق البحرية والبرية لدول الشرق الأوسط التي من المتوقع أن تكون في نطاق المبادرة حتى تكون آمنة ومستقرة ومزدهرة، مثل إيران وسلطنة عمان والسعودية والإمارات ومصر؛ حيث تستثمر الشركات الصينية بكثافة لتعزيز الاقتصادات الإقليمية منذ الكشف عن الخطة عام 2013، وبشكل كبير ركزت الصين على البنية التحتية لهذه الدول، واستثمرت مليارات الدولارات في تطوير الموانئ مثل ميناء الدقم العُماني وميناء بورسعيد في مصر، وكذلك الطرق والسكك الحديدية والمطارات. على سبيل المثال، استثمرت في خط السكك الحديدية العالي السرعة الذي يربط جدة بمكة المكرمة والمدينة المنورة في السعودية. يقول «جون ألترمان»، من «مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية»: إن «استراتيجية الصين في الشرق الأوسط ليست استراتيجية إقليمية واحدة بقدر ما هي محفظة استثمارات وفق المصلحة الوطنية لكل بلد»، ويستنتج أيضا أن «الأدوار التي تؤديها في المنطقة تركز بشكل ضيق على العلاقات الاقتصادية، المدفوعة بالرغبة المزدوجة لتأمين واردات الطاقة، ولتمهيد الطريق لإنشاء الطرق البرية والبحرية في مبادرة الحزام والطريق منذ عام 2013». 
ومع ذلك، فقد ظل تواجد بكين الأمني في الشرق الأوسط محدودًا لعقود من الزمن، حيث اقتصر فقط على المبادرات التي تحمي مصالحها الاقتصادية مباشرة، والتي في الغالب كانت تتألف من قوات لمكافحة القرصنة والأمن البحري في بحر العرب وخليج عدن والمضايق البحرية، التي تستخدمها سفنها للعبور بشكل منتظم. ولعل التدخل الأقوى عسكريا بالنسبة للصين تمثل في عمليات الإنقاذ لإجلاء مواطنيها من البلدان التي اندلعت فيها الحروب الأهلية، مثل ليبيا عام 2011، واليمن عام 2015، وقد شهدت كلتا العمليتين استخدام سلاح الجو الصيني وسلاح البحرية التابع لجيش التحرير الشعبي. علاوة على ذلك شرعت الصين في بناء أول قاعدة عسكرية في الخارج بجيبوتي؛ في محاولة لتأمين حركة شحنها عبر باب المندب، وتزايدت التوقعات ببناء قاعدة مماثلة في مدينة جوادر الباكستانية على خليج العرب؛ من أجل توطيد الوجود البحري الصيني بالقرب من مضيق هرمز، إضافة إلى التدريبات الصينية المشتركة لأول مرة مع إيران وروسيا في بحر عمان وشمال المحيط الهندي. 
أما بالنسبة للجهود الدبلوماسية في حل نزاعات المنطقة، فهي توصف باعتبارها الحد الأدنى من الجهود، فعلى الرغم من كونها قدمت نفسها كقوة وساطة في كل من الحرب الأهلية اليمنية والسورية، وكأحد الموقعين الرئيسيين على خطة العمل الشاملة المشتركة -الاتفاق النووي- عام 2015؛ لكنّ مشاركاتها تتخذ شكل نهج يتسم بالحذر في حل النزاعات، حيث تريد أن تكون منخرطة في تلك العمليات ولكنها لا تلعب دورًا حاسما. وفي هذا الصدد، يقول «ديغانغ سون»، من «معهد الدراسات الدولية»، إن «مشاركة الصين في عمليات الوساطة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا غالبًا ما تكتفي باقتفاء أثر آخرين بدلاً من أن تقودهم، وتطرح أفكارا بناءة بدلا من تنفيذها، وتسعى إلى وقف التصعيد وليس التوجه بنفسها إلى الحل الشامل للحروب والنزاعات المعقدة الكامنة في المنطقة».
ويؤكد التقرير أنه على الرغم من تزايد الشكوك من قبل الباحثين والمحللين في مدى اهتمام الصين بزيادة تدخلاتها السياسية والعسكرية في الشرق الأوسط، واعتقادهم أنه نظرًا إلى دوافع الصين الاقتصادية التي تعطيها الأولوية في المقام الأول دون النظر إلى أي دوافع أيدولوجية أو عسكرية ضمن اهتماماتها، فإن مشاركتها السياسية والأمنية ستظل موجودة في المستقبل المنظور؛ ومع ذلك فإنه من الخطأ افتراض أن نهج بكين بلعب دورا رئيسيا في المنطقة هو أمر مستدام، حيث مازالت تمارس نهجا حذرا تجاه تدخلاتها في المنطقة.
ومع ذلك، ساق معدو التقرير حجتين رئيسيتين تجعل توقعهم بتغير نهج الصين الحذر تجاه المنطقة ممكنا، أولها، أن «لدى دول مجلس التعاون الخليجي مصلحة في تجنب الاعتماد المفرط على الولايات المتحدة، وبالتالي فإن هذه الدول باتت تعمل على مسارات متوازية من خلال تعزيز قدراتها العسكرية المستقلة وتنويع علاقاتها الاقتصادية والعسكرية بقوة مع لاعبين خارجيين رئيسيين، وتأتي الصين بقدراتها الاقتصادية والعسكرية الهائلة في طليعة اهتمامات دول مجلس التعاون، وبالتالي من المحتمل على المدى الطويل استضافة منشآت عسكرية صينية، بما في ذلك قواعد بحرية».
أما ثانيها، فيتمثل في ردة الفعل الصينية إذا ما تعرضت منشآتها الاقتصادية لأي أضرار أمنية كهجوم إرهابي أو دولي، ولا سيما مع تنامي وتشابك سلسلة علاقاتها بالمنطقة ذاتها، وهنا توضح «مها يحيى»، من «مركز كارنيجي»، أن «السؤال يبقى ليس ما إذا كانت بكين تريد حقا لعب دور رئيسي في المنطقة، ولكن متى يمكن لها أن تقرن قوتها الاقتصادية المتنامية بتأثيرات ومواقف سياسية علنية». وترى في الوقت ذاته أنه «إذا تعرضت أي من الأصول أو المنشآت العسكرية الصينية للهجوم على سبيل المثال، فستكون ملزمة مثلها مثل الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي والإمبراطوريات السابقة بالتدخل من أجل حماية استثماراتها والمحافظة على مكانتها، وبالتالي تجد نفسها في النهاية في صراعات وخلافات وتوترات أخرى مثلما هو الحال مع القوى الخارجية التي تحاول بسط هيمنتها على منطقة الشرق الأوسط برمتها.
على العموم، قدم التقرير دراسة متأنية للعوامل والمبررات الدافعة وراء تكثيف الوجود الصيني في الشرق الأوسط، وأثبت أن دورها المتغير يتسم بأهمية متزايدة من كيان اقتصادي إلى قوة لا يُستهان بها دبلوماسيًّا وعسكريًّا واقتصاديًّا، حتى باتت الصين الآن قوة عظمى صاعدة قادرة على ملء الفراغ الدبلوماسي والعسكري والاقتصادي، الذي خلفته واشنطن. وعلى الرغم من أن هذا الأمر لم يتحقق بعد، إلا أن هناك فرصًا واضحة لتصبح بكين القوة الخارجية البارزة في المنطقة خلال السنوات القادمة.

{ انتهى  }
bottom of page