18/4/2019
إيران والتوسع غربًا.. مطامع وتحديات
تعد روسيا وإيران أكبر الداعمين لنظام بشار الأسد، وأصبح الوجود الروسي والإيراني في سوريا جزءًا أساسيًّا في الأزمة السورية، كما أنه يعقد الخروج من هذه الأزمة، إلا أن هذا الوجود المزدوج، فيه من المنافسة أكثر ما فيه من التنسيق، فروسيا لم تدخل سوريا من أجل بشار الأسد، أو محبة في الشعب السوري، أو لإنقاذ النظام السوري، كذلك الأمر بالنسبة إلى إيران.
وإذا كان من تقاليد السياسة الخارجية الروسية، التي تعلمها دارسو العلوم السياسية، حتى في فترة روسيا القيصرية، الحرص على الوصول إلى المياه الدافئة، كما كان هذا الحرص أحد ميادين الحرب الباردة بين روسيا السوفيتية والغرب، فإن روسيا بعد أن أصبح لها موطئ قدم على البحر المتوسط، من خلال قواعدها في الموانئ السورية، تحرص على ألا يحدث تطور في هذه الأزمة يُفضي إلى إبعادها من هذا الوجود.
أما إيران فقد وجدت في الأزمة السورية فرصة لتنفيذ مشروعها التوسعي، الذي عبّرت عنه بعد قيام ثورتها في 1979 بتصدير الثورة، فوجدت فرصتها على أثر الفوضى، التي أحدثتها ثورات الربيع العربي، والذي لم تكن إيران بالقطع بعيدة عنه، بل كانت تقدم له وقوده، وذلك بالوجود إلى جانب النظام، وجر حزب الله اللبناني الذي تدعمه بالمال والسلاح والتدريب معها، وأصبح الوجود الإيراني في سوريا رقمًا صعبًا، ليس فقط على النظام السوري نفسه، ولكن على روسيا أيضًا التي يُفترض أنها حليفة لإيران في برنامجها النووي، وفي المسرح السوري.
وقد تصاعد هذا الرقم الإيراني في سوريا حتى بلغ حد التنافس في ميادين تعتبرها موسكو خطًّا أحمر، أبرزها وجود قواعدها على المتوسط، ففي تطورات العلاقة بين دمشق وطهران، ظهر الاتفاق الذي عقده البلدان، الذي أعطى طهران لأول مرة موطئ قدم على المتوسط بالقرب من القواعد الروسية، فقد طلبت إيران من سوريا أن تعطيها حق إدارة محطة حاويات مرفأ اللاذقية مقابل الديون الواقعة على النظام السوري والمستحقة لطهران، علمًا أن تشغيل مرفأ اللاذقية في الوقت الحالي يتم بموجب عقد بين الحكومة ومؤسسة سوريا القابضة، التي تضم عددًا من رجال الأعمال السوريين وشركة فرنسية، وقد طلبت الحكومة السورية من هذه المؤسسة كتابة في 25 فبراير الماضي تمكين الطرف الإيراني ابتداء من الخريف المقبل من محطة الحاويات.
ولم تكن هذه الميزة الاستراتيجية التي أعطتها دمشق لطهران هي الوحيدة، فمن خلال اللجنة المشتركة السورية الإيرانية تأتي إيران في مقدمة الدول المدعوة إلى إعادة إعمار سوريا، ما يعني جرعة إنعاش قوية للاقتصاد الإيراني، بل إنها جرعة كفيلة بتشغيل هذا الاقتصاد لسنوات، وفي الاجتماع الأخير لهذه اللجنة في مستهل هذا العام تم التوقيع على تسع مذكرات تفاهم في عدة مجالات، شملت السكك الحديدية، وبناء المنازل، والاستثمار، ومكافحة تمويل الإرهاب، وغسل الأموال إضافة إلى التعليم والثقافة، وهو ما يقنن وعود الحكومة السورية لطهران والشركات الإيرانية العامة والخاصة بشأن الاستثمار وإعادة الإعمار.
