09/11/2022
الاحتجاجات في إيران.. مطالب إصلاح أم دعوة إلى التغيير؟
تختلف الاحتجاجات الشعبية المندلعة حاليًا في إيران عن سابقتها في عدة مظاهر، منها استدامتها فترة أطول، وأن من يقوم بها أجيال تختلف قيمها وطموحاتها عن ذلك الجيل الذي عاصر الثورة الإيرانية عام 1979، حيث إنهم أكثر ارتباطًا بما يدور حولهم في العالم، فيما لم تقتصر مطالبها على الجانب الاجتماعي فقط، أو تقديم بعض المسكنات الاقتصادية لعلاج أزمات طارئة؛ وإنما تملكها اليأس من عدم تعديل سلوك النظام، الذي جعل إيران -برغم إمكاناتها الاقتصادية الكبيرة- دولة منبوذة عالميًا، متهمة بدعم ورعاية العنف والتطرف، ولولا ذلك لكان بإمكان مواردها أن تجعل مواطنيها ينعمون بمستوى جودة حياة لا يقل عن مثيله في دول العالم المتقدمة.
وعلى خلفية ذلك، كان مقتل الشابة مهسا أميني، بعد تعرضها للتعذيب على يد شرطة الأخلاق الإيرانية، القشة التي قصمت ظهر البعير، أو الشرارة التي أطلقت الاحتجاجات الشعبية في 14 سبتمبر 2022، بداية من مدينة شقز في منطقة كردستان، لتمتد إلى معظم المناطق، بما فيها العاصمة طهران. واكتنف هذه الاحتجاجات موجات من الإضراب العام، شملت شركة بوشهر للبتروكيمياويات، ومصفاة عبدان، فيما لم تفلح أعمال القمع التي قامت بها السلطات في إخمادها. وتضامنًا مع هذه الأحداث، خرج العديد من الجاليات الإيرانية في الكثير من عواصم ومدن العالم في مظاهرات، مثل ما شهدته العاصمة الفرنسية باريس، ولوس أنجلوس، في الولايات المتحدة، ومونتريال، وطوكيو، وروما، ومدن في كندا. وحتى أوائل نوفمبر، ارتفع عدد قتلى أعمال القمع التي تقوم بها السلطات إلى 133 قتيلاً.
من جانبه، وصف الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي الاحتجاجات بـ"المؤامرة" على البلاد التي تعيق تقدمها. فيما حذر رئيس البرلمان من أنها تزعزع الاستقرار، وحث قوات الأمن على التعامل بشدة مع المتظاهرين. واستشعارًا للاختلاف بينها وبين سابقتها، صرح العضو البرلماني محمد باقر، بأنها تهدف إلى الإطاحة بالحكومة، بينما ما سبقها كان بغرض القيام بإصلاحات، قامت بها فئات تسعى إلى زيادة دخولها. يأتي هذا في الوقت الذي رفعت فيه المظاهرات شعارات لا للنظام، ودعت إلى تغييره، بل تشديد العقوبات الدولية عليه، فيما اتهم المرشد الأعلى علي خامنئي، الولايات المتحدة، وإسرائيل، بتدبير هذه الاحتجاجات التي وصفها بـ أعمال شغب، وعبر عن دعمه الكامل لأجهزة الأمن في تعاملها معها.
وفي ظاهرة جديرة بالملاحظة، فإن مشاركة الشباب دون عمر 25 عاما في الاحتجاجات الأخيرة، قد فاقت غيرها من الفئات العمرية، وكان مقتل مهسا أميني، عاملاً في تفجير تذمر مكبوت ومتراكم لديهم، وخاصة أنه لا يمكن تقييدهم بأيديولوجية محددة، بعد أن أتاحت فترة كورونا، ومكوثهم في منازلهم، اتصالهم عبر منصات التواصل الاجتماعي مع العالم بشكل أوسع. وتشير المشاركة الشبابية الكبيرة إلى انتفاضة الأجيال الحالية ضد القوانين والواقع الذي يحياه، فيما فشل النظام التعليمي القائم في إيران، وتسبب هذا الفشل في ابتعاد الشباب عن الدين، وأصبحوا يرون أنفسهم غرباء عن النظام السياسي القائم، وغابت سبل الارتباط الجيلي. وفي مؤتمر تطور التعليم، لدى الأمم المتحدة عبر الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي عن رفض بلاده لخطة التنمية المستدامة 2030.
