28/01/2023
استراتيجيات دول الخليج للوصول إلى «الحياد الكربوني»
في ديسمبر 2015، وقعت 195 دولة -من بينها دول الخليج- على اتفاقية «باريس للمناخ»، والتي دخلت حيز التنفيذ في نوفمبر 2016، وصدقت عليها 189 دولة، وكان هذا الاتفاق ولايزال يستهدف الحد بشكل مباشر من الانبعاثات التي تؤدي إلى ظاهرة الاحتباس الحراري، وذلك تفاديًا لارتفاع درجة الحرارة درجتين مئويتين، وتكثيف الجهود لعدم الزيادة المتوقعة عن 1,5 درجة مئوية. ونص الاتفاق على ضرورة تقليص هذه الانبعاثات من خلال الحد من استهلاك الطاقة، خاصة ما يتعلق بالوقود الأحفوري غير المرفق بأنظمة احتجاز الكربون. وبعد 6 سنوات من توقيعه، جاءت تصريحات رئيس الوزراء البريطاني الأسبق «بوريس جونسون» في قمة «جلاسجو للتغيرات المناخية»، باحتمال اختفاء مدن بأكملها، كـ«ميامي» في الولايات المتحدة، و«شنغهاي» في الصين.
ويعد الوقود الأحفوري، «الفحم والنفط والغاز» -إنتاجًا واستهلاكًا- أكبر مساهم في تغير المناخ العالمي، إذ يمثل أكثر من 75% من انبعاثات الغازات الدفيئة العالمية، وحوالي 90% من جميع انبعاثات ثاني أكسيد الكربون. وتواجد هذه الغازات في الغلاف الجوي يحبس حرارة الشمس، فيؤدي إلى الاحتباس الحراري، ومن ثم تغير المناخ. وفي الوقت الحالي ترتفع درجة حرارة العالم بشكل أسرع من أي وقت مضى، وبمرور الوقت تؤدي إلى تغيرات من أنماط الطقس والتوازن الطبيعي المعتاد، ما يشكل مخاطر عديدة على البشر وجميع أشكال الحياة على الأرض.
وبحسب بيانات «البنك الدولي»، تعد دول الخليج من بين أكبر الدول التي تُصدر انبعاثات كربونية بحسب نصيب الفرد، وقد شكلت الدراسات التي أجريت عن مسؤولية إنتاج واستهلاك الوقود الأحفوري عن التغيرات المناخية؛ «عامل ضغط»، مستمرا على أسعار النفط في السوق العالمي، وفيما يعد هذا النفط مصدر الدخل الرئيسي للعديد من دول العالم، وعلى رأسها الخليجية، فقد أخذت هذه الدول على عاتقها مسؤولية السير على طريق «الحياد الكربوني»، بل والاستعداد الجاد لعصر ما بعد النفط.
وبعد استضافة «مصر» في 2022 «قمة المناخ 27»، تستضيف الإمارات «القمة 28»، ما بين (30 نوفمبر–12 ديسمبر 2023)، والتي يتولى رئاستها «سلطان الجابر»، وزير الصناعة والتكنولوجيا، الرئيس التنفيذي لشركة «النفط الحكومية (أدنوك)»، والمؤسس لشركة «مصدر للطاقة المتجددة» في أبو ظبي، والمشرف على استراتيجية خفض الانبعاثات الكربونية في (أدنوك) التي تم إقرارها العام الماضي. وفيما تشهد «قمة المناخ 28»، أول تقييم لتعهدات الدول في اتفاقية باريس 2015، تتعهد الإمارات -التي كانت أول دول المنطقة مصادقة على هذه الاتفاقية- بالوصول إلى صفر انبعاثات كربونية بحلول عام 2050.
وللوصول لهذا الهدف، كانت «الإمارات»، قد رصدت استثمارات تتخطى (160 مليار دولار)، باستراتيجية شاملة وإجراءات واضحة المعالم، في نفس الوقت الذي تراعي فيه احتياجات الطلب على الطاقة. وتشمل الاستراتيجية رفع كفاءة الاستهلاك الفردي والمؤسسي بنسبة 40%، ورفع مساهمة الطاقة النظيفة في إجمالي مزيج الطاقة المنتجة إلى 50%؛ منها 44% الطاقة متجددة، و6% طاقة نووية، كما تعمل على خفض الانبعاثات الكربونية في عملية إنتاج الكهرباء بنسبة 70% خلال الأعوام الـ30 المقبلة. وفي حين أطلقت (الخطة الوطنية للتغير المناخي 2017–2050)، فقد باشرت تنفيذ 14 مشروعا، منها مشروعات التقاط وتخزين ثاني أكسيد الكربون، والتوسع في استخدام «الهيدروجين الأخضر»، واستخدام السيارات الكهربائية، والنقل الجماعي وتدوير النفايات.