أكد ذلك الرئيس السوري بشار الأسد أثناء زيارته لطهران في فبراير الماضي، وهي أول زيارة من نوعها في 8 سنوات، وأكدت هذه الزيارة الاتفاقات التي كان الجانبان قد وقّعاها في 2017 أثناء زيارة رئيس الوزراء السوري إلى طهران، وفي مقدمتها منح امتياز مدة 99 عامًا للشركات الإيرانية للاستثمار في حقول الفوسفات السورية قرب مدينة تدمر، ومن المعلوم أن سوريا تمتلك أكبر احتياطي فوسفات في العالم، ويقدر هذا الاحتياطي بـ1.8 مليار طن، وإذ استثار هذا التحرك روسيا، فقد يدفع الحكومة السورية إلى بحث إمكانية أن يتم هذا الاستثمار بالشراكة بين شركات روسية وإيرانية.
أما الاتفاق الثاني فقد كان يقضي باستحواذ شركة إيرانية مدعومة من الحرس الثوري الإيراني على التشغيل الثالث للهاتف النقال، وفي اتفاق ثالث تسعى إيران للحصول على حق الاستثمار الزراعي في مساحة خمسة آلاف هكتار، والاستثمار النفطي في ألف هكتار أخرى لإنشاء مرافئ للنفط والغاز على المتوسط، اعترضت عليه روسيا لوقوعه بين بانياس واللاذقية، واستمرت إيران في مساعيها لتحويل ميناء طرطوس إلى قاعدة عسكرية.
إيران تسعى إذن إلى شق طريق مد نفوذها من طهران شرقًا إلى المتوسط غربًا، مارًّا ببغداد ودمشق، وهذا التوسع على الأرض السورية يدعمه ما تقدمه إيران من مساعدات مالية لدمشق، لم يكن آخرها خط الائتمان الذي فتحته طهران لدمشق في 2017 والبالغ مليار دولار، ولا خطوط الائتمان التي فتحتها من 2013. وبلغت أكثر من 6.6 مليارات دولار، ولا صادرات النفط الإيرانية التي قدمتها طهران لسوريا، حين كانت حقول النفط السورية واقعة تحت سيطرة داعش.
ولقد استثار الوجود الإيراني على الأراضي السورية ردود الفعل الإسرائيلية، ما يهدد بتحويل سوريا إلى ساحة صراع مسلح إيراني إسرائيلي، تجلى ذلك في تحركات رئيس الوزراء الإسرائيلي لدى الرئيس الروسي واتصالاته المكثفة به، وكذلك إعلان الرئيس الأمريكي ترامب سيادة إسرائيل على الجولان، وشروع إسرائيل المباشر في التوسع الاستيطاني في هذه الأرض السورية المغتصبة، ما زاد الأزمة السورية تعقيدًا، وبات خروج القوات الأجنبية من سوريا أحد أهم متطلبات الحل، الأمر الذي أصبح مرفوضًا من إيران وروسيا في ضوء صراع المصالح الدائر بينهما، ويدفع ثمنه التراب السوري والسيادة السورية.
ومن خلال نفس المشروع التوسعي الإيراني، يأتي تطور نوعي آخر للوجود الإيراني في لبنان، فلم يعد هذا الوجود قاصرًا على حزب الله اللبناني، المدعوم ماليًّا وعسكريًّا من إيران، والذي يمثل رقمًا صعبًا في مجمل السياسة اللبنانية، باتت صعوبته في كثير من مجالاتها، بل امتد إلى الضغط على لبنان بالنازحين من سوريا من ناحية، وغض الطرف عن خروج المنظمات الإرهابية من سوريا إلى لبنان من ناحية ثانية، ثم ما تناقلته وكالات الأنباء مؤخرًا من ناحية ثالثة بشأن ضلوع إيران في إنشاء مصنع للصواريخ الدقيقة على الأراضي اللبنانية، بالتعاون مع حزب الله، الأمر الذي نقله نتنياهو إلى وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، أثناء زيارته الأخيرة إلى إسرائيل، قبل أن يتوجه إلى بيروت، وإيران بهذا المعنى تعمّق نفوذها في لبنان، ولا تلقي بالاً لأصوات المعارضة، سواء في الحكومة اللبنانية أو خارجها، ولا لتبعات هذه التصرفات، في جعل لبنان هو الآخر ساحة صراع عسكري إيراني إسرائيلي، وهو بعد لم يحل مشاكله الحدودية مع إسرائيل سواء في البر أو البحر.
