01/02/2023
قراءة في طرق الاستفادة من قدرات الدبلوماسيين السابقين
تحمل عبارة «تقاعد وظيفي»، في أحيان كثيرة الركون إلى الراحة وعدم ممارسة أي مهام، لكن الأمر يختلف بالنسبة إلى السفراء والدبلوماسيين والمستشارين والمسؤولين الحكوميين المتخصصين في الشؤون الخارجية، فما اكتسبوه من الخبرة والمعرفة بالسياسات والاتجاهات والشعوب واللغات والثقافات الدولية، وما قدموه للحكومات والمنظمات؛ لا يتم تجاهله بسهولة أو اعتباره غير ذي صلة بالمشهد الجيوسياسي الحالي.
وهناك تقليد لدى الحكومات يتمثل في قيام المسؤولين السابقين بالعمل كمستشارين لخلفائهم، سواء بشكل رسمي أو غير رسمي، فيما يزداد الطلب على الدبلوماسيين السابقين من «معاهد البحوث»، الرائدة، و«مراكز الفكر» في الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وأوروبا، لمشاركة خبراتهم بشأن الشؤون الدولية وإلمامهم بمناطق معينة وأفراد ومجموعات وثقافات وأنظمة سياسية، حيث تتبدى خبراتهم في تقديم المشورة بشأن تلك القضايا. وللأسباب نفسها أيضًا، تسعى الشركات الخاصة ومراكز الاستشارات إلى الحصول على تحليلات المسؤولين السابقين ذوي الخبرة، الذين بمقدورهم توجيه الجيل القادم من القادة الدبلوماسيين.
وكما أوضح السير «إيفور روبرتس»، السفير البريطاني السابق لدى إيطاليا ويوغوسلافيا وأيرلندا، فإنه لا يزال موضع تقدير كبير من قبل الحكومات والمنظمات والشركات والمؤسسات التعليمية؛ كيف تعلم الدبلوماسيون، من خلال مواقعهم في دول أجنبية وبيئات ثقافية مختلفة، «فن التفاوض»، لحل النزاعات بشكل أفضل وفهم وجهات النظر البديلة.
ووفقا لـ«توماس فليتشر»، سفير بريطانيا في لبنان بين عامي 2011 و2015، فإن سمات «الذكاء العاطفي، والحس السياسي، والفضول لمعرفة العالم»، هي أعظم مهارات السفير السابق، وهي تلك التي يمكن أن تطبق في الحياة ما بعد الدبلوماسية.
وفي المجال الحكومي، يعمل السفراء والدبلوماسيون السابقون، كمستشارين رسميين وغير رسميين لسفراء ووزراء حكوميين وقادة. ومع تقديم المشورة في أغلب الأحيان في لحظات التوتر، يمكن للمستشارين غير الرسميين ذوي الخبرات الواسعة تزويد المسؤولين الحاليين بمعلومات وتحليلات وآراء مسبقة دون التقيد بالاعتبارات السياسية التي قد تكون لدى المعينين، مع قدرتهم على تقديم المشورة بمهنية وتجرد.
وفي حالة الوزراء المعينين حديثًا، أو الذين ليس لديهم خبرة واضحة في بعض الجوانب؛ يمكن للسفراء والدبلوماسيين والمسؤولين السابقين، تقديم الرؤى والمشورة الضرورية لهم، وإلا سيكونون عُرضة للوقوع في أخطاء غير مقصودة. علاوة على ذلك، فإنهم في كثير من الأحيان يسافرون ضمن الوفود عبر العالم، مستخدمين معرفتهم بالدول والقادة والثقافات واللغات الأخرى كجسر بين البلدان؛ مما يؤدي إلى تحسين العلاقات ودفع أي مفاوضات أو تخفيف الصعوبات الجيوسياسية.
بالإضافة إلى ذلك، يتم أيضًا تعيين دبلوماسيين سابقين في الجهاز الحكومي. وذكر «مكتب لندن للمتحدثين»، أن «جوناثان بأول»، كبير موظفي مقر الحكومة البريطانية في عهد رئيس الوزراء الأسبق، «توني بلير»، عمل دبلوماسيًا في وزارة الخارجية سابقًا في البرتغال، والسويد، وفيينا، وهونغ كونغ، والولايات المتحدة، بالإضافة إلى كونه صاحب «دور فعال في تحقيق سلام دائم» في إيرلندا الشمالية.
ومع وصف السفير «فليتشر»، كيف أن «أسعد الدبلوماسيين السابقين»، هم أولئك «الموجودون في مواقع صنع القرار بمؤسساتهم، بدلاً من مجرد تمثيلها في الخارج»؛ تجدر الإشارة إلى كيف أنهم يشغلون المناصب في «معاهد أبحاث» الشؤون الخارجية العالمية، و«مراكز الفكر» في جميع أنحاء العالم، مما يسمح لهم بنقل معرفتهم وفهمهم لقضايا عالمية معينة إلى جمهور عريض من القراء، بما في ذلك صناع السياسات.
