14/2/2019
منتدى دافوس الاقتصادي العالمي 2019.. هل ضلّ الطريق؟
انطلق منتدى الاقتصاد العالمي «دافوس» في دورته الـ49، والمنعقد بسويسرا في الفترة من22 - 25 يناير لهذا العام، بمشاركة نحو 3000 شخص يمثلون 114 دولة، من كبار الشخصيات في مجالات الأعمال والسياسة والمال والإعلام. ورغم أنه جمع العديد من رؤساء الدول والحكومات فيما يشبه قمة عالمية غير مسبوقة، إلا أن المنتدى العالمي لم يعد له البريق الذي ميزه لما يقرب من ثلاثة عقود بعد تأسيسه عام 1971.
ويعد «دافوس» أحد أهم الأحداث الاقتصادية العالمية التي تشهدها سويسرا سنويا، ويأتي بهدف توفير منصة يمكن من خلالها مناقشة الأفكار والسياسات والمبادرات وتنفيذها على أمل «تحسين الأوضاع الاقتصادية والسياسية بالعالم من خلال إشراك الرواد في قطاعات الأعمال والسياسة والقيادات الأكاديمية، وغيرهم من قادة المجتمع، بالإضافة إلى شركات دولية عابرة للقارات، وممثلي المنظمات غير الحكومية لتشكيل الأجندات العالمية والإقليمية، ولتكوين تصورات مشتركة معهم حول القضايا الأساسية المطروحة على جدول الأعمال في كل عام، ويستمر هذا الاجتماع خمسة أيام تشمل انعقاد ندوات ومحاضرات واجتماعات بين المشاركين. ومنذ 2004 أخذ يطلق سنويا تقرير التنافسية العالمية الذي يرتب دول العالم وفقًا لمؤشرات هذه التنافسية».
وعلى الرغم من أن المنتدى حضره العديد من الشخصيات السياسية البارزة، أمثال الرئيس الياباني «شينزو آبي ن»، والمستشارة الألمانية «أنجيلا ميركل»، والرئيس البرازيلي «جايير بولسونارو»، والهولندي «مارك روته»، فإن البريق الذي أخذه انعقاد المنتدى العام الماضي قد غاب عنه العام الحالي، ففي العام الماضي حضر الرئيس الأمريكي، «ترامب» الذي كان أول رئيس أمريكي يحضره منذ عام 2000. وأطلق خلاله خطابه الرافض لمبادئ الليبرالية الاقتصادية والعولمة، وإعلانه القومية والحمائية والانعزالية، وهي المبادئ التي تعني ضرب أساس المنتدى.
وكما غاب «ترامب» غاب الرئيس الصيني «شي جن بنج» ورئيس روسيا «فلاديمير بوتين» ورئيس وزراء الهند، «ناريندرا مودي»، ورئيسة الوزراء البريطانية «تريزا ماي» ورئيس فرنسا «إيمانويل ماكرون»، فضلاً عن غياب الشخصيات الأكثر تأثيرًا في الموارد المالية والأعمال ونجوم السينما وكبار الفنانين، ما كان مؤشرًا لضعف الاهتمام العالمي الذي كان سمة أساسية لانعقاد هذا المنتدى.
ولعل السبب الثاني لضعف بريق منتدى هذا العام مقارنة بسابقيه هو ضعف اهتمامه بالأحداث الاقتصادية التي عادة ما تكون الموضوع الرئيسي الذي تتجه إليه الأنظار رغم وجود الكثير من هذه الأحداث كـالنزاع التجاري بين الولايات المتحدة والصين، وما يحمله من توترات جيوسياسية، والتأثير المحتمل لأزمة فنزويلا على سوق النفط العالمي، وإشكالية الاستثمار في الدول النامية.
ورغم حالة الركود الاقتصادي التي تهيمن على الاقتصاد العالمي، وتمثل مصدر قلق كبير لقادة الاقتصاد والأعمال حول العالم؛ فإن المنتدى بدلاً من ذلك أعطى الأولوية لقضايا معتادة كـ«الصحة النفسية» التي كانت محور حديث الأمير البريطاني «وليم» ورئيسة وزراء نيوزيلندا «جاسندا ارديرن»، و«التطورات التكنولوجية» التي تناولها رئيس الوزراء الياباني «شينزو أبي»، والمستشارة الألمانية «انجيلا ميركل» التي أكدت أيضًا أنه لا غنى عن التعددية من أجل تنمية مزدهرة للعالم، ودعت إلى إصلاح صندوق النقد الدولي والبنك الدولي بما يتماشى مع التوازن الجديد للقوى في العالم.
