29/1/2019
مستقبل سوريا بين تحولات السياسة الأمريكية والفوضى الإقليمية
تزايدت في الآونة الأخيرة التحليلات حول مستقبل الحرب الأهلية السورية في ظل إعلان أمريكا في ديسمبر 2018 أنها ستغادر سوريا في وقت لاحق من عام 2019. وهو ما جاء خلافا لتوقعات العديد من المحللين والأكاديميين والمعلقين، والذين بدأوا يناقشون التحديات المحتملة لهذه الخطوة التحويلية في السياسة الأمريكية على مسار هذه الحرب، في ظل بروز منافسين خارجيين للتأثير الأمريكي في المنطقة، وأثر ذلك على العلاقات السورية الخليجية في المستقبل.
وكاستجابة مباشرة، لهذه التحديات، عقد «المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية»، بلندن، ندوة يوم 21/1/2019؛ لمناقشة التأثير المحتمل للانسحاب الأمريكي من سوريا، تحدث فيها «إميل حكيم» وترأس الندوة، الدكتورة «كوري شاكي» الخبيرة في شؤون السياسة الخارجية الأمريكية، وكبير الباحثين بـالمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، وحضرها لفيف من الأكاديميين والدبلوماسيين والإعلاميين، والمهتمين بموضوع الندوة.
في البداية، ذكرت «كوري شاكي» أنه على الرغم من أن الانسحاب الأمريكي ربما كان متوقعًا، لعدة أسباب منها؛ أن ترامب يعتبر تدخل الولايات المتحدة في العديد من دول المنطقة بمثابة استنزاف للموارد في ظل مبادئ أجندته «أمريكا أولاً» فضلا عن أن واشنطن لديها بالفعل قوات قريبة من المنطقة، وأن عدد القوات المزمع سحبها، والمقدرة بـ«2300» جندي مهامهم لوجستية وليست قتالية، كما أن دعم واشنطن للأكراد في الشمال السوري كان مؤقتًا للضغط على تركيا وعلى الجيشين السوري والروسي للحصول على تنازلات. ومع ذلك، كان التركيز الأهم من وجهة نظر «شاكي» على أن خطوة الانسحاب والتحول الأمريكي المفاجئ؛ سيتيح بدوره الطريق أمام القوى المحركة للحرب الأهلية في سوريا لترسيخ وجودها العسكري، وسيطرة الجهات الدولية الفاعلة، مثل؛ روسيا، وتركيا، وإيران على المشهد السوري.
فعلى الرغم من خلافاتهم، إلا أن كلا منهم سيستفيد من قرار ترامب بسحب قواته على نحو ملموس. فبالنسبة إلى تركيا، أصبح الطريق متاحا أمامها لاستئناف ملاحقتها للأكراد في سوريا؛ وستتمكن إيران الآن من السير نحو مزيد من توطيد الوضع العسكري والسياسي في البلاد؛ وستصنف روسيا في ظل هذا الوضع أقوى جهة خارجية، ما يمنحها الفرصة لفرض سيطرتها على الاتجاه نحو إتمام عملية المصالحة وإعادة الإعمار في سوريا.
وانطلاقا من هذا، ناقشت «شاكي» التحول الأبرز بين دول الخليج نحو إعادة العلاقات الودية مع سوريا. وكانت هذه العملية، قد بدأت تسير بشكل تدريجي، لكنها دخلت مرحلة الجدية عقب إعلان ترامب سحب قواته من سوريا في ديسمبر الماضي. وأثارت هذه الخطوة الجدل بين دول مجلس التعاون الخليجي، حيث وضعت على عاتق نظام بشار الأسد وحده مهمة تقرير مصير سوريا، بدلاً من تركها فريسة للثوار منذ عام 2011. عزز من ذلك ما ذكره «حسين إبيش»، من «معهد دول الخليج العربية» في واشنطن، من أن «الدول التي لم تتورط في هذا الصراع مثل دول الخليج العربي، أدركت الآن حاجتها إلى السعي نحو استخدام جميع الوسائل السياسية، والدبلوماسية والاقتصادية، بدلاً من السعي نحو التأثير على نتيجة الصراع المحتدم الذي حُسم في الواقع بانتصار نظام الأسد في حلب في يناير 2017. وقد تجلى هذا الإدراك في أواخر ديسمبر 2018 حين كشفت الإمارات العربية المتحدة عن نيتها إعادة فتح سفارتها في دمشق وهي خطوة تبعها إعلان الكويت وكذلك البحرين عن نيتهما اتخاذ نفس هذه الخطوة».