إذن تسعى إيران من خلال تطوير وجودها غربًا، إلى أن تكون الفاعل الميداني الخارجي الوحيد، بامتداد خط طهران بغداد دمشق المتوسط، وصاحبة النفوذ السياسي الأكبر فيه، وأن يكون التوازن في المشهد الجيوسياسي مائلاً لصالحها على طول هذا الخط، مع محدودية القوات الوطنية في كل البلدان العربية الواقعة عليه، بل واعتماد هذه القوات الوطنية عليها تسليحًا وتدريبًا وقيادة وخدمات لوجستية، فضلاً عن هشاشة أوضاعها الاقتصادية، والدمار الذي لحق ببنيتها الاجتماعية، التي باتت تضم شراذم متناحرة من الصعب أن يحدث التوافق بينها في الأمد القصير، حيث أصبحت ثارات الدم أحد أهم مكونات علاقاتها، مع الحرص في نفس الوقت على ألا يتحول هذا الوضع إلى انقسام هذه البلاد إلى كانتونات سياسية.
وقد كانت روسيا تنظر إلى هذا التمدد الإيراني من خلال مصالحها مع طهران، إلا أن التطور الجديد في هذا التمدد بات يهدد المصالح الروسية نفسها، بل ويحرج روسيا في إدارتها لملف الشرق الأوسط، لهذا ذهب نتنياهو إلى موسكو، ولهذا أيضًا كانت الضربات الإسرائيلية على الأرض السورية، ولكن إيران التي تتحرك بعقلية براجماتية يعنيها في هذه المرحلة المهمة من تطور برنامجها النووي، ألا يصل غضب روسيا منها إلى الحد الذي يؤثر على مساعدة روسيا لها في هذا البرنامج، وفي نفس الوقت تحقيق اكتمال هلالها الشيعي، وفيه تعد سوريا ولبنان ركيزتين، بعد أن استقر وضعها في العراق بخدمة مباشرة من الإدارة الأمريكية منذ 2003.
عموما، لا يخدم التوسع الإيراني غربًا فقط المشروع الإقليمي الإيراني، ولكنه يخدم مصالح إيران الاقتصادية بامتداد هذا المشروع، فإيران بحسب تقرير هيئة الاستثمار السورية تحتل المرتبة الأولى في مشاريع الاستثمار المباشر الأجنبية في سوريا، وحرصت على أن تكون هذه الاستثمارات خادمة لوجودها في سوريا، فكان على رأس هذه الاستثمارات شراء العقارات، سواء من المناقصات الحكومية، أو شراء الأحياء السكنية المدمرة لإعادة إعمارها، أو إجبار سكان مناطق معينة أو إغرائهم لترك مساكنهم مقابل مبالغ مالية، إضافة إلى الاستثمارات الإيرانية في البنية التحتية في المناطق الخاضعة لسيطرتها، والاستثمارات النفطية، وقبل كل ذلك حرص إيران على الوجود على المتوسط، وتعزيز طريق طهران بغداد دمشق المتوسط، كي يخدم مشروعها الاستراتيجي للتجارة مع السوق العالمي عبر المتوسط، والذي يشكل بديلاً استراتيجيا رئيسيًّا لمضيق هرمز، الذي قد يتعرض في وقت ما للإغلاق.
وختاما، يبدو أن التوسع الإيراني غربًا يضع الاستقرار الإقليمي على المحك، ويهدد مباشرة أمن الخليج، فضلاً عما يحمله من تهديد للأمن القومي العربي قاطبة، إذ يجعل سيادة بعض الدول العربية، سيادة شكلية مرهونة بالنفوذ الإيراني الوطيد، لذا لم يكن غريبًا أن تكون كلمة العاهل السعودي أمام قمة تونس العربية قبل أيام، ضد هذا التمدد للنفوذ الإيراني، وضد سلوك إيران العدواني، وتدخلها في الشؤون الداخلية للدول العربية، ودعم شبكات التطرف والإرهاب والصراعات الدينية والمذهبية التي تجنّد فيها إيران عملاء لها تدعمهم عسكريًّا وماليًّا، كما هو حادث في دعمها للحوثيين في اليمن وحزب الله في لبنان، وهي تصرفات تستوجب استنكار المجتمع الدولي وتحركه للحيلولة دون آثارها السلبية.