17/12/2022
قراءة في زيارة الرئيس الصيني إلى السعودية
شهد عام 2022 زيارة قادة أكبر اقتصاديين وقوى جيوسياسية في العالم إلى الشرق الأوسط؛ لعقد سلسلة من القمم والاجتماعات؛ حيث جاء الرئيس الأمريكي "جو بايدن"، في شهر يوليو، تلاها توجه الرئيس الصيني "شي جين بينغ"، إلى السعودية في أوائل ديسمبر. وعلى الرغم من أن كلا الرئيسين التقى بقادة خليجيين وعرب، إلا أن السياقات المحيطة بالزيارتين كانت "متباينة تمامًا"، فبينما تعرض "بايدن"، وقتها لضغوط لاستعادة العلاقات المتوترة مع الشركاء القدامى؛ رأى "بن بارتنشتاين"، و"سيلفيا ويستال"، من وكالة "بلومبرج"، أن زيارة "بينغ"، يُنظر إليها باعتبارها "استعراضًا للعلاقات الخليجية العميقة مع بكين" في الشؤون الاقتصادية والسياسية. وعلق "آرون ميلر"، من "مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي"، بأن "الاحتفاء الودود"، خلال الترحيب به، أكد أن "أكبر شريك تجاري للرياض"، و"أكبر مُصدر للنفط لبكين"؛ مصران على مواصلة تعميق التعاون بينهما في السنوات المقبلة.
وبالنسبة إلى "مايكل سينغ"، من "معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى"، فإن "توثيق العلاقات بين "بكين"، والشرق الأوسط، يمثل "تحديًا كبيرًا"، لأهداف الولايات المتحدة الاستراتيجية، ما يستلزم إدراك أن "الحقبة الحالية من تنافس القوى العظمى، ليست بنفس طبيعة الظروف التي ميزت فترة الحرب الباردة، وأنه يجب على واشنطن بدلاً من ذلك، أن تكون على استعداد لخلق سبل "أكثر ملاءمة"، للتعاون مع شركائها القدامى في المنطقة".
وفي حين لا تزال "الولايات المتحدة"، الداعم السياسي والأمني الخارجي الأكثر وضوحًا للخليج، فقد تحول التركيز الاقتصادي للمنطقة من الغرب إلى الشرق، حيث شكلت مبيعات الطاقة إلى "بكين"، العمود الفقري لهذه العلاقة. وأشارت "فيفيان نيريم"، في صحيفة "نيويورك تايمز"، إلى أن العلاقات الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية بين الصين وأعضاء مجلس التعاون الخليجي، لا سيما السعودية، شهدت "تناميًا سريعًا" خلال السنوات الماضية، وهو ما تجلى في "مبيعات الأسلحة، ونقل التكنولوجيا، ومشاريع البنية التحتية"، وعدد من المجالات أخرى. ووفقًا لـ"ميلر"، فإن "التركيز الأساسي على العلاقات الاقتصادية بدلاً من السياسية، التي تؤكد عليها "واشنطن"، الآن أكثر، يمثل "حافزًا إضافيًا"، لدول الشرق الأوسط، ومنها الخليجية التي تفضل "العلاقة غير المرتبطة بشروط"، و"الخالية من التدخل" في الشؤون الداخلية وهو ما تنتهجه بكين.
واستمرارًا لهذه الحجة، أسفرت زيارة الرئيس الصيني للشرق الأوسط في أوائل ديسمبر -والتي وصفتها "الخارجية الصينية"، بأنها "أكبر وأعلى مستوى دبلوماسي على الإطلاق بين الصين والعالم العربي"- عن سلسلة من القمم والاجتماعات مع القادة الخليجيين والعرب في السعودية. وبدت أوجه الاختلاف في الأجواء بين هذه الزيارة وزيارة "بايدن" -المذكورة أعلاه- واضحًا. وذكر "ميلر"، أن المسؤولين السعوديين رحبوا بالزعيم الصيني بـ"شكل رائع"، حيث تشابه ذلك مع استقبالهم الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب في عام 2017.
