19/11/2022
دول الخليج ومواجهة أزمة التضخم العالمية
يعد من أسوأ الأزمات الاقتصادية التي تقلق البشر حول العالم، هي ارتفاع معدلات التضخم، حيث ينعكس ذلك مباشرة على أحوالهم المعيشية، ويدفع بالعديد منهم إلى تحت خط الفقر، فيما قد يؤدي استمراره إلى ركود، يعيد إلى الأذهان الأزمة الاقتصادية العالمية الكبرى في ثلاثينيات القرن الماضي، والتي كانت مقدمة للحرب العالمية الثانية.
وفي الوقت الحالي، يعاني أغلب دول العالم من أزمة تضخم، كان السبب المباشر فيها، خلل سلاسل الإمداد، نتيجة أن بعض حلقاتها لم يعد إلى العمل بنفس سرعة الحلقات الأخرى، ما أدى إلى نقص المعروض السلعي، إزاء الطلب الذي نهض بقوة بعد التعافي من جائحة كورونا. وفي الواقع، كان يمكن اعتبار هذه الحالة أزمة على "المدى القصير"، سرعان ما ينجو العالم منها، بعودة هذه السلاسل بالوتيرة التي كانت عليها قبل الجائحة، لكن وقوع الحرب "الروسية الأوكرانية"، وما ارتبط بها من عقوبات، أثر تأثيرا مباشرا على انخفاض معروض الطاقة والغذاء -وهي سلع أساسية تتسم بضعف مرونة الطلب السعري عليها- فضلا عن لجوء العديد من دول العالم إلى التحوط وتكوين مخزونات استراتيجية عالية، في وقت يسود فيه عدم اليقين بشأن أمد هذه الحرب وتطوراتها، وهى الأمور التي زادت من معدلات التضخم.
وتشير توقعات "صندوق النقد الدولي" في أكتوبر 2022، إلى أن معدلات التضخم على المستوى العالمي، ستقفز من 4,7% في 2021 إلى 8,8% عام 2022، قبل أن تبدأ في الانخفاض إلى 6,50% في عام 2023، فيما ينعكس ذلك على معدل نمو الاقتصاد العالمي الذي قدر له أن يتراجع من 6% في 2021 إلى 3,2% في 2022، وإلى 2,7% في 2023. وفيما تجاوز معدل التضخم في القارة الأوروبية 10%، والولايات المتحدة 8,3%، فإن هناك دولاً قد تجاوز معدل التضخم فيها 50%، مثل زيمبابوي 285% ، ولبنان 168%، وسوريا 139%، والسودان 125%، وفنزويلا 114%، وتركيا 80%، والأرجنتين 71%، وإيران 52%، فيما بلغ معدل التضخم في مصر نحو 15%، وجيبوتي 11,6%، وموريتانيا 10,6%.
وتعد الدول الأوروبية الأكثر تأثرًا بالحرب "الروسية الأوكرانية". وجاءت أعلى معدلات التضخم في استونيا 24,9%، أوكرانيا 23,8%، ليتوانيا 22,4%، لاتفيا 21,5%، روسيا البيضاء 17,9%، بلغاريا 17,7%، التشيك 17,2%، مقدونيا 16,8%، البوسنة والهرسك 16,7%، بولندا 16,1%، هنغاريا 15,2%، رومانيا 15,3%، الجبل الأسود 14,9%، روسيا 14,3%، سلوفاكيا 14,1%، صربيا 13,2%، كرواتيا 12,8%، هولندا 12%، اليونان 11,4%، سلوفينيا 11%، إسبانيا 10,5%.
