top of page
23/02/2023
المسؤولية الاجتماعية للقطاع الخاص الخليجي
في عام 2000 أصدرت "الأمم المتحدة"، الميثاق العالمي للمسؤولية الاجتماعية، والذي حث جميع الدول على تشجيع الشركات لإعلاء مساهمتها في التنمية الاجتماعية. وفي رؤاها الاقتصادية لبناء مجتمع الغد، أفسحت دول الخليج النشاط الاقتصادي للقطاع الخاص، على أن تقوم الحكومات بالدور التنظيمي لهذا النشاط، كما أطلقت شراكة استراتيجية مع القطاع الخاص في العديد من المجالات.
وفي إدراك من دول الخليج لأهمية هذه القضية، قامت بتوفير البنى التحتية اللازمة، والمدن الصناعية، والمناطق الحرة، والطاقة، وسهولة القيام بالأعمال، وتحرير المجالات التي كان دور القطاع الخاص فيها محدودًا، والتوسع في التعليم الفني والتدريب، والإعفاءات الضريبية، والتشريعات المستقرة، والسياسات المالية والنقدية والاقتصادية المحفزة، وأعطته الدور الأكبر في المشتريات وعقود الأعمال الحكومية، وأبرمت اتفاقات منع الازدواج الضريبي، وتشجيع وحماية الاستثمارات المتبادلة، والتعاون الاقتصادي والتجاري مع العديد من دول العالم.
علاوة على ذلك، جعلت هذه الدول من أهداف سياستها الخارجية والدبلوماسية الاقتصادية، تعزيز دور القطاع الخاص والترويج لفرصه التصديرية، سواء عبر مجالس الأعمال أو اللجان المشتركة، أو جهود سفاراتها في الخارج. فيما جعلت كل الدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي ساحة لنشاطه، متجهة إلى التبني الكامل للمواطنة الاقتصادية الخليجية. وفضلاً عن البنى التحتية المعززة لهذه المواطنة -كجسر الملك فهد بين البحرين والسعودية، والربط الكهربائي بين دول المجلس، ومشروع السكة الحديدية الخليجية- تأتي النظم الموحدة، التي أصدرها مجلس التعاون، المسهلة لتنمية التجارة البينية والمشروعات المشتركة بين شركات القطاع الخاص في دوله.
ومع استحواذ القطاع الخاص على النشاط الاقتصادي، بنسب تتفاوت من دولة إلى أخرى، تبدو أهمية المسؤولية الاجتماعية لهذا القطاع، سواء في قيامه بهذا النشاط، أو توظيف عائداته. وفيما يبدو الالتزام الضريبي أحد أهم أوجه هذه المسؤولية في الدول المتقدمة؛ فإنه في مقابل ما يتمتع به القطاع الخاص الخليجي من إعفاءات ضريبية، وفي مقابل توفير التكلفة في كل ما سبق الحديث عنه؛ تعلو المسؤولية الاجتماعية لهذا القطاع، حيث غدت "ضرورية"، خاصة بعد أن أخذت الموازنات العامة لدول الخليج تنوء بما تحمله من أعباء إنفاق دولة الرفاه.
وتعني "المسؤولية الاجتماعية"، مسؤولية القطاع الخاص تجاه المجتمع، خاصة الذي نشأ فيه، ونمت فيه مؤسساته، وهو سوقه الأول، ومصدر دخله الرئيسي. وتُترجم هذه المسؤولية بأبعادها في أرقام، في موازنة شركات القطاع الخاص. وتعزيزًا لهذه المسؤولية، تقوم بعض الحكومات بخصم هذه الأرقام من الوعاء الضريبي.
وتتعدد أولويات المسؤولية الاجتماعية، بحسب حاجة المجتمع، فقد تكون الأولوية خفض الانبعاثات الكربونية، أو الحد من التلوث البيئي عامة، أو ترشيد استخدام المياه والطاقة، أو توفير إسكان للعاملين في القطاع الخاص بالقرب من أماكن عملهم، أو بناء وإدارة مدارس قريبة لهم، أو تمهيد الطرق الموصلة للعمل، أو توفير وسائل نقل جماعي لأبناء العاملين، أو قد تقوم الشركات بإقامة مراكز تدريب لتأهيل الشباب للعمل فيها، أو بناء دور للعبادة، أو مراكز وأندية رياضية واجتماعية. وقد تكون الأولوية تعظيم الصادرات، أو استخدام المكونات المحلية، ورفع نسبتها في المنتج النهائي، أو تشغيل المعاقين وإدماجهم في المجتمع، أو تخفيض نسبة الأمية، وغيرها من الأمثلة التي تقع في نطاق البعد الاجتماعي.