ومع حديث الرئيس الصيني نفسه عن أن زيارته تمت وسط "مفترق طرق تاريخي"، تجلت رغبة "بكين" في "تجديد أواصر الصداقة" بينها، وبين دول مجلس التعاون الخليجي، من خلال التوقيع على "شراكة استراتيجية شاملة"، مع الرياض، والتي ذكرت صحيفة "فايننشال تايمز"، أنها تتضمن ما لا يقل عن 34 صفقة استثمارية في قطاعي التكنولوجيا والطاقة، بالإضافة إلى خطة عمل مشتركة مدتها أربع سنوات مع دول المجلس. وأضافت "نيريم"، أن "بكين" أشارت علنًا إلى حرصها على توثيق التعاون مع دول الخليج في مجالات استكشاف الفضاء والبنية التحتية، بما في ذلك إرسال رواد فضاء إلى محطة الفضاء الصينية الجديدة.
علاوة على ذلك، أشارت صحيفة "نيويورك تايمز"، إلى كيف استمرت "بكين"، "في استيراد كميات كبيرة من النفط الخام من دول الخليج"، بالإضافة إلى الزيادات المخطط لها من استيراد الغاز الطبيعي، مع بقاء صادرات الطاقة على رأس أولوياتها لمدى من "ثلاث إلى خمس سنوات مقبلة" على الأقل. وأضاف "جون جامبريل"، من وكالة "أسوشيتيد برس"، أن الرئيس الصيني، تعهد أيضًا بتجنب "التدخل في شؤونهم"، وهو موقف يرى أنه "سيجعل بكين في وضع أكثر ملاءمة من واشنطن، حيث إن اهتمام الأخيرة بالمنطقة قد "تتضاءل" بشكل أكبر.
وفي المجال الاقتصادي، أشار المحللون الغربيون أيضًا إلى حماس "شي"، المعلن لدول الخليج للاستفادة من بورصة "شنغهاي للبترول، والغاز الطبيعي" في عقود الطاقة المستقبلية في آسيا، واستخدام العملة الصينية لتنفيذ تلك المعاملات، وهو أمر رأت فيه "نيريم"، إمكانية أن يهدد الدولار كعملة تقليدية، مستخدمة في مبيعات النفط والغاز العالمية، وبالتالي الحد بشكل كبير من "التفوق العالمي"، للولايات المتحدة في التمويل الدولي لهذه التجارة.
علاوة على ذلك، أسفرت القمم والاجتماعات مع قادة الخليج عن "حراك سياسي". وأعلنت الصين عن خطط لإنشاء "منتدى" مشترك مع دول الخليج، حول الاستخدام السلمي للطاقة النووية، والمخاوف الأمنية المحيطة بهذا. وفي ضوء مثل هذا التعاون، رأى "ميللر"، أن التحسن المطرد للعلاقات الصينية الخليجية قد دخل "مرحلة استراتيجية جديدة"، حيث تسعى دول الخليج إلى "التواصل مع قوى عظمى أخرى لتحقيق التوازن، والتعويض عن التراجع الملحوظ في أولويات الولايات المتحدة، بشأن المنطقة خلال السنوات الماضية"، مضيفا أن الأمر الأبرز في إعادة تقويم هذه العلاقات الاستراتيجية هو "الثقة المتزايدة" للرياض "للعمل بشكل مستقل عن الغرب للحفاظ على مصالحها الاقتصادية والجيوسياسية وتعزيزها، وهو ما بدا جليًا من خلال قرار "أوبك بلس"، خفض إنتاج النفط لعام 2022 رغم الضغوط الأمريكية.
وبالنسبة إلى الولايات المتحدة والتحالف الغربي الأوسع، فإنه على الرغم من قلق المراقبين والسياسيين من تعميق المشاركة الصينية داخل الشرق الأوسط؛ فقد أكدت زيارة "بينغ"، للكثيرين أن العلاقة بين "واشنطن"، و"الرياض"، أعمق بكثير في ظل المصالح الأساسية التي دامت لعقود طويلة، حيث تحتاج الأخيرة إلى النفط السعودي.
