26/10/2019
الاحتجاجات اللبنانية.. ودوافع «حزب الله» لدعم الحريري
اندلعت في لبنان يوم 16 أكتوبر سلسلة من الاحتجاجات الشعبية في معظم المدن الرئيسية، فيما يُعد أكبر مظاهرات تشهدها بيروت منذ 2005، إثر فشل الحكومة في إيجاد حلول للأزمة الاقتصادية التي بدأت منذ العام الماضي، بعد إعلان خطط حكومية لفرض المزيد من الضرائب على البنزين والتبغ، إضافة إلى استحداث ضريبة على استخدام تطبيقات المكالمات الهاتفية عبر الإنترنت مثل واتساب، ثم توسعت للتنديد بالطبقة السياسية كلها والمطالبة برحيل رموزها، والقضاء على الفساد والمحسوبية وسوء الإدارة، وإسقاط الحكومة الحالية المكونة من 30 عضوا، واستبدالها بحكومة أقل عددا مكونة من وزراء تكنوقراط.
وتأتي هذه المظاهرات استمرارا لسلسلة من الاحتجاجات التي شهدها لبنان في السنوات الأخيرة، مثل، «احتجاجات عام 2011»، التي طالبت بإصلاحات سياسية واقتصادية، و«احتجاجات النفايات» 2015، و«احتجاجات الضرائب عام 2017»، جراء خطط حكومية بإقرار زيادة ضريبية لتمويل رواتب العاملين بالقطاع العام.
ويعاني لبنان من أزمة اقتصادية فاقمها ارتفاع الدين العام إلى معدلات قياسية بالنسبة إلى حجم الاقتصاد، إذ بلغ حاليا حوالى 150% من إجمالي الناتج المحلي، وهو ما يعتبر من أعلى مستويات الدين العام في العالم، كما يشهد النمو الاقتصادي تراجعا على خلفية حالة عدم الاستقرار التي تشهدها المنطقة؛ إذ سجلت نسبة البطالة في الشباب حوالي 38%، كما يشهد لبنان عجزا في السيولة المالية نتيجة لقلة تدفقات رأس المال الذي يعتمد أساسا على التحويلات المالية التي يرسلها المغتربون، فيما زاد من حدة الأزمة ارتفاع سعر الدولار بعد عقود طويلة من الثبات، من 1500 ليرة إلى 1800 ليرة، ما أحدث هزة كبيرة في كل القطاعات الاقتصادية.
اللافت في الأمر أن هذه الاحتجاجات على الرغم من اتساع نطاقها فقد غابت عنها رايات الأحزاب والقوى السياسية، إذ تميزت بانعدام الطائفية التي طالما ميزت التحركات السياسية والشعبية في البلاد. يقول «نيكولاس فراكس» لـ«موقع المونيتور» إن «الاختلاف الرئيسي بين هذه الاحتجاجات وما سبقها هو عدم ربط الدين بالمظاهرات»، وهو أمر نادر في بلد يحدده نظام الدولة الطائفي ويرتبط الانتماء السياسي بالدين. وهو ما أكدته «صحيفة لوموند» الفرنسية، من أنه «خلال المظاهرات يتم سماع النشيد الوطني اللبناني تعبيرا عن الوحدة التي يعيشها اللبنانيون وهي وحدة تتجاوز الاختلافات الطائفية والفروقات الاجتماعية».
وبهدف تخفيف حدة الأزمة الاقتصادية قام رئيس الوزراء سعد الحريري، بتقديم ورقة مقترحات تضمنت 17 قرارًا إصلاحيا؛ منها إقرار موازنة عام 2020 بدون ضرائب جديدة، وخفض رواتب النواب والوزراء بنسبة50%، ومساهمة المصرف المركزي والمصارف اللبنانية بنحو 5 آلاف مليار ليرة، أي ما يعادل 3.3 مليارات دولار، كما أعلن خطة لخصخصة قطاع الاتصالات وإصلاح شامل لقطاع الكهرباء، وإلغاء الضرائب المفروضة على (الواتس آب).
وعلى الرغم من ذلك لم ترض «ورقة» الحريري الإصلاحية جموع المحتجين، الذين دعوا إلى استمرار الاحتجاجات ردا على الإصلاحات، التي وصفوها بـ«الواهية وغير الواقعية والفضفاضة». يقول «باسل صلوخ» في «صحيفة واشنطن بوست»: على الرغم من أن «الاقتصاد السياسي للطائفية في مرحلة ما بعد الحرب قد وصل إلى طريق مسدود، مازالت الحكومة تفضل الاستمرار في اللعب بأوراق الطائفية والفساد؛ للحفاظ على مصالحها السياسية والاقتصادية، بدلا من إصلاح النظام الحالي».
ووفقا للعديد من المحللين فإنه في حال أخفقت خطة الإصلاح التي قدمها الحريري في تهدئة المواطنين، فلن يبق أمامه من الخيارات إلا القليل، وخاصة بعد أن أمر زعيم حزب القوات اللبنانية «سمير جعجع» وزراء حزبه الأربعة بالاستقالة من الحكومة في 19 أكتوبر. يقول «عماد حرب» من «المركز العربي واشنطن دي سي»: «إذا لم تتحرك النخب لمعالجة الانجراف نحو مستقبل مجهول فقد تجد الدولة نفسها غير قادرة على الابتعاد عن حافة الأزمة»، وخاصة مع استنفاد الفرص المتاحة لمعالجة الظروف الاقتصادية التي تؤثر سلبا على بقاء النظام الطائفي.