وقبل الاحتجاجات الحالية، شهدت إيران -منذ قيام الثورة في عام 1979- العديد من الاحتجاجات المعارضة للنظام، لكنها كانت أعمالا محدودة النطاق، استطاع النظام إخمادها. وبعد أن تولى آية الله علي خامنئي القيادة في1989، كانت هناك العديد من الموجات الاحتجاجية، والمظاهرات المطالبة بتحسين ظروف المعيشة، لكنها أيضًا ظلت محدودة، ولم تنجح في إحداث أي تغيير.
واستمرارا، جاءت مظاهرات 2009، عقب الانتخابات الرئاسية المتنازع عليها، لتصبح أول موجة احتجاجية كبيرة منذ 1979، وبرغم نزول الملايين من المحتجين إلى الشوارع، اعتراضا على تزوير الانتخابات التي منحت محمود أحمدي نجاد ولاية ثانية، ورغم استمرار ما سُمي حينئذ بـ"الحركة الخضراء"، شهورًا، إلا أنها لم تفلح في تحقيق أهدافها، وظل قادتها قيد الإقامة الجبرية، وقد كان لدى هذه الحركة الدوافع، وقدرة التعبير عن مطالبهم، لكنها افتقدت أهم خاصية وهي الاستمرارية، حيث شهدت تراجعًا حادًا تسبب فيه القمع الحكومي من ناحية، والكلفة الباهظة التي دفعها المحتجون من ناحية أخرى.
علاوة على ذلك، فإن اقتصار الحركة الخضراء، على الطبقة المتوسطة المتعلمة، المعنية بالشأن العام -حيث كان شعارها أين تصويتي- كان حافزا غير مؤثر في تحريك طبقات اجتماعية أخرى كالعمال والفلاحين، والأقليات الدينية والعرقية والبسطاء في المدن الصغيرة، كما غاب عن هذه الحركة القيادة والتخطيط، فلم يمتلك قادتها الأدوات الكافية لإبقاء المظاهرات مستمرة، ولم يلجأوا إلى تنظيم المؤيدين والتخطيط للخطوات التالية، كما لم يقدموا مستندات حقيقية تدل على تزوير الانتخابات، لذلك سرعان ما انحسرت الاحتجاجات، بل إنه في عام 2013، نزل هؤلاء المحتجون المؤيدون للحركة بالملايين لاختيار حسن روحاني المعتدل.
وردًا على الانتقادات المتزايدة، اندلعت الاحتجاجات مرة أخرى في 2018 و2019، احتجاجًا على سوء الأحوال المعيشية، وارتفاع أسعار البنزين ثلاثة أضعاف، وكانت عشوائية تمامًا، بلا قيادة أو تنظيم، وبدأت في المدن الصغيرة، ولم تصل إلى طهران، إلا في مرات قليلة، وقادتها كانوا من الطبقة العاملة والفقراء والعاطلين عن العمل، ولم تكن قادرة على حشد كثير من الناس، ولم يتخط المشاركون فيها حاجز العشرة آلاف في كثير من الأحيان. ومن ثم،ّ فشلت هذه الأعداد في تقويض شرعية النظام. ونتيجة للجوء المتظاهرين فيها إلى استخدام العنف وإضرام النيران في المؤسسات والممتلكات العامة، ضعفت إمكانية انضمام المتظاهرين المحتملين إليها، كما أنها أمور ساعدت الحكومة في قمع المظاهرات بشكل سريع، مستخدمة كل وسائلها من اعتقال وتعذيب وسجن مشدد وإعدام.