ولا تعد سيطرة الأسد على سوريا، العامل الوحيد الذي يدفع دول مجلس التعاون إلى إعادة تشكيل نهجه تجاه سوريا، إذ توجد عوامل أخرى من شأنها أن تسهم في هذا الوضع وفقًا لما اقترحه المتحدثون. وربما يكمن أبرز هذه العوامل في المصالح الأمنية والاقتصادية المباشرة التي يمكن إتاحتها لدول الخليج، من خلال الشروع في عقد مصالحة مع الحكومة السورية. وستسمح الأخيرة، من خلال إعادة سيطرتها على الأراضي السورية، بمزيد من التراجع في المنظمات الجهادية وعلى رأسها تنظيم «داعش» الذي قويت شوكته في البلاد منذ عام 2011. وكذلك الجماعات المعارضة، مثل «جبهة النصرة»، التي تُشكل تهديدًا مباشرًا لدول الخليج على المستوى الأمني والأيديولوجي. ووفقا لما أوضحه «جورجيو كافييرو» في صحيفة «وول ستريت جورنال»، فإن «الاهتمام بالمصالح الاقتصادية يقف جنبًا إلى جنب مع السعي نحو الترتيبات الأمنية». ومن المتوقع أن تتطلب هذه العمليات استثمار ما يقارب الـ400 مليار دولار كمساعدات أو كديون وذلك في سبيل إعادة الاقتصاد السوري إلى المستويات التي كان عليها قبل بدء الحرب، وسوف تُتاح عقود إعادة الإعمار مبالغ ضخمة للمطورين الدوليين لإعادة تشييد البنية التحتية والصناعة التي دُمرت في الحرب، وستُنفذ هذه العقود عن طريق توفير سوق مربحة للدول التي تمتلك القدرة على استثمار قدر كبير من إيراداتها. ويبدو أن دول الخليج هي المستثمر الأكثر ملاءمة من حلفاء سوريا المقربين مثل روسيا وإيران، حيث بوسعها أن تأخذ على عاتقها مهمة تنفيذ هذا المشروع المحتمل «إعادة الإعمار». وبالفعل أوضح «كافييرو»، أن «أبو ظبي»، تعتقد أن إعادة العلاقات إلى شكلها الطبيعي مع النظام السوري هو السبيل الوحيد لاستقطاب الاستثمارات الخليجية، وخاصة أنها المرشح الرئيسي للاستثمار في عملية إعادة الإعمار.
ولعل ما يضاعف من قابلية إعادة تقارب دول الخليج مع سوريا؛ عنصرا الدعم والتشجيع اللذين تقدمهما كل من روسيا والولايات المتحدة لاستئناف هذا التقارب، حيث يوضح «رضوان زيادة»، من «المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات»، أن «مصالح موسكو تبدو في تسهيل المصالحة السورية العربية واضحة»، بل يُنظر إليها في الغالب على أنها مكون أساسي للاستقرار بالنسبة إلى الحكومة السورية.
وعلى الرغم من أن الدول الخليجية لا تتكل بأي شكل من الأشكال على روسيا، إلا أن «شاكي» ترى أن دول الخليج يحركها فكر مُشابه قائم على أن تطبيع العلاقات مع الأسد سيساعد في تعزيز التعاون الروسي-الخليجي في مجالات مثل سياسة الطاقة والمبادرات الأمنية. وعلى الرغم من مُعارضة الولايات المُتحدة لنظام الأسد، إلا أن واشنطن تعمل على تشجيع الاستثمار الخليجي في سوريا مع اقتراب الحرب من نهايتها. وهو ما بدا جليا مع تغريدة الرئيس الأمريكي ترامب في 24 ديسمبر 2018، والذي أعرب فيها عن ترحيبه بموافقة السعودية على المساعدة في إعادة إعمار سوريا، بدلا من الولايات المتحدة». وعلى الرغم من أنه لم يتم الوفاء بهذا الوعد بعد، إلا أنه يجسد رغبة الإدارة الأمريكية بالاستمرار في هذه السياسة، وهو ما يحركه بالكامل تقريبًا فرضية أن تزايد الوجود الخليجي في سوريا سوف يعمل على إضعاف موقف إيران القوي هناك.
