top of page
4/2/2019

آفـاق السوق النفطي عام 2019

في سعيها لتحقيق التوازن في السوق النفطي الفوري العالمي، بعد أن اختل هذا التوازن في نهاية 2018، مسجلاً هبوطًا في الأسعار بنحو الثلث، عقب بلوغها ذروة ارتفاعها في أكتوبر 2018 (82 دولارًا للبرميل)، أقرت منظمة الدول المصدرة للنفط «أوبك» في ديسمبر الماضي، في اجتماعها رقم 175 في فيينا، وبالاتفاق مع كبار المنتجين من خارجها، خفضًا في الإنتاج بمقدار 1.2 مليون برميل يوميًّا مدة 6 شهور، اعتبارًا من يناير 2019. قابلة للتجديد، ويتوزع هذا الخفض بين 800 ألف برميل على الأوبك، و400 ألف برميل على المنتجين خارجها، وبالفعل خفضت أوبك إنتاجها في نفس الشهر بمقدار 600 ألف برميل يوميًّا، فيما خفضت روسيا إنتاجها بمقدار 230 ألف برميل يوميًّا، وفور إعلان خفض الإنتاج زادت أسعار خام برنت فعلاً إلى 62 دولارًا للبرميل.
واتجهت سياسة الطاقة في المملكة العربية السعودية، التي تتربع على عرش احتياطي وإنتاج وصادرات النفط العالمي، إلى رفع المستهدف من إنتاج الطاقة المتجددة إلى 60 ميجا وات بحلول 2030. وهو ما يوقف زحف الاستهلاك المحلي على إنتاج النفط ومن ثم صادراته، ويحافظ على مكانة السعودية كصاحبة الدور الأكبر عالميًّا في السوق النفطي، وفي نفس الوقت ترددت أنباء عن إشارات إلى وجود فرص لتوسع الإنتاج النفطي في منطقة الخليج، وذلك بعد توقيع شركة إيني الإيطالية مذكرة تفاهم في 13 يناير 2019 مع مملكة البحرين لاستكشاف النفط والغاز، بعد أن وقعت اتفاقا طويل الأجل مع إمارة الشارقة للغرض ذاته.
وتحقيق التوازن في السوق النفطي ليس في مصلحة الدول النفطية وحدها، وكثيرًا ما ينظر البعض نظرة قصيرة إلى اختلال التوازن، ويراه في صالحه، حين تنخفض أسعار النفط، متجاهلاً أثر هذا الانخفاض على الدول التي يعتمد اقتصادها بشكل أساسي على إنتاج النفط وتصديره، حيث يؤثر ذلك على معدل النمو الاقتصادي في هذه الدول وقدرتها على مد يد العون للآخرين، بل قدرتها على توفير فرص العمل للملايين من أبناء الدول المصدرة للعمالة، والتي يعتمد اقتصادها بدرجات كبيرة على تحويلات هؤلاء العاملين، وحين تنخفض أسعار النفط تضطر الدول المنتجة إلى السحب من أرصدتها الخارجية التي تعمل في اقتصادات الدول المتقدمة، فتتأثر السيولة في هذه الاقتصادات، كما أنه حين تنخفض الأسعار يحدث تكالب على التخزين، الذي يستخدم حين ترتفع الأسعار، ويصبح من ثم عاملاً مؤثرًا في سوق النفط العالمي، ونشير هنا على سبيل المثال إلى أن فائض المخزون التجاري من النفط لدى منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية كان قد سجل بحلول يوليو 2016 نحو 403 ملايين برميل أعلى من متوسطه إثر انخفاض سعر سلة الأوبك المرجعية بنسبة 80% بين يونيو 2014 ويناير 2016. وكما رأينا إثر توقيع العقوبات الأمريكية على إيران، فقد كان من المتوقع أن يؤدي حرمان إيران من تصدير نفطها إلى ارتفاع الأسعار، إلا أنها لم ترتفع بسبب إسهامات المخزون في المعروض النفطي.
وفي المجمل فإنه ليس من المصلحة انخفاض أسعار النفط، حيث إن ذلك يجعل الدول المنتجة للنفط تجمد استثماراتها، وتحرم الاقتصاد العالمي من فرص هذا الاستثمار، فقد تسببت الأسعار المنخفضة منذ يونيو 2014 في تجميد استثمارات لدى دول الأوبك بأكثر من تريليون دولار، ويُظهِر هذا أن قرار الأوبك السابق الإشارة إليه، يعكس دور النفط في تحفيز النمو الاقتصادي وتحقيق التنمية المستدامة وتحسين سبل معيشة ملايين البشر في جميع أنحاء العالم، كما أن انخفاض أسعار النفط أيضًا يشكل حافزًا سلبيًّا لشركات النفط، فلا تُقبِل على الاستثمار في البحث والتنقيب، وتستغني عن العمالة التي توظفها في هذا الشأن، حيث قُدِّر عدد الوظائف التي استغنت عنها الشركات النفطية منذ انخفاض يونيو 2014 بنحو 1.5 مليون شخص، فضلاً عن إفلاس عدد من هذه الشركات.