غير أن ما يثير القلق بشكل خاص هو دور «حزب الله» الذي يعد من أقوى الفصائل السياسية في البلاد، والذي يركز على دعم نفوذ الحكومة الوطنية، بصفته أكبر وأقوى مشارك بها. وبرغم من التأييد العريض الذي يتمتع به ولا سيما بين الشيعة في الجنوب -على عكس المظاهرات السابقة- لم ينج الحزب من غضب المحتجين هذه المرة، وخاصة بعدما قيل من إن مليشياته أطلقت النار على المتظاهرين في المدن الجنوبية مثل صور، الأمر الذي زاد من حدة المعارضة للحزب على نطاق واسع.
وسلطت «لين نويهض» و«دانا خريش» في تقرير لـ«وكالة بلومبرج» الضوء على أنه في حين أن «حزب الله وحلفاءه عارضوا دفع الحريري لفرض الضرائب واتخاذ تدابير أخرى، فإن الحزب أدان دعوات المحتجين إلى حل الحكومة»، مؤكدين أنه: «إذا استقالت الحكومة فلن يكون لدينا أخرى جديدة مدة عام أو عامين، لندعها تستمر لكن بروح جديدة، وتأخذ العبرة مما جرى من غضب شعبي».
وللوهلة الأولى، يبدو موقف «حسن نصر الله» مفاجئا؛ إذ رجح كثير من المحللين منذ فترة طويلة أن انهيار الحكومة اللبنانية سيكون ذا فائدة كبيرة لحزب الله. ومن المفترض أنه في ظل هذه الظروف سيستغل تفوقه العسكري لتولي السيطرة الكاملة على الدولة؛ ومن ثم تعزيز قوته بشكل كبير. لكن في الوقت الحاضر، ربما يدرك أن هذه الغاية غير واقعية إلى حد بعيد؛ لارتباطاته في سوريا والعراق، ما سيجعله مرهقا في سبيل السعي للحفاظ على السيطرة الكاملة على لبنان.
وعلاوة على ذلك، هناك احتمالات كبيرة بأن يُثير هذا التطور حال حدوثه ردود فعل دولية. ويوضح «مارتن جاي» في موقع «تي ار تي وورلد» أن: «هذا بحد ذاته يجعل لبنان عرضة للهجوم الإسرائيلي والدخول في أزمة مع واشنطن التي يمكن أن تؤدي إلى سوء تقدير من ترامب وعواقب لا يمكن تصورها لكل من لبنان والمنطقة»، مؤكدا أن «نهج حزب الله للسيطرة دائمًا يتميز بالسرية والتريث وبحسابات دقيقة». وللأسباب السالفة الذكر فإن «الفوضى لن تتناسب مع هذا الموقف، عزز من ذلك أنه حتى قيادات الحزب ترى أنه في المناطق التي يسيطرون عليها يحتج الناس من أجل التغيير».
وإلى جانب المخاطر المحتملة التي يمثلها انهيار الحكومة يمتلك حزب الله عددا من الدوافع لدعم الوضع الراهن في لبنان. فمثل كل الأطراف المشاركة في الحكومة الوطنية يستفيد من مشاركته في شؤون الدولة، وكذلك التربح من خلال انتشار الفساد والمحسوبية. تقول «مهى يحيَى» من «مركز كارنيجي»: «إن القيادة السياسية تجنبت منذ فترة طويلة القيام بإصلاح جاد من شأنه أن يقوض استغلالها لموارد الدولة المالية والسعي لفرض ضرائب على المواطنين العاديين». وهو ذات نهج حزب الله؛ ومن ثم فهو يتفانى لدعم الحكومة الحالية على الرغم من الاحتجاجات، وخاصة مع القدرة التي يتمتع بها الحزب في الوصول المباشر إلى المقومات الاقتصادية للدولة على وجه الخصوص في الوقت الحاضر؛ نظرا إلى أن مصدر التمويل الآخر (إيران) يواجه صعوبات اقتصادية، بسبب العقوبات الأمريكية، ونتيجة لذلك تقلصت التزاماته المالية تجاه وكلائه في الخارج، ومنهم حزب الله، تاركة الحزب يُصارع بتمويل أقل بكثير.
يؤكد «ماردو سوغوم» في «إذاعة أوروبا الحرة» أن «السبب الحقيقي وراء دعوة الحزب إلى إنقاذ الحكومة هو أنه بعد ما يقرب من عقدين من الزمان نجحت جهود حزب الله في أن يصبح طرفا رئيسيا في المعادلة السياسية بلبنان، والآن، ليس لديه رغبة في المخاطرة بمكاسبه، ولا سيما مع الضعف الاقتصادي الذي تعاني منه إيران بحيث لا تساعد حزب الله ماديا في ظل حالة المتاهة السياسية الطائفية في لبنان».
على العموم، من الواضح أن الوضع الحالي متقلب، وفي حال ما أصبح المحتجون أكثر حزما؛ فمن المحتمل أن يلجأ حزب الله إلى استخدام قدراته العسكرية القسرية لقمع المظاهرات بالعنف. ومع ذلك، إذا لم يتم تشكيل حكومة وطنية جديدة فإن سيطرة حزب الله على الدولة ستظل أمرا متوقعا وهو ما من شأنه أن يتسبب في زعزعة الاستقرار، ليس في لبنان فحسب، بل في مناطق أخرى في الشرق الأوسط.