وبهذا المعنى، فإن المسؤولية الاجتماعية للقطاع الخاص لا تقتصر فقط على أنشطة العمل الخيري، حيث ترتبط بأهداف مجتمعية تسعى إليها الدولة، وعليه، فقد خرجت من الاختيار غير الإلزامي، إلى المجال الإلزامي، خاصة مع تبني الدولة في سياستها الوطنية التنموية "أهدافًا كبرى"، فمثلا مع تبنيها قضية "التغير المناخي"، كهدف قومي، لتقليل الانبعاثات الكربونية بنسبة معينة في تاريخ معين؛ فإن كل شركة خاصة تلتزم بجزء من هذا الهدف، وتجري متابعته والمحاسبة عليه من قبل سلطات الدولة. وحين تتبنى هدف "تعميق التصنيع" -أي رفع نسبة المكونات المحلية في المنتج النهائي لكل صناعة- فإن كل شركة تلتزم بشراء احتياجاتها من هذه المكونات، ولا تقوم باستيرادها. وإذا كان الهدف العام "تخفيض نسبة البطالة"، فهنا تلتزم كل شركة بأولوية تشغيل العمالة الوطنية؛ ولهذا الغرض تصدر الحكومات قوانين أو لوائح أو توجيهات تجري متابعة الالتزام بها.
ولأن دول الخليج قد غدت -شأنها شأن باقي دول العالم- ملتزمة بتحقيق أهداف التنمية المستدامة بحلول عام 2030، وإذا كان القطاع الخاص بها هو الذي يقوم بالنشاط الاقتصادي، فإنه طبقًا لمبدأ المسؤولية الاجتماعية يتحمل دوره في تحقيق هذه الأهداف، وإذا كانت قيم التكافل الاجتماعي والرعاية الاجتماعية من القيم الراسخة في هذه الدول، فإن هذا يساعد كثيرًا في تأطير وتنظيم العمل بالمسؤولية الاجتماعية لشركات القطاع الخاص.
وتطبيقًا لهذا المفهوم، نشير هنا إلى مدى تعاون شركات القطاع الخاص في مملكة البحرين، حين وضعت الدولة حدًا أدنى لأجور العمالة الوطنية من حاملي الشهادات الجامعية أو المتوسطة، وحين تبنت جعل العمالة الوطنية، خيارًا مفضلاً لدى التشغيل في هذه الشركات، كما نشير إلى قيام وزارة الصناعة والتجارة عبر إدارة المواصفات والمقاييس، بتشكيل لجنة فنية لدراسة مشروع المواصفة الدولية للمسؤولية الاجتماعية (ISO 26000)، تجاوبًا مع أعلنته المنظمة الدولية للمعايير (أيزو)، وتتضمن المواصفة "دليلاً إرشاديًا"، لمبادئ المسؤولية والشراكة الاجتماعية داخل المنشآت بأنواعها.
وبالمثل، قامت "الإمارات"، بتأسيس أكاديمية الإمارات للمسؤولية الاجتماعية، وبناءً على قرار مجلس الوزراء رقم (2) لسنة 2018، تم إنشاء الصندوق الوطني للمسؤولية الاجتماعية للشركات، كجهاز اتحادي يعني بوضع الإطار التنظيمي لهذه المسؤولية وتوثيقها وإدارتها، كما برزت في "السعودية"، العديد من نماذج وبرامج المسؤولية الاجتماعية، التي تقوم بها الشركات، من خلال أقسام وإدارات متخصصة في مجالات عمل المسؤولية الاجتماعية. فيما وضعت "الكويت"، استراتيجية دعم وطني لمزيد من الانتشار لمبادئ المسؤولية الاجتماعية للشركات في البلاد. وفي عام 2018، صدر النظام الموحد لمد الحماية الاجتماعية لمواطني دول مجلس التعاون الخليجي العاملين في غير دولهم، في أي دولة عضو في المجلس، محققًا أحد جوانب المسؤولية الاجتماعية التي تلتزم بها شركات القطاع الخاص في دول المجلس.
وانعكاسًا لهذا النهج، تبرز أمثلة عديدة في جوانب المسؤولية الاجتماعية لشركات القطاع الخاص في دول المجلس، نذكر منها قيام شركة "المراعي"، السعودية بتخصيص جائزة باسم الشركة للإبداع العلمي، وللتفوق الدراسي لطلبة التعليم العام بدول الخليج، وأخرى للطب البيطري. وقيام "مصرف الراجحي"، بالشراكة مع وزارة الصحة، بإنشاء مركز القسطرة القلبية ضمن مستشفى الرس العام، وإنشاء مركز للعلاج الطبيعي والعلاج الوظيفي ومكافحة التدخين ضمن مستشفى طريف العام. وفي البحرين، نجد أن مجموعة شركات "يوسف كانو"، التي تأسست عام 1890، وتعد من أقدم التكتلات التجارية على المستوى الخليجي، قد ضربت أمثلة عديدة في الالتزام بالمسؤولية الاجتماعية، وأقامت سلسلة من المشروعات، امتدت من المراكز الصحية والعلاجية، إلى المساجد ومراكز تعليم القرآن وتدريس علومه، وقاعات للمناسبات، والمدارس.