ومع ذلك، أشارت صحيفة "فاينانشيال تايمز"، إلى أن التعاون التكنولوجي بين الصين ودول الخليج، يمثل إشكالية خاصة لواشنطن، لاسيما مع الاتفاق على تعزيز التعاون في البنية التحتية مع شركة التكنولوجيا الصينية العملاقة "هواوي"، وهو ما يتناقض بشكل حاد مع تحذير مبعوث البيت الأبيض للشرق الأوسط "بريت ماكغورك"، بأن الشراكات "مع بكين من شأنها أن" تخلق سقفًا محددًا، ما يمكننا القيام به "بشأن التعاون الأمني مع دول الخليج".
وعلى الرغم من أن الخبراء الغربيين مازالوا يتوقعون استمرار الشراكة الأمنية والاستخباراتية طويلة الأمد بين الولايات المتحدة والخليج، من دون تراجع؛ فقد أوضحت "توفيا جيرينج"، من "المجلس الأطلسي"، أن دول الخليج تقر بأن "سلامها وأمنها يحتاج إلى وجود علاقات جيدة مع واشنطن"، وأن "بكين إما غير قادرة، أو غير راغبة" في تبوؤ مكانة الأولى في المنطقة. وأشارت "نيسا فيلتون"، من شركة "جينيس إنتل تراك"، إلى أن زيادة تعزيز العلاقات السياسية في ضوء توافق الرؤى من خلال عمليات التصويت العديدة في المنظمات الدولية"، وكذلك السعي وراء "المبادرات الاستراتيجية المشتركة" بين الصين والخليج، مازالت تمثل "إشكالية محتملة للمصالح الأمريكية على المدى الطويل".
وفي ضوء العلاقات المعززة مع الصين على حساب واشنطن، أدرك المعلقون أن السعودية ودول الخليج الأخرى، تسعى إلى إيجاد أرضية مشتركة متوازنة، بينها وبين القوى العظمى، بما يحقق لها الأفضل من ناحية التقدم الاقتصادي، والمصالح السياسية في المقام الأول. وبينما كتب "سينغ"، إن إدارة بايدن قد تبنت بوضوح "وجهة نظر ثنائية للنظام الدولي"، فقد أوضح وزير الخارجية السعودي، الأمير "فيصل بن فرحان"، إنه بالنسبة لمنظور الرياض، فإن "التورط في حالة الاستقطاب أمر سلبي في حد ذاته"، بالنظر إلى أن المملكة لها "مصالح" في كل من "الغرب"، و"الشرق".
وفي ظل هذا الموقف، انتقد "جيرينج"، الولايات المتحدة "لمحاولتها تقييد" تفاعلات دول الخليج مع الصين "وإجبارها على اختيار جانب واحد في معركة ليست لهم فيها ناقة ولا جمل". وأشار "جون ألترمان"، من "مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية"، إلى أن "دول الشرق الأوسط، تشعر بأنها لا تستطيع الاعتماد على واشنطن، "بنفس الطريقة، التي كانت لديها من قبل، وأنها تعتقد أن الاقتراب من الصين يمنحها فوائد عدة".
وبالنسبة إلى"سينغ"، فإنه مع استعداد "الولايات المتحدة" للاستمرار في كونها "الشريك الأمني الأقوى" لدول الخليج فإن "الصين"، تظل الشريك الاقتصادي الأكبر" لمنطقة الخليج، ما يجعل الاختيار بين الاثنتين "أمرًا مكلفًا" وعليه، أوصى بتبني ما أسماه بـ"المحاذاة الشاملة"، والتي تعمل كأداة تحوط ضد عدم القدرة على التنبؤ بسلوك القوى العظمى.