وبالنسبة إلى دول الخليج، فقد شهدت معدلات تضخم أقل عالميًا. وجاءت في قطر بنسبة 4,8%، ثم الكويت 4,2%، ثم البحرين 3,9% والسعودية 2,7%، وسلطنة عُمان 2,6%، والإمارات العربية المتحدة 2,5%. ورغم أن السعودية من أقل معدلات التضخم عالميًا، إذ سجل مؤشر الرقم القياسي لأسعار المستهلكين في مايو الماضي ارتفاعًا بنسبة 2,2%، فيما سجلت أسعار المواد الغذائية والمشروبات ارتفاعًا بنسبة 4,4%، وأسعار خدمات النقل ارتفاعًا بنسبة 4%، فإنه فضلاً عن تثبيت سعر البنزين من يوليو 2021، فقد أمر العاهل السعودي بتخصيص 20 مليار ريال (5,1 مليارات يورو)؛ لتقديم معونات نقدية مباشرة للأسر والمواطنين من ذوي الدخل المحدود لمساعدتهم على مواجهة تداعيات التضخم، إضافة إلى زيادة مخزونات المملكة من السلع الأساسية.
ومن جانبها، أعلنت "الإمارات"، مضاعفة برنامجها المخصص لمساعدة الأسر المحدودة الدخل إزاء ارتفاع الأسعار، ليصل إلى 7,6 مليارات دولار، فيما أعلنت الحكومة تقديم دعم شهري بنسبة 85% من زيادة سعر الوقود عن 2,1 درهم للتر، و75% من تضخم أسعار المواد الغذائية، التزامًا منها بتوفير المساعدة للمواطنين، لتمكينهم من الإيفاء بمتطلبات المعيشة وتوفير حياة كريمة لهم.
أما "الكويت"، فكانت قد جمدت أسعار المواد الغذائية منذ تفشي وباء كورونا في مارس 2020، واستمرت في التشبث بقيودها المفروضة على المبالغ التي يمكن أن تتقاضاها الشركات مقابل المواد الغذائية الأساسية، كما أقرت الحكومة في يونيو 2022، منحة مالية قدرها 3000 دينار كويتي لكل شخص من أرباب المعاشات، ما كلف مؤسسة التأمينات الاجتماعية 600 مليون دينار.
فيما عززت "قطر"، مساعدات الأسر المحتاجة ودشنت عدة حملات للجمعيات الخيرية لتقديم هذا الدعم داخل وخارج الحدود، وخاصة في مناطق الأزمات؛ كاليمن، وسوريا، والسودان، وإثيوبيا، والصومال. وقامت "سلطنة عُمان"، بتثبيت أسعار الوقود، والتدرج في رفع الدعم على الكهرباء والماء، ودعم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، ومساعدة الأسر ذات الدخل المحدود.
يأتي هذا فيما ظلت "البحرين"، وفق تقرير "التنمية الإنسانية العربية 2022"، من أعلى الدول العربية في برامج الحماية الاجتماعية، التي تشمل 66% من مواطنيها، فيما كانت المملكة وفقًا للتقرير قد صُنفت كأفضل دولة من حيث سرعة الاستجابة لتداعيات جائحة كورونا.
وإلى جانب برامج الحماية الاجتماعية التي أطلقتها دول الخليج لحماية مواطنيها من التضخم، فإنه لكبح جماح هذا التضخم، قامت "البنوك المركزية"، برفع أسعار الفائدة لامتصاص السيولة، وتخفيض الطلب الاستهلاكي. وكان آخر رفع الأربعاء 2 نوفمبر، حين رفع بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي سعر الفائدة بواقع 75 نقطة، فرفع البنك المركزي السعودي ومثله الإماراتي والبحريني والقطري والعُماني سعر الفائدة بنفس القدر، وفيما تربط الكويت عملتها بسلة عملات ولا تثبتها إزاء الدولار، فإنها لم تقدم على هذه الزيادة، وقد اتبعت البنوك المركزية الخليجية، مسار بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي في رفع سعر الفائدة منذ بدأ البنك هذا المسار في 2022، وإن كانت الكويت وقطر لم يتطابقا مع هذه الزيادة بشكل كامل.