ومن نفس المنطلق، نجد الشركات الإماراتية، مثل "موانئ دبي العالمية"، و"ماجد الفطيم"، و"مجموعة شلهوب"، تبرز المسؤولية الاجتماعية في أنشطتها، وتنظر إليها باعتبارها قيمة مضافة، وليست تكلفة. وفي الكويت، يعد مفهوم المسؤولية الاجتماعية لدى القطاع الخاص، التزامًا يدعم التنمية الوطنية المستدامة ورقي المجتمع، حيث تمثل قاعدة رئيسية من قواعد حوكمة الشركات الخاضعة لرقابة هيئة سوق المال، ويتوجب على الشركات تخصيص نسبة من أرباحها لدعم الخدمات والمشروعات الاجتماعية في البلاد. أما في سلطنة عُمان، فقد برز دور شركة "أوكتال" الرائدة في صناعة مواد التعبئة والتغليف في التصدي لجائحة كورونا، وإمداد المجتمع ومؤسساته بمستلزمات الوقاية.
ومع تعدد مبادرات قيام القطاع الخاص الخليجي بجوانب المسؤولية الاجتماعية، يوضح "البنك الدولي"، أن المسؤولية الاجتماعية للشركات في أمريكا الشمالية وأوروبا، قد أصبحت عملاً مؤسسيًا إلى حد كبير، بينما الوضع في الشرق الأوسط وفي دول الخليج يحتاج إلى هذه المأسسة، حيث لاتزال الشركات تنظر إلى هذه المسؤولية، كوسيلة لتحسين صورتها العامة، وليس كالتزام أو مشاركة بحكم القانون في التنمية الاجتماعية والمستدامة، برغم تعدد توصيات العديد من المؤتمرات في دول الخليج التي ناقشت هذا الأمر، من بينها "مؤتمر الخليج الدولي للمسؤولية الاجتماعية والتنمية المستدامة"، الذي عقد في البحرين يوم 15 نوفمبر2021.
ورغم أن دول الخليج تأتي في مقدمة دول الشرق الأوسط في تبني ممارسات المسؤولية الاجتماعية للشركات في التقرير السنوي للمسؤولية الاجتماعية للشركات، الذي تصدره "المجموعة الدولية للأبحاث وتحليل البيانات"، بالتعاون مع وكالة "سيسيروف للعلاقات العامة"؛ فإن أوجه القصور في هذا المنحى الاجتماعي، قد يرجع إلى عوائق وتحديات الحوكمة للشركات في السوق الخليجي، حيث إن معظم الشركات "عائلية"، وتوظف أكثر من 80% من القوى العاملة في دول الخليج. وتؤدي هذه الحوكمة إلى إقرار المسؤولية الاجتماعية كبند رئيسي في عمل الشركة، متوجهة نحو الأهداف التي تضعها السياسات الحكومية في هذا الشأن.
على العموم، تبدو الحاجة قائمة إلى اقتفاء أثر أفضل الممارسات في المسؤولية الاجتماعية، وما وصلت إليه في هذا الشأن، سواء باستراتيجية خليجية موحدة أو نظم موحدة، أو أدلة إرشادية؛ لأن القطاع الخاص سيصبح مسؤولاً عن العديد من وظائف دولة الرفاهة، التي تتبناها الحكومات الخليجية، والتي يقع عليها دور كبير في مساعدة شركات القطاع الخاص على مأسسة مفهوم المسؤولية الاجتماعية، وأولوياتها، التي تختلف من بلد إلى آخر. فمثلا نجد أن "الاتحاد الأوروبي"، يشجع قيام نوع من الشراكة بين الحكومات والقطاع الخاص في إعمال مبدأ المسؤولية الاجتماعية، باعتبار ذلك أحد أهم طرق تحقيق النمو المستدام، ومواجهة التحديات الاقتصادية، كما أصبحت الشركات الخاصة الكبيرة في "الولايات المتحدة"، كشركة فورد أو جنرال إليكتريك، تضع لنفسها معايير خاصة لقياس مدى نجاحها في تطبيق برامج المسؤولية الاجتماعية محليًا وعالميًا.
ليبقى السؤال هنا، هل نستطيع من التجارب الخليجية، ومن الخبرة الدولية أن نضع معيارًا خليجيًا لأفضل الممارسات، ويصبح معيار النجاح هو مدى تنفيذ القطاع الخاص الخليجي لبرامج التنمية الاجتماعية في كل دولة، أو برامج الحماية البيئية، أو غيرها من مجالات المسؤولية الاجتماعية التي تحددها، هذا هو ما يتوقعه المواطن الخليجي مع تغير مسؤولية القيام بالنشاط الاقتصادي من القطاع العام إلى القطاع الخاص.
{ انتهى }
bottom of page