ويبرز من بين العديد من السفراء والدبلوماسيين والمسؤولين الحكوميين والمستشارين الخاصين للشؤون الخارجية في المعاهد الرائدة في بريطانيا؛ اسم «جون راين»، ذو خبرة 33 عامًا بوزارة الخارجية، والذي عمل في سوريا، والسعودية، والعراق، وباكستان، والكويت، وهو الآن مستشار أول في «المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية»، والسير «سيمون فريزر»، المستشار الأول في «المعهد الملكي للشؤون الدولية»، والمسؤول السابق بوزارة الخارجية والكومنولث، والسير «أندرو وود»، الزميل المُشارك لدى «المعهد الملكي»، والذي عمل سفيرا لدى يوغوسلافيا، وروسيا، بالإضافة إلى السير «بيتر وستماكوت»، السفير السابق لدى الولايات المتحدة وفرنسا وتركيا، وحاليا زميل متميز لدى «المجلس الأطلسي»، و«المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية».
وبالمثل في واشنطن، يشغل دبلوماسيون سابقون العديد من مناصب الزمالة الزائرة والمتميزة. ففي «مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية»، يعمل «جون ألترمان»، الذي كان مساعدًا خاصًا سابقًا في الخارجية الأمريكية؛ بينما من بين أبرز خبراء «المجلس الأطلسي»، يعمل كل من «دانيال شابيرو»، السفير السابق لدى إسرائيل، و«دانيال فرايد»، السفير السابق لدى بولندا، و«ريتشارد ليبارون»، السفير السابق لدى الكويت، و«جون هيربست»، السفير السابق لدى أوكرانيا.
علاوة على ذلك، فإن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لتقديم المشورة والتأثير على صانعي السياسات الحاليين، قد مكن الخبراء السابقين من التأثير في الرأى العام. ولعل أحد الأمثلة على ذلك هو «آرون ميللر»، المفاوض السابق لشؤون للشرق الأوسط، لدى «الخارجية الأمريكية»، والذي يعمل الآن في «مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي»، إلى جانب «دانيال كيرتزر»، السفير الأمريكي السابق لدى القاهرة، ثم تل أبيب، والذي يحاضر الآن في «جامعة برينستون»، واللذين أشارا بصحيفة «واشنطن بوست»، إلى أنه «يجب على إدارة بايدن الرد بقوة على انتخاب حكومة إسرائيلية «راديكالية» بقيادة نتنياهو، من خلال التأكيد على «أن أي انتهاكات إسرائيلية في كل من القدس أو الأراضي المحتلة، قد تؤثر على استمرار واشنطن في دعم المتطلبات الأمنية لحليفتها، وقد لا تقدم لها أي أسلحة هجومية أو مساعدات أخرى».
وبالإضافة إلى نشر مقالات الرأي، فإن تقديم التعليقات حول العناوين الإخبارية والتحليلات ذات الصلة في وسائل النشر الرائجة، مثل «نيويورك تايمز»، و«الجارديان»، ومجلة «فورين بوليسي»، «فورين آفيرز»، و«ذا إندبندنت»، و«فايناشيال تايمز»، فضلا عن صحف ومجلات أخرى كثيرة؛ توفر للمسؤولين الدبلوماسيين السابقين مجموعة واسعة من السبل لمواصلة التأثير على مسار الرأي العام، وصنع السياسات بشأن القضايا الدولية.
وفي سياق مماثل للتعليقات التي أبداها كل من «ميللر»، و«كيرتزر»، فإنه عندما اقترحت رئيسة الوزراء البريطانية -آنذاك- «ليز تراس» نقل سفارة بلادها في إسرائيل من تل أبيب إلى القدس -وهو الأمر الذي يتعارض مع الوضع الدبلوماسي القائم في المنطقة- انتقد العديد من المسؤولين والدبلوماسيين السابقين علنًا هذه الخطوة وحذروا من تداعياتها. ومن بين هؤلاء السير «الان دنكان»، وزير الدولة السابق بالخارجية البريطانية، الذي وصف الاقتراح بأنه «طائش ويفتقد للمبادئ والقيم»، وكذلك القنصل البريطاني العام السابق في مدينة القدس المحتلة «فينسنت فيين»، الذي نصح حكومته بأن بإمكان مثل هذه الخطوة «غير المبررة»، أن «تستعدي القوى الإقليمية، وتهدد موقف لندن المتعلق بالمفاوضات الجارية من أجل إبرام اتفاق تجارة حرة مع دول الخليج.
