12/11/2022
"ملتقى البحرين للحوار بين الشرق والغرب".. وتعزيز قوة البحرين الناعمة
يشير مفهوم القوة الناعمة إلى القدرة على الإقناع والتأثير والجذب من دون إكراه أو استخدام لأدوات القوة الخشنة، عسكرية كانت أو اقتصادية. ومنذ غدت البحرين عضوًا فاعلا في المجتمع الدولي، وهي تعمل بمهارة على توظيف عناصر قوتها الناعمة، استنادًا إلى عمقها الحضاري، وريادتها في التعليم والثقافة، وما امتلكته من تنوع مذهبي وديني وعرقي، وثقافة شعبية تتسم بعلو قيم التسامح والعيش المشترك.
ومن الثابت، أن أبرز ملامح توظيف البحرين لقوتها الناعمة، كان دورها الريادي في إنشاء "مجلس التعاون الخليجي"، بعد عِقد واحد من نيلها الاستقلال، كما برزت أيضا حين قررت دول الخليج إنشاء "جامعة الخليج العربي"، وجعلت من المملكة مقرًا لها، عقب الاجتماع الرابع للاتفاقية العامة للتعليم العربي لدول الخليج في أبريل 1979، وكان من نتيجة هذا التأثير أن اتخذت العديد من الشركات والمصارف العالمية منها مقرات إقليمية لها، وأصبحت الخدمات المالية من أهم روافد الاقتصاد البحريني.
ويعد "ملتقى البحرين للحوار بين الشرق والغرب"، والذي انطلق في المنامة في 3 نوفمبر، هو أحد ثمار استثمار البحرين لقوتها الناعمة، حيث يمثل حلقة في سلسلة طويلة عمل جلالة الملك المعظم على تعزيزها منذ أن تولى المسؤولية عام 1999، عن طريق بناء النموذج لدولة خليجية صغيرة محدودة الموارد، تتحول ديمقراطيًا، وتبني نموذجها في التنمية الشاملة، مستندة إلى مجموعة من القيم الإنسانية النبيلة، وفي مقدمتها قيم التسامح والعيش المشترك، ولهذا لم يكن غريبًا أن يختار المجتمع الدولي، بعد فترة وجيزة من توليه الحكم، الشيخة "هيا بنت راشد آل خليفة"، رئيسًا للجمعية العامة للأمم المتحدة في 2006.
وفي ترجمة فعلية، حرص جلالة الملك منذ توليه المسؤولية على تمثيل أتباع الديانات المختلفة في مؤسسات الدولة، إيمانًا منه بأهمية دورهم في بناء "دولة عصرية"، انطلاقًا من أنهم بحرينيون بالأساس، وأن الانتماء الوطني يعلو على ما دونه من انتماءات دينية أو طائفية، كما حرص على استمرار الاجتماع بالعلماء ورجال الدين وممثلي الديانات في المملكة ليستمع إلى رؤاهم ومطالبهم خاصة في المناسبات الدينية، فضلاً عن المشاركة في احتفالاتهم، وسمح لكل أصحاب الديانات، بإنشاء الجمعيات والأندية الدينية، واستمر في رعاية مؤتمرات التقريب بين المذاهب، وشارك في السنة الدولية لحوار الحضارات 2001، التي أطلقتها الأمم المتحدة، كما احتضنت المملكة مؤتمر الحوار الإسلامي والمسيحي في أكتوبر2002، واستضافت مؤتمر التقريب بين المذاهب الإسلامية في سبتمبر 2003.
وانعكاسًا لهذا النهج، تنظم المملكة سنويًّا منذ عام 2004، مؤتمر "حوار المنامة" لدعم السلام والاستقرار الإقليمي. وفي 2005، أصدر جلالة الملك القانون رقم (20) الخاص بتنظيم عمل المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، الذي من بين أهدافه التقريب بين المذاهب الإسلامية. وفي العام نفسه، قامت مدارس البحرين الحكومية بتدريس مادة الديمقراطية وحقوق الإنسان ضمن مناهجها الدراسية، ليتم بعدها تعميم مشروع المدارس المعززة للمواطنة وحقوق الإنسان ليشمل جميع المراحل الدراسية.
واستكمالا، استضافت في يناير 2008، "مؤتمر الحوار بين الحضارات"، والتقى جلالة الملك، "بابا الفاتيكان" في يوليو 2008، كما شارك في العام نفسه في ملتقى حوار الأديان بمقر الأمم المتحدة بنيويورك. ومن جانبها، أصدرت "وزارة العمل والتنمية الاجتماعية"، قرارًا في سبتمبر 2012 بالترخيص وتسجيل الجمعية البحرينية للتسامح والتعايش بين الأديان في سجل قيد الجمعيات والأندية الاجتماعية والثقافية؛ بهدف العمل على نشر ثقافة التسامح الديني بين الناس، فيما احتضنت المملكة في 2014 مؤتمر "الحضارات في خدمة الإنسانية".