كان انخفاض أسعار النفط إحدى النتائج الرئيسية للأزمة المالية العالمية 2008. وتفاعلات هذه الأزمة في إحداث حالة من الركود الممتد على المستوى العالمي، طالت الاقتصادات النامية الكبرى المعتمدة على تصدير السلع الأساسية، وإذا وجدت أوبك أن هناك دولاً منتجة كبيرة للنفط ليست من أعضائها، فإن أي سياسة نفطية حتى تكون فعالة، لا بد لها من تعاون هؤلاء المنتجين، فكثفت مشاوراتها مع هؤلاء المنتجين، حتى أثمرت في 2016 إعلان التعاون الذي يجمع 25 دولة منتجة، على رأسها السعودية وروسيا. بعد تجاوز الإمدادات النفطية العالمية للطلب على النفط، وبات التعاون مسألة ضرورية لاستعادة السوق توازنه، وهو ما بان أثره في 2017 و2018 إذ أخذت المسافة بين المعروض النفطي والطلب عليه تضيق، بالتزامن مع بدء انتعاش الاقتصاد العالمي، وامتد هذا التعاون بين المنتجين الكبار إلى حوار مع كبار المستهلكين، خصوصًا الاتحاد الأوروبي والصين والهند، بشأن دور توازن السوق النفطي في إحداث الانتعاش الاقتصادي. وتشير التوقعات إثر قرار أوبك خفض الإنتاج، وبرغم انخفاض الأسعار، إلى تحسن حالة السوق النفطي، فقد زادت شركات الطاقة الأمريكية عدد الحفارات النشطة ليصل عددها إلى 883 حفارا في 21 ديسمبر 2018، بعد أن أضافت 10 حفارات جديدة، وهو مؤشر يعني توقع هذه الشركات تحسنًا في الأسعار في 2019 على الرغم من الهبوط الذي حدث في ديسمبر 2018. ويأتي هذا التوقع متماشيا مع توقع وكالة الطاقة الدولية أن يصل استهلاك النفط العالمي إلى 100 مليون برميل يوميًّا (تسهم أوبك بأكثر من ثلثه) وقدرت الوكالة نمو الطلب في 2019 بواحد ونصف مليون برميل يوميًّا، وهو ما يسهم في تحسن الأسعار، وسرعة عودة التوازن إلى السوق النفطي، خاصة مع تفعيل العقوبات ضد إيران، وفي ظل استمرار تعطل الإنتاج في بعض المناطق كفنزويلا وليبيا، ولكن الوكالة ربطت آفاق هذا التوقع بمعدل تحسن أداء الأسواق الناشئة، خاصة الصين والهند، والتراجع في الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، التي شهدت فرض رسوم جمركية متبادلة على واردات كل منهما من الآخر، ما أدى إلى اضطراب أسواق الأسهم، في الوقت الذي تسبب ارتفاع سعر الدولار مقابل عدد من عملات الدول النامية في ارتفاع كلفة استيراد النفط لدى هذه الدول، وهو ما قد يؤثر على طلبها.
وكما توقعت شركات الطاقة الأمريكية ووكالة الطاقة الدولية ارتفاع أسعار النفط 2019. أكد بنك مورجان ستانلي الأمريكي، في تقريره، أن خفض الإنتاج الذي تقرر في ديسمبر 2018 كاف لموازنة السوق في النصف الأول لعام 2019. والحيلولة دون ارتفاع المخزونات، مع توقعه أن يبلغ سعر خام برنت 67.5 دولارا للبرميل بحلول الربع الثاني لعام 2019، كما يعزز هذا التوقع ما شهده شهر يناير 2019 من انخفاض صادرات النفط الإيراني بفعل العقوبات الأمريكية، على الرغم من الاستثناءات التي منحتها الإدارة الأمريكية لبعض مشتري هذا النفط، ويعززه أيضًا كون الأسعار المرتفعة محفزًا لمنتجي النفط الصخري الأمريكي عالي الكلفة، وهو اتجاه تحرص عليه الإدارة الأمريكية، بعد أن بلغ إنتاج الولايات المتحدة النفطي أكثر من 11.6 مليون برميل يوميًّا، ما يضعها في مصاف كبار المنتجين مع السعودية وروسيا، وقد كان في إمكان الإدارة الأمريكية الضغط على الأسعار إذا ما استخدمت مخزونها النفطي الكبير الذي يبلغ نحو 432 مليون برميل.
