top of page
9/2/2019

الخيارات البريطانية المتاحة بشأن خطة الانسحاب من الاتحاد الأوروبي

في الخامس عشر من يناير، مُنيت تيريزا ماي، رئيسة الوزراء البريطانية، بخسارة كبيرة في مجلس العموم، بعد رفض اتفاق انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي «اتفاق بريكست»، والذي مثّل الصيغة النهائية بعد أشهر من المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي؛ حيث صوّت أعضاء مجلس العموم من مختلف الأحزاب بـ432 صوتًا على رفض الاتفاق مقابل 202 صوت، لتُمثل أكبر هزيمة برلمانية لحكومة بريطانية في تاريخ المملكة الحديث، وعلى النقيض ففي اليوم التالي، رفض مجلس العموم التصويت على حجب الثقة عن حكومة ماي، الذي دعت إليه المعارضة، بتصويت 325 مقابل 306.
     إذن تواصل «ماي» قيادة اتفاق خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، فيما يقترب الموعد النهائي المُحدد في 29 مارس للانسحاب من الاتحاد، ليزداد تشابك المشهد، حيث لا توجد فسحة من الوقت أمام الحكومة للتوصل إلى اتفاق بديل لتقديمه إلى مجلس العموم يُنهى حالة التردد تجاه وضع الخروج البريطاني في الوقت الحالي، ما يثير تساؤلات المحللين حول شكل وإطار العلاقات المستقبلية مع الاتحاد الأوروبي.
      ففي الوقت الحالي، يبدو أن بريطانيا تتجه إما لتدشين علاقة وثيقة مع الاتحاد الأوروبي، ولكن خارج إطاره، ما أصبح يعرف باسم «النموذج النرويجي»، أو بدلا من ذلك، تتخلى بريطانيا نهائيًّا عن علاقتها الرسمية بالدور الأوروبي بشكل مطلق.
    ففي الوقت الذي يرى فيه محللون أن النموذج النرويجي هو الأفضل، إلا أن طبيعة المنافسة بين الأحزاب البريطانية باختلاف توجهاتها لتحقيق مصالح مُتباينة تطرح خيارات أخرى، فعلى الرغم من الرفض الساحق لخُطة ماى في مجلس العموم، إلا أن الكثيرين يعتقدون أن ماي ستسعى إلى العودة إلى البرلمان قبل الموعد النهائي للانسحاب، يوم 29 مارس 2019، بعد تغيير بعض ما جاء به من بنود لم تلق تأييدًا شعبيًّا، أو تضيف إليه بعض الحلول؛ لكسب أصوات النواب، ومن ذلك إضافة بعض البنود المتعلقة بضمان المعايير البيئية للاتحاد الأوروبي، أو مبادرات الاستثمار لديه، ما قد يطرح سيناريوهات أخرى.
    وعلى أي حال، يبقى وضع أيرلندا الشمالية واتفاق المساندة معضلة كبرى، وهو المبدأ الذي يضمن استمرار الوضع الحالي في أيرلندا الشمالية حتى بعد خروج بريطانيا من الاتحاد، حيث يبقيها ضمن القوانين الجمركية الأوروبية المعمول بها، وأوضح بيتر ووكر، مُحلل السياسات البريطانية في صحيفة «الجارديان»، هذه المشكلة قائلا: إن «الخيار الحالي لماي، هو استغلال الخسارة الثقيلة التي مُنيت بها في مجلس العموم للعودة إلى بروكسل، للحصول على تنازل آخر، من أجل عدم إلغاء مبدأ المُساندة لأيرلندا»، ومع ذلك، تكمن المشكلة الرئيسية في أن التغييرات المقترحة هنا -سواء في ضوء مد فترة التفاوض للتوصل إلى اتفاق، أو الانسحاب بصورة أحادية من دون اتفاق- رفضها الاتحاد الأوروبي ومجلس العموم نهائيًّا.
     هذا الرفض الأوروبي لمحاولات ماي إزالة البنود التي لم تلق تأييدًا سيجعل من المستحيل عليها إقناع معارضيها الرئيسيين، والمشككين في الاتحاد الأوروبي داخل حزبها، والذين يصل عددهم إلى 60 نائبًا، مع أعضاء الحزب الوحدوي الديمقراطي، بالتصويت لصالح اتفاق المساعدة؛ ما يجعل من المستحيل عمليًّا تمريره عبر مجلس العموم، وهو ما أكده جون سبرينجفورد، نائب مدير «مركز الإصلاح الأوروبي»، وهو معهد أبحاث مقره لندن، في صحيفة نيويورك تايمز.