واستمرارًا لدورها في تعزيز قيم التسامح والعيش المشترك في عالم يموج بالصراعات؛ كانت مبادرة جلالة الملك في 2016، بإطلاق "كرسي الملك حمد الأكاديمي للحوار بين الأديان ودراسات التعايش السلمي"، في جامعة "سابينزا" الإيطالية العريقة - تأسست عام 1303- ويستهدف الوصول إلى عقول وقلوب الشباب في جميع أنحاء العالم، من خلال توفير المعرفة والإلهام اللازمين لتعزيز التعايش السلمي. وتقدم التخصصات الأكاديمية في هذا الكرسي: دراسات دينية، تاريخ وانتروبيولوجيا، والوساطة الثقافية، مع التركيز على الحوار بين الأديان، باعتباره وسيلة لتحقيق التعايش السلمي.
وفي 2017، تم إطلاق "إعلان مملكة البحرين"، في لوس أنجلوس؛ لإعلان بداية عهد جديد يجسد روح التسامح ورؤية جلالة الملك، ومفهومه للتعايش المشترك. ويمثل هذا الإعلان "مرجعا عالميا"؛ يهدف إلى تعزيز قيم السلام والتسامح، ويؤكد حرية الفكر والمعتقد في إطار العيش المشترك. علاوة على ذلك، أمر جلالة الملك في مارس 2018، بإنشاء "مركز الملك حمد العالمي للتعايش السلمي"، والذي نظم العديد من الفعاليات في مختلف دول العالم التي تدعو إلى التسامح والتعايش وتقدم البحرين بتاريخها الغني بقيم التسامح والتعايش السلمي والحرية الدينية كأنموذج.
ولحرصها وتوجهها الاستراتيجي لمد جسور الحوار بين قادة الأديان والمذاهب، ورموز الفكر والثقافة والإعلام؛ انطلقت في المنامة من 3– 5 نوفمبر 2022، أعمال "ملتقى البحرين لحوار الشرق والغرب"، من أجل التعايش السلمي، برعاية جلالة الملك، ومشاركة شيخ الأزهر الدكتور "أحمد الطيب"، رئيس مجلس حكماء المسلمين، و"البابا فرنسيس"، بابا الكنيسة الكاثوليكية بالفاتيكان، وعدد من الرموز وقادة وممثلي الأديان والثقافات حول العالم، وعدد من المؤسسات الدولية المعنية بالحوار والتعايش الإنساني والتسامح. وامتدت فعاليات هذا الملتقى من أهمية الحوار بين الأديان، إلى تجارب تعزيز التعايش العالمي والإخوة الإنسانية، إلى التعايش السلمي، ودور رجال وعلماء الأديان في معالجة تحديات العصر، مثل التغير المناخي، وأزمة الغذاء العالمي. وعلى هامش الملتقى أعلن الشيخ "عبد الرحمن بن محمد بن راشد آل خليفة"، رئيس "المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية" - نيابة عن جلالة الملك- إنشاء "جائزة الملك حمد الدولية للحوار والتعايش السلمي"؛ تأكيدًا لأهمية الحوار والتفاهم والتعاون المشترك بين الدول، ودعمًا لكل جهود الخير والسلام والتقارب بين كل البشر من دون تمييز، وهو ما دعت إليه الأديان السماوية، وتنظمه القوانين الدولية من أجل مصلحة الأمم والشعوب.
ومن وجهة نظر مماثلة، أشار جلالة الملك في لقاءاته مع "البابا فرنسيس"، إلى دور الفاتيكان في تحقيق التقارب بين الشعوب لإحياء الحضارة الإنسانية، عبر ترسيخ قيم العدالة والاحترام المتبادل، من أجل هدف نشر السلام في أرجاء العالم، وتأكيد البحرين دومًا أهمية الشراكة الدولية التي تعتمد الحوار الدبلوماسي والسبل السلمية، كمدخل لإنهاء الحروب والنزاعات، وانتهاج سبل التآخي والتفاهم واحترام سيادة الدول وحسن الجوار، وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، وأنها تدعو الدول الكبرى إلى العمل على حفظ الأمن والسلم الدوليين، وعلى وجه الخصوص وقف الحرب الروسية الأوكرانية، وبدء المفاوضات الجادة بين الطرفين، وأنها لن تتأخر عن القيام بأي دور في هذا المجال.
وتأكيدا لهذا، نوه جلالة الملك بأن الشراكات الدولية الفاعلة، ستسهم في قيام الدول العظمى بمراجعة وتجديد التزاماتها تجاه حفظ الأمن والسلم الدوليين، وتفادي التصعيد وتجنب المواجهات، وضرورة دعم الجهود العالمية للتصدي لموجات الفكر المتطرف، والعمل المشترك والمنسجم على معالجة أي مشكلات سياسية أو اقتصادية، وهو ما يستدعي تحديث وتطوير التنظيم الدولي؛ ليكون أكثر عدالة وإنصافًا لجميع الأمم والشعوب.