هناك عوامل إذن تدفع أسعار النفط في 2019 إلى أعلى، في مقدمتها خفض الإنتاج السابق الإشارة إليه، والعقوبات الأمريكية على إيران، وتعطل الإنتاج في مناطق رئيسية كفنزويلا وليبيا، وسياسة الطاقة الأمريكية الداعمة لزيادة إنتاج النفط الصخري الأمريكي.
 كما أن هناك عوامل أخرى تقود الأسعار في 2019 إلى أسفل، في مقدمتها تباطؤ النشاط الاقتصادي لدى الدول المستوردة الرئيسية، وتأثير الحرب التجارية القائمة بين الولايات المتحدة والصين، وارتفاع سعر العملة الأمريكية مقابل عملات عدد من الدول النامية وارتفاع سعر الفائدة على الدولار الأمريكي، فإلى أين تميل الكفة؟ أم أن التقلب في الأسعار صعودًا وهبوطًا بفعل المضاربات وبفعل هاتين المجموعتين من العوامل، سيكون السمة الغالبة على آفاق السوق النفطي في 2019 كما كان في 2018؟
وفي الوقت الذي خفض فيه كثير من المحللين والباحثين والمراكز البحثية والمصارف (مصرف سوسيتيه جنرال الفرنسي وجولد مان ساكس الأمريكي)، توقعاتهم لسوق النفط العالمي في 2019. على خلفية حالة النشاط الاقتصادي والمخزونات العالمية من النفط، فإن من بين هؤلاء مَنْ توقع تحسن السوق النفطي، على خلفية المؤشرات الأساسية من عرض وطلب، وفي مقدمتها خفض الإنتاج، وتفعيل العقوبات الأمريكية على إيران، وتحسن الأداء الاقتصادي للاقتصادات الكبرى، وفي كل الأحوال تظل التوقعات مرتبطة بعوامل أخرى، بعضها خارج سيطرة المنتجين.
ولكن يبدو أن الاتجاه الأرجح على مدى العام هو تحسن الأسعار، خاصة مع ما تشهده المباحثات الأمريكية الصينية، من تناول لموضوع الحرب التجارية، والرغبة المشتركة في تهدئتها، بعدما أيقنت الإدارة الأمريكية أن أضرارها على الاقتصاد الأمريكي والاستثمارات الأمريكية أكثر من المنافع التي سعت إليها، بالإضافة إلى ما تدركه هذه الإدارة من أن استمرار انخفاض أسعار النفط يلحق ضررًا باتجاهها الاستراتيجي نحو زيادة إنتاج النفط الصخري، ومع ما يترتب على تحسن الأسعار من فتح الأبواب للمستثمرين في المشروعات الكبرى في الدول المنتجة للنفط، وهي المشروعات التي جمدتها بسبب هبوط أسعار النفط، ويؤكد هذا الاتجاه لارتفاع أسعار النفط، الزيادة التي تحققت بنسبة 1.5% يوم الاثنين 7 يناير 2019. مدفوعة بمؤشرات تفاؤل بشأن محادثات تُعقَد يمكن أن تُنهي الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، وبدء تأثير خفض الإنتاج النفطي.
عمومًا، في كل الأحوال تتأكد أهمية التوجه الاستراتيجي للدول النفطية العربية، وفي مقدمتها دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، نحو تنويع مصادر دخلها، وتحررها من الاعتماد المطلق على النفط، وربط ميزانيتها العامة ومشروعاتها التنموية الضخمة بتحسن أسعاره وزيادة العائد منه، وإذا كانت الفوائد الكبرى التي جنتها هذه الدول من ثرواتها النفطية، وأبرزها التحديث الشامل لبنيتها الأساسية، حتى صارت تضارع مثيلتها في الدول المتقدمة، والارتقاء في سلم التنمية البشرية، حتى صارت في مقدمة دول العالم في هذه التنمية، إلا أنه في كل الأحوال فإن النفط مورد ناضب غير متجدد، يقصر عمره أو يطول من بلد إلى آخر بحسب كمية الاحتياطي، ومعدلات السحب من هذا الاحتياطي، لتقبل بعدها إلى عصر ما بعد النفط، وهو ما يجب الإعداد له بالجدية المطلوبة، الأمر الذي توجهت إليه الرؤى الاستراتيجية لهذه الدول 2030. والتي تمضي بثبات في خلق وتعزيز المصادر الموازية والبديلة للدخل، ولديها بتعاونها معًا العديد من الفرص، في الصناعة والخدمات والاستثمارات الخارجية والزراعة، بل إنها كما استطاعت أن تظل عقودا مركز العالم في الطاقة التقليدية يمكنها أن تكون مستقبلاً مركزه أيضًا في الطاقة المتجددة.

 

{ انتهى  }
bottom of page