وبالنظر إلى المستقبل، خلص "جيرينج"، إلى أن زيارة "شي"، إلى الشرق الأوسط، تؤكد أن دول المنطقة "لديها القدرة على اختيار شركائها الخارجيين في كل شؤون التجارة، والمصالح الجيوسياسية، وأنها "ستستمر في الاستفادة من الأهمية الاستراتيجية المتزايدة لأية أطراف دولية للحصول على أفضل ما في علاقاتها معهم"
من ناحية أخرى، اعتبر آخرون أن هذه الزيارة، انعكاس لواقع تتعزز فيه العلاقات الاقتصادية بين الصين والخليج، بغض النظر عن السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط. ومن وجهة نظر، "جوناثان فولتون"، من "المجلس الأطلسي"، فإنها تمثل أكثر من مجرد "رد على رحلة بايدن" في وقت سابق من العام، أو حتى "رد فعل على الزلات الأمريكية المتصورة" من قبل الخليج حيال المنطقة بأكملها، ولكن "الصورة الأكبر والأكثر إثارة للاهتمام"، تكمن في أن العلاقات بين بكين والخليج من المقرر أن تستمر في التعمق مع مرور الوقت وسط المصالح الاقتصادية المشتركة.
وبالاتفاق مع هذا التقييم، رأت "إلين والد"، من "المجلس الأطلسي"، أن الزيارة تعكس "التقدم الطبيعي للعلاقة الصينية السعودية"، في حين رأى "ألترمان"، أيضًا أنها ما هي إلا "لمواصلة الاتجاه، "نحو توثيق العلاقات بدلاً من تأكيدها على "تصحيح المسار"، الواضح من قبل دول الخليج، وتقليل اعتمادها على الرعاية الأمريكية.
في غضون ذلك، التقى "بينغ"، أيضا بقادة من جميع أنحاء العالم العربي، وتحدث عن القضية الفلسطينية، واصفا حلها بأنه حل "حيوي" للسلام والاستقرار في الشرق الأوسط". وعلى النقيض من رفض الإدارة الأمريكية التنديد العلني باحتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية، والانتهاكات بحق المدنيين، تحدث عن "الظلم التاريخي"، "الذي لا يمكن أن يستمر إلى ما لا نهاية"، مضيفًا أن "بكين"، تؤكد مجددًا أن مطالبة الفلسطينيين بدولة مستقلة "لا يمكن نقضه من قبل القوى الخارجية".
على العموم، جاءت زيارة الرئيس الصيني "شي جين بينغ"، إلى السعودية في سياق مختلف تمامًا عن تلك التي قام بها "جو بايدن" خلال صيف عام 2022، حيث رأى المراقبون أن العلاقات المتوترة بين الغرب والشرق الأوسط، قد أتاحت فرصة أكبر لبكين للتقدم وخدمة مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية في المنطقة. وفي حين أن نتائج هذه الزيارة تتبع الأساس التقليدي للعلاقات الصينية الخليجية، وهو تعزيز مجالات التعاون الاقتصادي؛ فإن عقد مؤتمرات قمة متعددة وشراكات ثنائية في العديد من المجالات، تشير إلى المزيد من الجوانب السياسية، وأوجه التعاون أيضا، ولا شك أن هذا السيناريو يمثل معضلة واضحة للولايات المتحدة.
وعليه، فبينما يرى "ميللر" أن علاقات "الرياض" و"واشنطن"، "ليست على وشك الانهيار"، مع بقاء الأخيرة "الشريك البارز فيما يتعلق بالتعاون الأمني والاستخباراتي"، فقد أوصى "جيرينج"، إدارة بايدن بأن "تولي اهتمامًا أكبر لمصالح دول المنطقة"، تجنبًا "لمواجهة محاولات الصين لتقويض التحالفات الإقليمية"، فيما حثها "سينغ"، على تبني "استراتيجية أكثر دقة" على وجه السرعة، إزاء الحلفاء والشركاء في الشرق الأوسط، مع ضرورة اعترافها بوجود "عالم متعدد الأقطاب"، تُمنح فيه دول الخليج مزيدًا من المرونة لاختيار شركائها الخارجيين في التجارة والاقتصاد والتكنولوجيا والأمن.