     ما سبق يجعل فكرة سعي بريطانيا إلى الحصول على صفقة على «النموذج النرويجي» مع الاتحاد الأوروبي الاختيار الأفضل، فبالنسبة للعديد من المُحللين، فإن النتيجة المحتملة لعدم النجاح في الوصول لاتفاق قبيل تاريخ الانسحاب في مارس، هي لجوء بريطانيا إلى الانضمام لمنظمة التجارة الحرة الأوروبية (افتا)، إلى جانب كل من آيسلندا وليختنشتاين وسويسرا. وكونها عضوًا في منظمة التجارة الحرة الأوروبية سيُسمح للبلاد بالبقاء على نحو وثيق مع الاتحاد الأوروبي، ولكن بمنأى عن بعض قوانينه التي لا تحظى بشعبية على المستوى المحلي، مثل محكمة العدل الأوروبية، بينما تبقى خاضعة لقواعد الاتحاد الأوروبي في مجالات أخرى، مثل الاتحاد الجمركي والسوق الموحدة، دون مشاركتها في صنع القرار.
     كذلك بالنسبة للشعب والنواب وحتى الوزراء، يوفر النموذج النرويجي، أفضل حل وسط بين كل من الراغبين في الرحيل والمفضلين للبقاء داخل الاتحاد الأوروبي، وهو الذي وصفته كاميلا كافنديش، زميلة في كلية كينيدي بجامعة هارفارد، في مقال رأي لها بصحيفة «فاينانشيال تايمز»، بقولها: «يُوفر هذا النهج حالة من الأمن الاقتصادي.. وحلا لقضية الحدود الأيرلندية أيضا».
     وقال جيمس فورسيث، المُحرر السياسي لمجلة «ذا سبكتاتور»: «إن أعضاء الحكومة مثل فيليب هاموند، وزير الخزانة، وجيريمي هانت، وزير الخارجية، يرون أن الفرصة سانحة لترويج الأفكار التي حاربوا من أجلها دون جدوى في مجلس الوزراء، مثل الاتحاد الجمركي، على طاولة المفاوضات بالنحو الذي يمثله النموذج النرويجي».
     هذا الخيار يفضله الاتحاد الأوروبي كأساس جيد للمفاوضات القادمة. ومع ذلك، لا يمكن الفصل بين شعبية هذا السيناريو وضيق الوقت، في ضوء قرب انتهاء الإطار الزمني الحالي الذي سيتم فيه إجراء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بحلول 29 مارس القادم.
     فبنظرة أكثر شمولا يتضح أن هناك خيارات أخرى يفضلها أعضاء مجلس العموم لتمديد فترة التفاوض، من أجل النظر مليًّا في وضع ملامح للعلاقات البريطانية المستقبلية مع الدول الأوروبية، هذا التمديد يظل خيارًا مفضلا من قِبَل فصيلين يريدان نتيجتين مختلفتين في نهاية المطاف:
     الفصيل الأول يرى إمكانية تمديد المادة 50 من معاهدة لشبونة، والتي تعني تأجيل الخروج مؤقتًا، وتمديد فترة التفاوض إلى أجل غير مسمى، من أجل التوصل إلى اتفاق أفضل مع الاتحاد الأوروبي، وسيسمح تحقيق هذا الهدف ببناء علاقة أكثر شمولا مع الاتحاد الأوروبي على مدى فترة زمنية أطول. «قد يوافق الاتحاد الأوروبي على التمديد عندما تكون هناك أهداف تفاوضية جديدة واضحة». ومع ذلك، فإن مثل هذه النتيجة «تبدو غير مرجحة في الوقت الحالي»، حيث يُنظر إليها كطريقة ملتوية لوقف خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، من ناحية، فيما يتطلب مثل هذا التمديد موافقة بالإجماع من أعضاء الاتحاد الأوروبي الـ27 من ناحية أخرى.
     أما الفصيل الثاني فيرغب في أن تدعو الحكومة مجددًا إلى إجراء استفتاء ثانٍ بشأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي يتطلب تمديد مهلة التفاوض بطبيعة الأمر، وهو ما يلقى قبولا من معارضي خروج بريطانيا من الاتحاد، وهم: الحزب الاسكتلندي الوطني، حزب بلايد سامرو، وحزب الخضر، وحزب «الديمقراطيون الأحرار»، و«المتمردون المحافظون»، وحزب العمال وأنصارهم.