وفي أكتوبر 2021، أعلنت السعودية -أكبر مُصدر للنفط الخام في العالم- خطة الوصول إلى الحياد الكربوني بحلول 2060، من خلال نهج الاقتصاد الدائري للكربون؛ أي «تقليل انبعاثاته، وإعادة استخدامه وتدويره. ويتم التقاط الكربون عبر تكنولوجيا الاستشعار، وعبر فلاتر في محطات التكرير، وعبر أجهزة حرق الغاز المصاحب»، وبما يتوافق مع خطط البلاد التنموية، وتمكين تنوعها الاقتصادي. وكان الإعلان السعودي سابقًا لقمة «جلاسكو للمناخ»، وجاء مع إطلاق النسخة الأولى لمبادرة السعودية الخضراء، وإطلاق مبادراتها النوعية بقيمة (700 مليار ريـال)، وبذلك تكون قد سعت لحماية البيئة ومواجهة تحديات التغير المناخي، من خلال العمل على تخفيض الانبعاثات الكربونية بمقدار (278 مليون طن سنويًا) بحلول 2030، ما يمثل تخفيضًا طوعيًا بأكثر من ضعف مستهدفات المملكة المعلنة فيما يخص تخفيض الانبعاثات.
واستمرارا، أعلن ولي العهد السعودي الأمير «محمد بن سلمان»، في قمة شرم الشيخ في نوفمبر 2022، عن تخصيص المملكة (2,5 مليار دولار) في مبادرة الشرق الأوسط الأخضر على مدار 10 سنوات، وتبكير الوصول إلى هدف الحياد الكربوني للمملكة ليكون عام 2050 باستثمارات تتجاوز (180 مليار دولار).ومنذ 2015 تبنت «السعودية»، مشروعات لالتقاط الكربون وتخزينه تحت الأرض، ومن ثم منع انبعاثه في الغلاف الجوي، ليعاد استخدامه بعد ذلك في منتجات تجارية، مثل الكيماويات والأسمدة والوقود. وفي هذا العام قامت شركة «أرامكو» ببناء أول مشروع في مجال التقاط الكربون في مدينة الحوبة، يقوم باستخلاص 40 مليون قدم مكعب يوميًا من غاز ثاني أكسيد الكربون ومعالجته، كما قامت شركة «سابك»، بجمع الكربون وتخزينه وتصنيعه، ويقوم مصنعها بجمع 500 ألف طن سنويًا من ثاني أكسيد الكربون، وتحويله إلى مواد ومنتجات صناعية.
وفي الإطار ذاته، أعلن مجلس الوزراء البحريني في أكتوبر 2021، وضع هدف وصول مملكة البحرين إلى الحياد الكربوني في العام 2060. وخلال مؤتمر «الشرق الأوسط للاستدامة» في البحرين في يناير 2023، أعلن الرئيس التنفيذي لبنك «استاندرد تشارترد البحرين»، و«مجلس التعاون الخليجي»، أن البنك يخطط لاستثمار (300 مليار دولار) لمساعدة عملائه من أجل الوصول إلى «الحياد الكربوني»، شاملة البحرين كواحدة من أصل 58 سوقًا حول العالم، حيث يسعى لجعل المملكة نموذجًا يحتذى في مجال الشراكة بين المؤسسات المصرفية وباقي الصناعات، وفي مطلع العالم الماضي وقعت شركة «إلبا» عقد شراكة مع شركة «ميتسوبيشي» اليابانية للتعاون في مجال الإنتاج معدوم الكربون.
وفي سبتمبر 2022، وقعت شركة «قطر للطاقة»، مذكرة تفاهم مع «جنرال إلكتريك»، لتطوير خارطة طريق لاحتجاز الكربون من قطاع الطاقة، وتطوير منشأة مركزية تعمل بمقاييس عالمية لاحتجاز غاز ثاني أكسيد الكربون في مدينة «رأس لفان» الصناعية، التي تضم أكثر من 80 توربينا تعمل بالغاز. وكانت الشركة قد أطلقت استراتيجيتها المحدثة للاستمرار بمبادرات متعددة للحد من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، تعمل بتقنية التقاط واحتجاز الكربون، لاحتجاز أكثر من 11 مليون طن منه سنويًا بحلول 2035. وتعمل هذه المبادرات على خفض المزيد من كميات الكربون الناتجة من منشآت الغاز الطبيعي المسال بنسبة تصل إلى 35%، ومنشآت التنقيب والإنتاج بنسبة تصل إلى 25%، ما يعزز التزام قطر بإنتاج غاز طبيعي أنظف، كما أنه من المنتظر أن يشهد مشروع الطاقة الشمسية بها إنتاج الكهرباء في أواخر 2024.