ولما كانت الرعاية الصحية أحد محاور النقاش الرئيسية في دافوس 2019، وأفردت لها لجنة خاصة ترأستها رئيسة وزراء نيوزيلندا السابقة «جيلين كينارا»، فقد استعرضت نموذج مجموعة «إن إم إس» للرعاية الصحية التي تتخذ من أبوظبي مقرًا لها، وأصبحت أكبر مشغل للرعاية الصحية في دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية حيث تبنى هذا النموذج أفضل الممارسات العالمية، ويقوم على تعزيز وبناء القدرات والتوسع الجغرافي وإرضاء المرضى.
وكان هناك سبب ثالث أيضًا لضعف بريق منتدى هذا العام، وهو غياب الاهتمام بقضايا الشرق الأوسط، برغم تعدد هذه القضايا، واتصالها بقضايا الاقتصاد والأعمال، سواء من حيث تمدد أنشطة الجماعات الإرهابية، وتأثيراتها الأمنية، أو تمدد النفوذ الإيراني في المنطقة، وسلوك إيران المهدد لاستقرار وأمن المنطقة والسلام والأمن الدوليين؛ ما كان سببًا في فرض العقوبات الاقتصادية الأمريكية على طهران، والاختلاف الأوروبي الأمريكي بشأنها، وتأثيرات هذه العقوبات على السوق النفطي، وأسواق العملات الأجنبية، أو الأزمات المركبة في هذه المنطقة كالأزمة السورية والأزمة الليبية والأزمة اليمنية، وكلها لم تعد أزمات محلية، بل غدت تشغل المجتمع الدولي والدول الكبرى والأمم المتحدة، وتأخذ الكثير من اهتماماتها.
ورغم حضور شخصيات شرق أوسطية بارزة منتدى هذا العام، كالملك عبدالله الثاني ملك الأردن، ورئيس وزراء تونس «يوسف الشاهد»، وسعد الحريري رئيس الوزراء اللبناني، والشيخ خالد بن أحمد آل خليفة وزير الخارجية البحريني، ومولود جاويش أوغلو وزير الخارجية التركي، ووفد سعودي كبير على رأسه وزراء الاقتصاد والمالية والخارجية، فإن قضايا الشرق الأوسط سالفة الذكر، لم تحظ باهتمام المنتدى، وأسفر الحضور القوي للمملكة العربية السعودية عن استعادة المكانة السعودية بين نخبة رجال الأعمال والنخبة السياسية الدولية، كقوة اقتصادية وسياسية محورية على المستويين الإقليمي والدولي، واستعادة روابطها الوثيقة مع الدول الغربية واللاعبين العالميين الآخرين.
أما القضية الرئيسية التي سيطرت على اهتمام المنتدى هذا العام، فكانت قضية «تغير المناخ» حيث تسببت العواصف المدمرة خلال السنوات الأخيرة في خسائر مالية كبيرة، وكبّدت شركة المرافق في كاليفورنيا مليارات الدولارات في الدعاوى المُتعلقة بحرائق الغابات»، ما تسبب في إعادة النظر بين العديد من الحاضرين في دافوس في قضايا ارتفاع درجات الحرارة، وتقلبات الطقس وتناقص التنوع البيولوجي والنتائج الأخرى لتغير المناخ الجديرة بالنظر.
وبحسب رؤية حذرة للمنتدى، فإن العالم يفتقر إلى المحاولات الجماعية للتصدي للمخاطر العالمية الناتجة عن تغير المناخ. وينظر إلى قضايا تغير المناخ، والفشل في التخفيف منه، أو التكيف معه على أنها أخطر التهديدات التي تواجه العالم على مدى السنوات العشر القادمة، بحسب المسح الذي أجراه المنتدى على المشاركين فيه، حول أهم المخاطر التي تواجه العالم، وتلا ذلك «الكوارث الطبيعية» ثم «سرقة البيانات»، ثم «الهجمات السيبرانية»، ثم «الكوارث البيئية» من صناعة الإنسان، ثم «الهجرة الإجبارية واسعة النطاق»، ثم فقدان التنوع البيولوجي وانهيار النظام البيئي، ثم أزمات المياه، ثم فقاعة الأصول؛ أي أسعار الأصول المبالغ فيها.