     وهو ما يرجحه جيل رتر، مدير البرامج في «إنستيوت فور جفرنمينت»، مركز أبحاث بريطاني، قائلا: «إذا لم يتمكن البرلمان من إيجاد توافق في الآراء حول التوصل لى نتيجة مرضية، مع رغبة كل من رئيس الوزراء والحكومة في تجنب الخروج من دون اتفاق، فقد يضطرون إلى استفتاء آخر».
     ولكن مثل هذه النتيجة لن تؤدي إلى حل جذري، بل من المرجح أن تحافظ على الوضع الراهن، وهو بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، في ظل تزايد تأييد خيار البقاء حتى منذ ظهور نتائج الاستفتاء عام 2016، وتدرك «ماي» جيدًا أن «الاستفتاء الثاني ستعقبه مجموعة أخرى من الضغوط»، كإظهار الانقسام بين المؤيدين والرافضين، أو ترجيح عدم القبول الشعبي.
     يبقى خيار أخير أكثر واقعية رغم مساوئه، وهو الخروج من دون اتفاق، خاصة إذا كان هناك عدم قبول أي اتفاق من قِبَل مجلس العموم، وفي هذه الحالة، ستغادر بريطانيا من دون أي اتفاقات دبلوماسية أو اقتصادية أو أمنية أو سياسية، وهو ما قد يخلق حالة من الفوضى في إجراءات التنقل والسفر والتجارة والشؤون المصرفية، وغيرها من القطاعات المشتركة مع الدول الأوروبية الأخرى. ولعل القطاع الذي سيكون الأكثر ضررًا من ذلك كله هو التجارة البريطانية الأوروبية.
     ويوضح جيمس فورسيث، في ذا سبكتاتور البريطانية، هذا الأمر قائلا: «ماي تعلم جيدًا أن التهديد الأكبر لبقائها في رئاسة الوزراء مرتبط جديًّا بالخروج دون اتفاق، خاصة أنها لا تتمتع بالشعبية من قِبَل الشعب ونوابه». وأضاف «قد يجبر هذا الاحتمال، وهو الخروج دون اتفاق، عددًا كافيًا من المتمردين المحافظين على التصويت مع حزب العمال لسحب الثقة من ماي».
      إذا رغبة «ماي» بالاستمرار بمنصبها تعني أنها ستحرص على عدم المخاطرة بالمغادرة دون صفقة، ولكنها ستواجه معضلة هي أن خيار المغادرة من دون اتفاق قد يكون نتيجة حتمية، في ضوء رفض مجلس العموم تمرير أي اتفاق في الوقت الراهن. ويلاحظ بارت أوسترفيلد، مدير برنامج الأعمال والاقتصاد العالمي التابع للمجلس الأطلسي، أنه «في ضوء انعدام وجود اتفاق تفاوضي واضح المعالم للخروج من الاتحاد، والذي بإمكان مجلس العموم تمريره، فضلا عن ضيق الوقت المتاح لتشكيل اتفاق موحد، وعدم وجود فرصة لإجراء انتخابات برلمانية جديدة، يبدو أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي من دون اتفاق في نهاية مارس أمر محتمل»، وهو ما سيكون له بالغ الضرر على علاقة بريطانيا بدول الاتحاد الأوروبي.
     ونختم، تنبأ دوجلاس أي. ريديكيراس الزميل غير المقيم في مؤسسة بروكينجز، في يناير 2018، بأن المزيج القوي ما بين ضعف اتفاق الخروج الذي تقترحه ماي، والانقسامات الآيديولوجية داخل مجلس العموم حوله، والضغط الشعبي من قِبَل الراغبين في بقاء أو مغادرة بريطانيا للاتحاد، سيجعل الحكومة البريطانية أمام خيارين: إما تبني النموذج النرويجي كخيار أفضل، أو المضي قُدُمًا من دون اتفاق. 
النموذج النرويجي لا يمكن تحقيقه إلا من خلال اعتماده من قِبَل الحكومة وسرعة تفاوضها مع الاتحاد لإنهاء الأمر، وستكون هذه النتيجة، هي السيناريو الأقل ضررًا في علاقة بريطانيا بدول الاتحاد؛ إذ إنها ستظل متوائمة وخاضعة للقواعد التجارية الأوروبية. 
     وفى ضوء ما سبق، فإن الخيار الأكثر احتمالا هو مغادرة بريطانيا الاتحاد الأوروبي من دون اتفاق، وهو ما من شأنه أن يدمر علاقة بريطانيا مع الدول الأوروبية، وبدء حالة من عدم التعاون في مجالات، مثل التجارة ومكافحة الإرهاب والمشروعات الثقافية المشتركة، وغيرها. 

 

{ انتهى  }
bottom of page