من ناحية أخرى، فإذا كان رفع أسعار الفائدة يؤدي إلى انخفاض الطلب على الأموال للاستثمار؛ فإن "انتهاج سياسة مالية توسعية قادرة على امتصاص هذا الأثر"، و"إحداث توازن في النمو الاقتصادي"؛ من شأنه تحرير دول الخليج من الوقوع في دائرة الركود. وتتضمن السياسة التوسعية "زيادة الإنفاق الحكومي"، و"تسريع الاستثمار في الطاقة المتجددة والتكنولوجيا"، كجزء من مكافحة تغير المناخ والتخفيف من مخاطره المتوسطة وطويلة الأجل، كما يمكن للحكومات "تقديم حوافز لتحقيق الاقتصاد الرقمي والخدمات الإلكترونية". ومن المعلوم، أن ارتفاع قيمة الدولار، يرفع قيمة العملات الخليجية، مما يخفف التضخم مقارنة بدول أخرى، وإذا كانت هذه الدول بالفعل ذات معدلات تضخم منخفضة، فإن ما يشغلها هو إتاحة القروض لزيادة النمو والنشاط الاقتصادي في ظل ما تملكه من وفرة مالية.
ووفقا لتقرير "صندوق النقد الدولي" -السابق الإشارة إليه- فإن الاقتصاد السعودي قد تربع على عرش دول مجموعة العشرين من حيث معدل النمو في 2022، محققًا معدل نمو بلغ 7,6%، فيما بلغ معدل النمو المتوقع للعام القادم 3,7%، حيث حقق معدلات نمو 12,2% في الربع الثاني، و8,6% في الربع الثالث لعام 2022، وكان هذا الارتفاع في الأنشطة النفطية وغير النفطية. فيما تشير توجهات الاستثمار إلى نمو اقتصادات دول الخليج خلال الفترة من (2023–2026) خاصة السعودية، مع إطلاق العديد من المبادرات، وزيادة الإنفاق على البنى التحتية والعقارات وسلاسل الإمداد.
وعلى الرغم من توقع "صندوق النقد الدولي"، حدوث ركود في كثير من دول العالم، فإنه توقع نموًا لاقتصادات دول الخليج، حيث لديها فرص طويلة المدى، مع امتلاكها أساسيات اقتصادات قوية. ولتحقيق سياسة مالية توسعية للحد من أثر ارتفاع أسعار الفائدة، رفعت السعودية الإنفاق الحكومي بنسبة 19% في ميزانية 2022، عما كان مقدرًا عند إعلان الموازنة في نهاية 2021، ليبلغ هذا الإنفاق 1,132 تريليون ريال بعد أن كان مقدرًا لها 955 مليار ريال.
أما فيما يتعلق بـ"الإمارات"، فقد توقع "البنك الدولي"، أن يحقق اقتصادها نموًا بنسبة 5,9% في 2022، وتوقع "صندوق النقد العربي"، أن يحقق معدل نمو 5,8%، وبنسبة 3,8% في 2023، مع استمرار السياسات الداعمة على مستوى الاقتصاد الكلي، وانتعاش الأنشطة الاقتصادية، وتدفق الاستثمارات الأجنبية الباحثة عن بيئات آمنة، والأثر الإيجابي لارتفاع أسعار النفط، وزيادة الإنفاق الحكومي الرأسمالي، واستمرار السياسات والإصلاحات الهادفة إلى تعزيز نمو الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي، فيما أطلقت الدولة العديد من المشروعات في مجالات البنية التحتية والطاقة، والصناعات التحويلية، واستتبع ذلك زيادة الإنفاق الحكومي، سواء في الميزانية الاتحادية أو ميزانيات الإمارات.