ومن المعلوم أن تغير المناخ، الموضوع الرئيسي الذي سيطر على اهتمامات دافوس 2019. هو موضوع انشغال العالم كله، حتى عقد اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة تغير المناخ في 22 ديسمبر 1989. وأخذت الأمم المتحدة تعقد له مؤتمرًا سنويا، منذ اجتماع برلين 1995 لتنفيذ ومتابعة تنفيذ هذه الاتفاقية، وكذلك «اتفاقية كيوتو» ذات الصلة التي بدأت في عام 2005. وفي غياب حضور رؤساء الدول الصناعية الكبرى المعنية أكثر بإجراءات وحلول هذه القضية، ومع وجود ساحة أخرى لمناقشتها، وهي الأمم المتحدة التي تملك آليات الإلزام لتنفيذ قراراتها، فإن تصدر قضية المناخ أعمال دافوس 2019 كان في غير موضعه.
وإذا كان الأمر كذلك، فإن عنوان المؤتمر «العولمة في طورها الرابع»، كان يقتضى لتفعيله التغلب على حالة عدم اليقين التي تسود السياسة والاقتصاد في العالم، وعبر عنها غياب كبار قادة العالم عن المنتدى، كما أن موقف الرئيس ترامب الذي عبر عنه في دافوس 2018 وموقفه من منظمة التجارة العالمية، ومن حرية التجارة، يبين أن العولمة، قد باتت تسير في طريق مسدود، ويطرح المنتدى هذا العام مرحلة جديدة في تطور العولمة، في ظرف تُعرض فيه الإدارة التي قادت تحول العالم إلى العولمة عن هذه العولمة، فكيف يمكن إذن الحديث عن نظام عالمي جديد من دونها، ومن دون التعاون الدولي الذي أصبح غائبًا، في حين أصبحت الشعبوية والحمائية والتحديات الخطرة أمام حركة التجارة العالمية، تجعل العالم يقف أمام مفترق طرق التنمية مرة أخرى.
وفي تفسير مهندسي العنوان في المنتدى، فإن العولمة (1) تشير إلى المرحلة قبيل الحرب العالمية الأولى مع ظهور القطارات والسفن البخارية، أما العولمة (2) فتشير إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية حين تشكلت الأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ثم منظمة التجارة العالمية، والعولمة (3)، جاءت حين تحرر انتقال التجارة ورأس المال عبر الحدود، أما الثورة الصناعية الرابعة، فتعني ظهور تقنيات جديدة، كالذكاء الصناعي، والروبوت، والسيارات من دون سائق.
وكان «منتدى دافوس» قد أصدر قبل افتتاح المؤتمر تقرير المخاطر العالمية 2019. حذر فيه من الاتجاه المعاكس لليبرالية الاقتصادية الذي اتخذته الولايات المتحدة بفرضها رسوما جمركية على الاقتصادات الرئيسية العالمية، ما يعتبر مصدرًا للاحتكاكات التجارية وعدم اليقين الذي يسود المناخ الاقتصادي الدولي، ويهيمن على مستقبل هذا الاقتصاد، كما أنه عشية افتتاح المنتدى أصدر صندوق النقد الدولي توقعاته لنمو الاقتصاد العالمي في 2019. حيث خفض هذه التوقعات إلى 3.5%، وهو المعدل الأقل في 3 سنوات. وقبل عامين كان الرئيس الصيني لدى حضوره المنتدى قد أكد أن العالم لا يحتاج فقط إلى العولمة، ولكنه يحتاج إلى بناء مفهوم المصير المشترك للبشرية، لهذا كان من المتوقع أن تسيطر معالجات الركود القائم على أعمال هذا المنتدى، باعتباره أمرًا يتعلق مباشرة باهتمام ليس فقط الشركات المؤسسة والأعضاء في المنتدى، ولكن اهتمام دول العالم كله التي تضررت من هذه الوضع، وفي مقدمتها دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية التي تسببت حالة الركود هذه في انهيار أسعار النفط الذي تعتمد عليه اقتصاداتها واقتصادات منطقة الشرق الأوسط كلها.
على العموم، مما لا شك فيه أن «دافوس 2019»، شهد بعض الاجتماعات المهمة؛ إلا أنه من المستحيل استنتاج أنه قد حقق أهدافه المتمثلة في تقويض زيادة النزعة القومية والحمائية وتداعيات العولمة في ظل وجود مؤتمر قمة يغلب عليه سمات النيوليبرالية الغربية التي تتبناها النخب السياسية العالمية. ومن ثمّ يتساءل كثيرون هل يمكن لهذا المنتدى أن يحقق أحلام ملايين البشر وطموحاتهم في مناطق مختلفة من العالم؟ خصوصا أنه لا يخرج ببيان ختامي أو بقرارات ملزمة.