من جهته، أعلن السلطان «هيثم بن طارق»، في أكتوبر 2022، التزام سلطنة عُمان بالوصول إلى الحياد الصفري الكربوني بحلول 2050، من خلال خطة وطنية تشكل جزءًا من رؤية السلطنة 2040. وتنفيذًا لذلك، تم إنشاء مركز عُمان للاستدامة من أجل الإشراف ومتابعة تنفيذ خطط وبرامج خفض الانبعاثات الكربونية، فيما أظهرت الأجواء العامة في الأعوام الأخيرة، تأثرها بالتغيرات المناخية التي تجلت في الأعاصير والسيول الجارفة، لذلك كانت السلطنة أحد أهم الداعمين لمشاريع الحفاظ على الكوكب من الكوارث والتغيرات السلبية. ويقود إنتاج «الهيدروجين الأخضر»، مسيرة سلطنة عُمان على طريق الحياد الكربوني، ولدى حضورها «كوب 27»، دشنت استراتيجية الحياد الصفري، والسياسة الوطنية البيئية، كما طرحت فرص الاستثمار في الهيدروجين الأخضر.
ودعما لهذه الخطوات، أعلنت «الكويت»، لدى حضورها مؤتمر «كوب 27»، مستهدفها في تحقيق الحياد الكربوني في 2050 للنفط والغاز، وفي 2060 للصناعات الأخرى، فيما التزمت بتنفيذ كل تعهداتها منذ انعقاد مؤتمر المناخ الأول لعام 1992، كما قامت بتنفيذ العديد من المشاريع للحفاظ على البيئة وتقليل الانبعاثات، ومثّل التحول إلى الغاز في محطات الطاقة، ومحطات تحلية المياه تخفيضًا لأحد أعلى معدلات الانبعاث للفرد الواحد حول العالم.
وتأتي خطوات دول الخليج لتحقيق الحياد الكربوني بالتزامن مع استمرار إنتاج النفط والغاز، مؤكدة أن مواصلة الاستثمار في الوقود الأحفوري سوف تساعدها على التوجه نحو «الاقتصاد الأخضر»، عبر تحقيق التوازن بين الإنتاج ومواجهة الانبعاثات. ويقصد بالاقتصاد الأخضر؛ تحقيق التنمية الاقتصادية المستدامة، عبر استهلاك وإنتاج مستدام، جنبًا إلى جنب مع كفاءة الموارد والحد من انبعاثات الكربون والغازات الدفيئة، مقابل كل وحدة منتجة أو خدمة، فمع إطلاق هدف الحياد الكربوني شهد عام 2021 إعلان دول الخليج خططًا في الاقتصاد الأخضر، والاستثمار في المصادر المتجددة مثل، الهيدروجين، وتعديل مزيج الطاقة، والانضمام كما فعلت السعودية إلى العهد الدولي بشأن الميثان والذي يستهدف خفض انبعاثات غاز الميثان بنسبة 30%.
ووفق هذا المعنى، فإن «الحياد الكربوني»، لا يعني التخلي عن التوسع في إنتاج وتصدير النفط والغاز، إذ يظلان أكبر مصادر أمن الطاقة في العالم، ولكن الهدف منه، تحرير إنتاج النفط والغاز من الانبعاثات الكربونية، كما يبدو هنا التلازم ضروريا بين التوسع في الاستثمارات النفطية لتطوير الإنتاج، والتوسع في توظيف الغازات الدفيئة للاستخدام الصناعي، بدلًا من تركها تذهب إلى الغلاف الجوي.
على العموم، يستمر النفط والغاز في تلبية احتياجات العالم من الطاقة لعقود كثيرة مقبلة، حيث لا تلبي مصادر الطاقة المتجددة أكثر من 7% من هذه الاحتياجات، كما أن خطط دول الخليج لتحقيق الحياد الكربوني يقوم تمويلها على متحصلات صادراتها من النفط والغاز.
وفي الأخير، فإن تحقيق الهدف الأممي نحو عدم زيادة الاحترار العالمي لأكثر من 1,5 درجة مئوية، إنما يتم أساسًا بتنفيذ الدول الصناعية الكبرى لالتزاماتها، وتعاونها مع دول الخليج، بتوفير الحلول التكنولوجية التي تمكنها من الوصول إلى هدف الحياد الكربوني في الوقت المحدد.