وعلى الرغم من سعي "الكويت"، إلى ضبط الإنفاق، والوصول إلى حالة التوازن في موازناتها العامة، إلا أن مشروع ميزانية 2022/2023، قد تضمن إنفاق مبلغ 2,9 مليار دينار كويتي. وحتى أغسطس 2022، بلغ حجم الإنفاق العام في سلطنة عُمان 8,24 مليارات ريال عُماني، بنسبة ارتفاع 11,5% على أساس سنوي.
ومع توقع أن يبلغ حجم الإنفاق في الميزانية البحرينية، 3,569 مليارات دينار بحريني في 2022؛ فقد أعدت "المملكة"، خمس استراتيجيات في خطة التعافي الاقتصادي بعد كورونا، تستهدف قطاعات حيوية لتحقيق تنمية اقتصادية شاملة الأبعاد، وتنفيذ مشاريع تنموية كبرى، بقيمة تتجاوز 30 مليار دولار في مجالات البنية التحتية والاتصالات والمواصلات والصناعات التحويلية والسياحة والقطاع الصحي. وتشمل استراتيجية قطاع السياحة، واستراتيجية قطاع الخدمات اللوجيستية، واستراتيجية تطوير قطاع الخدمات المالية، واستراتيجية قطاع الصناعة، واستراتيجية الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات.
وفي ظل التوسع في الإنفاق الحكومي، لمنع أثر رفع سعر الفائدة على النشاط الاقتصادي، وتجنيب الاقتصادات الخليجية مخاطر الركود؛ أصبحت هذه الاقتصادات جاذبة للاستثمارات الأجنبية المباشرة، في وقت تتباطأ فيه الاستثمارات عالميًا. وأشارت أرقام تدفق الاستثمار الأجنبي المباشر إلى أن دول الخليج قد استحوذت على معظم هذه التدفقات لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. ووفقا لتقرير "الاستثمار الأجنبي المباشر 2022" -الذي يعرض بيانات 2021- جاءت الإمارات الأولى بقيمة 20,6 مليار دولار، تليها السعودية 19,2 مليار دولار، ثم سلطنة عُمان 3,6 مليارات دولار، والبحرين 1,7 مليار دولار.
علاوة على ذلك، فمع زيادة الإيرادات النفطية في عام 2022، وما يتبعه من زيادة الإنفاق الحكومي لتنفيذ مشروعات رؤية 2030، يجد الاستثمار الأجنبي المباشر في دول الخليج، التي عوضت بسياساتها المالية، الآثار الانكماشية للسياسة النقدية، "مجالاً جاذبًا" له. واجتذبت السعودية استثمارات أجنبية مباشرة بقيمة 2 مليار دولار في الربع الأول من 2022، وأعلنت وزارة الاستثمار بها عن توقيع 456 صفقة بقيمة 925 مليون دولار في الربع الثاني.
وخلال النصف الأول من العام الحالي، بلغت قيمة تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر 3,73 مليارات دولار في "الإمارات". وتمكنت "البحرين"، من استقطاب استثمارات أجنبية مباشرة إلى قطاع الصناعة والخدمات اللوجستية، بقيمة 290 مليون دولار في الأشهر الستة الأولى من 2022، فيما أعلنت هيئة تشجيع الاستثمار الأجنبي المباشر في "الكويت"، عن استقطاب 347 مليون دولار في النصف الأول لعام 2022. وفي نهاية الربع الأول لعام 2022، ارتفع حجم الاستثمار الأجنبي المباشر في "سلطنة عُمان"، بنسبة 19% .
على العموم، فإن إدارة دول الخليج لأزمة التضخم العالمية، متواكبة مع ارتفاع إيراداتها النفطية؛ قد مكنتها من السيطرة على معدلات التضخم أولاً، وعدم انزلاق هذه الأزمة إلى ركود باتباع سياسات مالية توسعية، تحقق معها في نفس الوقت الانضباط المالي وتوازن الميزانية، وهي الأمور التي جعلتها بمنأى عن التأثيرات السلبية، التي أصابت الكثير من الاقتصادات العالمية الكبرى.