ويُمكن القول، إن هذه الرغبة المشتركة للحد من تغلغل النفوذ الإيراني في سوريا، تُمثل أهم الاعتبارات الجيوستراتيجية التي تشجع على مواصلة الاستثمار الخليجي المتزايد والتعاون في سوريا. وفي الوقت الحاضر، ومع دخول الحرب مراحلها النهائية، يبدو أن طهران، بمساعدة قواتها في سوريا بالوكالة وقوات حرسها الثوري، ستحاول التحكم في مرحلة إعادة الإعمار من أجل إجبار الحكومة السورية على أن تُفسح لها مكانا؛ ومن ثم ضمان مُشاركتها في صنع القرار داخل سوريا مستقبليا. ومن أجل الوقوف أمام المد الإيراني، والذي يجري بالفعل في جميع أنحاء المنطقة في دول مثل اليمن ولبنان، فإن البعض يتوقع مثل «حسين إبيش» من «معهد دول الخليج العربية» في واشنطن، بأنه من المُرجح أن دول الخليج «ستحاول استنساخ النجاح النسبي الذي حققته في العراق والذي قوض إلى حد ما الهيمنة الإيرانية هناك، من أجل التركيز على إعادة دمج سوريا في النطاق العربي الإقليمي والتأكيد على هويتها وتراثها العربي.
وبغض النظر عن العوامل المحفزة التي تشير إلى أن دول الخليج ستصعد قريبا من درجة تقاربها مع النظام السوري؛ فإن «إميل حكيم» كان مصرًا على عدم المبالغة في مدى سعي دول مجلس التعاون الخليجي إلى إشراك نفسها في عمليات إعادة الإعمار والمصالحة السورية على حد سواء، مرجعا أسباب ذلك إلى التركيز المستمر لمعظم أعضاء المجلس الرئيسيين، بما في ذلك الإمارات والسعودية والبحرين، على نقطة مشاركتهم في التحالف القائم لدعم الشرعية في اليمن. وعلى الرغم من أن الوجود الإيراني في سوريا يثير قلق الدول الخليجية، نظرًا إلى ما يمثله من تعزيز لمكانة إيران الجيوستراتيجية، إلا أن هذا الوجود لا يزال أقل أهمية وأقل إثارة للمخاوف بالنسبة إلى هذه الدول بالمقارنة بالمخاوف الأخرى التي تعزز الوجود الإيراني في اليمن من خلال تقديم طهران المزيد من الدعم للمتمردين الحوثيين. ولعل التقارب الجغرافي لليمن مع دول الخليج، وخاصة السعودية التي تشترك معها حدوديا، سمح لإيران بتهديد هذه الدول من خلال تزويد عملائها بالوكالة بالصواريخ البالستية وغيرها من المعدات العسكرية الأخرى، وهذا ما جعل العمل على إنهاء الأزمة اليمنية في البلاد أولوية قصوى أكثر من الحرب الأهلية الأكثر بعدًا في الأراضي السورية. وكما يؤكد «حكيم» فإنه من غير المحتمل أن تسعى دول مجلس التعاون الخليجي لتكريس مزيد من الموارد الدبلوماسية أو السياسية أو العسكرية لإعادة الإعمار في سوريا قبل إنهاء الحرب الأهلية في اليمن.
على العموم، فإنه على الرغم من أهمية ما تم تناوله في الندوة من قضايا حول أدوار القوى الخارجية وأهدافها وما قد تلقي بظلالها على المستقبل السوري، إلا أن النقاش حول هذا الموضوع لم يقدم رؤى جديدة عما قُدم من قبل، وتم تغطيته بشكل واسع، وهو ما قوض القوة التحليلية للندوة بشكل عام. غير أنه يمكن الجزم أن الدراسة المستفيضة للدور الخليجي ومدى ديناميكيته في المراحل النهائية للحرب الأهلية السورية؛ كانت أكثر العناصر إثارة للاهتمام، وخاصة أنها لا تحظى بالكثير من الاهتمام في الوقت الحالي. ومع ذلك، قد يشهد هذا الدور حالة من احتمالات التحول والتغير على المدى الطويل.