وخلال جلسات المؤتمر، توافق المتحدثون على ضرورة تبني الممارسات الصحيحة والمسؤولة لمبدأ الأخوة الإنسانية، كأسلوب حياة مستدام، لتفادي الصراعات والنزاعات، والتصدي للتحديات التي تواجه البشرية، وتأكيد الدور الرائد الذي تضطلع به البحرين في مجال نشر دعائم السلام العالمي، وتعزيز ثقافة التعايش والتسامح واحترام الأديان، ما جعلها أحد أبرز النماذج والتجارب الإنسانية العالمية، وأضاف إلى عمقها الحضاري وتاريخها الإنساني الطويل.
علاوة على ذلك، تم تأكيد أيضا احترام الخصوصيات الدينية والمذهبية، والحرية الدينية، وتمت الإشارة إلى أن البحرين غدت تحتل المرتبة الأولى عالميًا من حيث نسبة عدد المساجد ودور العبادة إلى المساحة وعدد السكان، وأنها حملت رسالة التعايش والسلام بكل حرص، لتكون منارة لبث هذه القيم، ومركزًا لمبادرات عالمية في هذا المجال.
وخلال المؤتمر، تم تأكيد أن الحوار بين الأديان والثقافات يعد "أمرًا بالغ الأهمية" للعالم حاليًا، وأن "ملتقى البحرين للحوار بين الشرق والغرب"، يعد "همزة وصل"، تربط بين "وثيقة الأخوة الإنسانية"، التي وقعها شيخ الأزهر و"بابا الفاتيكان"، في أبو ظبي عام2019 من جهة، والرسالة العالمية للسلام "كلنا جميعًا أخوة"، التي أطلقها الأخير في 2020 من جهة أخرى، وأن التعايش الإنساني يستوجب التزامًا محليًا وإقليميًا ودوليًا لنبذ التطرف الديني والتباعد والكراهية، فيما حذر الملتقى من تفاقم خطر النزاعات على أمن واستقرار المجتمع الإنساني، ووجوب التكاتف بين المؤسسات الدينية والمدنية والحكومية من أجل التصدي للمؤامرات التي تسعى إلى ضرب السلام بين الأديان.
وتبرز الدلالة الأكثر أهمية، في توقيت انعقاد الملتقى، وما توصل إليه من توافقات، وحجم المشاركين فيه، الأمر الذي يعزز قوة البحرين الناعمة، في ظل أنه تجمع عالمي مهم لقيادات دينية، وأصحاب فكر واختصاص؛ لمناقشة أهم التحديات التي تواجه العالم، والرغبة في تحقيق السلام والاستقرار لكل الشعوب. وأن البحرين في استضافتها لهذا الحدث العالمي في توقيت احتدام الصراع بين الشرق والغرب، ودعوتها أطراف الصراع للتحاور واستعدادها لبذل أي جهد لإقامة هذا الحوار وإنجاحه، تعزز بناء النموذج الذي عملت عليه منذ فترة طويلة، حيث يعد التعايش الإنساني من الثوابت الراسخة لها، ما جعلها مكانًا مفضلاً للعيش فيه، بحسب التقارير الدولية ذات الصلة.
وإدراكا لدورها في هذا الصدد، أكد سفير الولايات المتحدة لدى المنامة، خلال فعاليات الملتقى، إعجابه بالنموذج الذي تمثله البحرين، كبلد رسخ ثقافة التعايش والتسامح، فيما أكد سفير المملكة المتحدة لدى المنامة، أنها حققت "إنجازًا كبيرًا"، يشاد به عبر السنوات، بوصفها بلد التسامح والتعايش وحرية الأديان.
على العموم، أكد "ملتقى البحرين للحوار بين الشرق والغرب".. حجم التقدير العالمي الكبير للبحرين، ولجهودها في نشر قيم التعايش والتعددية وقبول الآخر، وترسيخ الأخوة الإنسانية، وليس هذا غريبًا على المملكة التي حظيت بتقدير المجتمع الدولي في مجال حقوق الإنسان، وفازت بعضوية "مجلس حقوق الإنسان"، التابع للأمم المتحدة عن منطقة آسيا والمحيط الهادي من (2019–2021) للمرة الثالثة.
وفي الأخير، فإنه في وقت يموج بالصراعات وتبدو فيه نذر حرب عالمية ثالثة، وتبحث فيه شعوب العالم عن ملاذ آمن؛ تستثمر البحرين قوتها الناعمة، ويأتي المؤتمر في توقيت صعب مع انعقاد مؤتمر الأمم المتحدة للمناخ "كوب27"، في "شرم الشيخ"، بمصر؛ ليكونا معًا نداء الجنوب: "التعاون وليس الصراع هو طريق الإنسانية".