وبالفعل، كانت قوة الانتقادات من جانب كبار الدبلوماسيين البريطانيين ذوي الخبرة العالية، مؤثرة بشكل كبير في الحكومة البريطانية التي تولاها بعد ذلك «ريشي سوناك»، والتي ألغت بدورها هذا الاقتراح؛ مما يدل على التأثير المتزايد والاحترام التي لا تزال تحظى به نصائح الموظفين والدبلوماسيين السابقين في «مركز السلطة السياسية البريطانية».
إلى جانب هذا، غالبًا ما يعمل العديد من الدبلوماسيين السابقين كأكاديميين في جامعات رائدة، بالإضافة إلى أدوارهم كمستشارين حكوميين وكأعضاء في المعاهد البحثية. وعلى سبيل المثال، اللورد «بيتر ريكيتس»، الذي عمل كدبلوماسي بريطاني لمدة 40 عامًا؛ وشغل منصب الممثل الدائم لدى الناتو (2003-2006)، ورئيس السلك الدبلوماسي (2006-2010)، ومستشار الأمن القومي (2010-2012)، ثم سفيرًا لدى باريس (2012-2016)، وهو الآن أستاذ زائر في كلية «كينجز لندن»، متخصص في قضايا الصراع والأمن وإدارة الأزمات، وقد استفاد من خبرته بالشؤون الخارجية، جيل كامل من صانعي السياسات والدبلوماسيين.
وفي حين أن العمل في معهد بحثي أو أكاديمي هو مسار مشترك للدبلوماسيين السابقين، فمن المهم التأكيد على إمكانية العودة إلى المستويات العليا من المهام الدبلوماسية والسياسية. وربما تكون الحالة الأكثر شهرة في السنوات الأخيرة، حالة مدير «وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية»، «سي آي أيه»، الحالي «ويليام بيرنز»، فبعدما شغل مناصب دبلوماسية مرموقة لأكثر من 33 عامًا -بما في ذلك سفيرا لدى الأردن وروسيا، ونائب وزير خارجية في عهد أوباما- قبل أن يصبح أيضًا رئيسًا لمؤسسة «كارنيجي للسلام الدولي»، حيث ظل بهذا المنصب حتى عام 2021، حتى رشحه الرئيس «جو بايدن»، لمنصبه القيادي الحالي.
وبالمثل، في المملكة المتحدة، كان المستشار الحالي لشؤون الأمن القومي والسياسة الخارجية، السير «تيم بارو»، سفيرا لدى أوكرانيا، وموسكو، والاتحاد الأوروبي، ومندوبًا دائمًا في بروكسل. ونتيجة لذلك، ومن واقع تلك الخبرات والتجارب، اعتبر «بارو» في وضع جيد لتقديم أوجه المشورة إلى لندن، بشأن كيفية استجابتها للحرب الأوكرانية، والتعامل الدبلوماسي مع موسكو في الأيام القادمة، كما تم تكليفه من قبل «ريشي سوناك» في يناير 2023، «بالتوصل إلى اتفاق بشأن بروتوكول أيرلندا الشمالية». ووفقًا لصحيفة «الإندبندنت»، فإنه استطاع استخدام «شبكة واسعة من الاتصالات الدبلوماسية من أجل «تحقيق اختراق» في العقبات السياسية، التي عرقلت العلاقات بين الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة، بعد «البريكست».
على العموم، من الواضح أن نهاية العمل الدبلوماسي، لا يعني بأي حال من الأحوال عدم الاستفادة من خبرات الكثير من الدبلوماسيين السابقين. وبدلاً من ذلك، فإن المهارات التي ما زالوا يمتلكونها، والخبرة التي اكتسبوها خلال سنوات عملهم تعد مفيدة للغاية للوزراء والمسؤولين الحاليين. وبالإضافة إلى تقديم جميع أوجه المشورة غير الرسمية، فإن منهم من يعمل كأكاديميين وخبراء بارزين في معاهد بحثية كبرى. ومن خلال القيام بذلك، فإنهم لا يؤثرون فحسب على سياسة حكومة ما بصورة مباشرة من خلال مشاركة آرائهم مع صانعي السياسات، ولكن بإمكانهم أيضًا التأثير في الرأي العام عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فيما يجب أيضًا تأكيد أنه من الممكن أن يكون لدى الدبلوماسي المخضرم ثروة من المعرفة وخبرة تؤهله؛ ليتم استدعاؤه مرة أخرى للقيام بأدوار دبلوماسية حتى بعد انتهاء خدمته؛ ما يجعل هناك ضرورة قصوى للاستفادة بالخبرات والكفاءات لأشخاص طالما أفنوا عمرهم في تقديم أفضل ما عندهم للارتقاء بمهام عملهم، حيث إن هؤلاء يحتاجون إلى نقل خبراتهم العملية التي مارسوها واكتسبوها خلال مرحلة العمل لكى يمكن الاستفادة منها في مجالات أخرى.