وفي احتجاجات نوفمبر 2019، قطعت الحكومة خدمة الإنترنت بشكل كامل لمدة أسبوع، ولم تستمر المظاهرات أكثر من أسبوعين، واتسمت بغياب القيادة المنظمة، والمشروع السياسي، الذي يعبئ الجماهير، رغم استنادها إلى استياء شعبي عميق نتيجة الظروف المعيشية الصعبة، وتصرفات النظام داخليًا وخارجيًا، كما غاب عنها المجتمع المدني، وتوحيد الأهداف والشعارات.
وفي المقابل، تنبئ شعارات الاحتجاجات الحالية "الموت للدكتاتور.. لا تخافوا نحن موحدون.. هذا العام عام سقوط خامنئي"، فضلا عن إعلان أصحاب المتاجر مقاطعة الشركات الداعمة للأجهزة الأمنية لأول مرة، ودخول قطاعات حيوية على خط الإضراب، وإلغاء عدد من الدول جميع رحلاتها السياحية إلى إيران؛ أن الأمر مختلف هذه المرة، وإنه قد يعد أخطر تحد للنظام منذ قيام الثورة الإيرانية. ووفقا لمنظمة حقوقية إيرانية، تتخذ من النرويج مقرًا لها، فإن ما لا يقل عن 234 شخصا بينهم 29 طفلاً، قد قتلوا على أيدي قوات الأمن في حملات القمع.
وتعكس حدة العنف جدية التهديد الحالي الذي يواجهه النظام، وخاصة أن هذه الموجة هي ضد أحد أهم ركائز الثورة الإيرانية، وهو البعد الديني، الذي بمقتضاه صدر قانون فرض الحجاب عام 1983، وقانون الحجاب والعفة في يوليو 2022، وقد أخذ خطباء المساجد ينددون باستخدام العنف ضد إمام مسجد المدينة في زاهدان، الذي قال من فوق المنبر إن المرشد علي خامنئي، ومسؤولين آخرين يتحملون المسؤولية أمام الله، وإن الشعب غاضب في جميع أنحاء البلاد إزاء تصرفات النظام.
بالإضافة إلى ذلك، تتسم الاحتجاجات الحالية، بتصاعدها وانتقال عدوى التظاهرات بوتيرة سريعة، وانتشارها حتى وصلت إلى أكثر من 50 مدينة كبيرة وصغيرة، بما فيها العاصمة طهران، وكذلك المدن الدينية، مثل مدينة قم، التي تضم معظم المعاهد الدينية؛ ما يشير إلى مدى الاحتقان الشعبي حتى في المناطق المحافظة، كما اتسمت بمشاركة واسعة من المرأة، التي قامت بحرق الحجاب أثناء الاحتجاجات في تحدٍ واضح للسلطة الدينية، فيما ضمت التيارات الليبرالية والمحافظة، فضلاً عن العرقيات المختلفة، وتجاوز غضب الجماهير الشرطة، وامتد إلى النظام ذاته مطالبًا بإسقاطه، وسقوط خامنئي وابنه، الذي كان يروج له ليكون خليفته.
ويؤجج تصاعد الموجة الاحتجاجية الحالية، ما وصلت إليه الأحوال في إيران من تردي الأوضاع الاقتصادية، جراء العقوبات الدولية والأزمات المتلاحقة التي تسبب فيها النظام، حيث يعيش المجتمع تحت ضغوط اقتصادية شديدة، وصلت معها البطالة إلى معدلات مرتفعة، فيما أخفقت الحكومة في التعامل مع الأزمات المتلاحقة كأزمة المياه وأزمة كورونا، كما أن اعتماد الحكومة على أذرعها الأمنية للقضاء على الاحتجاجات، وقيامها بقطع الإنترنت، قد أدى إلى تصاعد العنف، وزيادة كثافة المظاهرات. وبينما ينتظر الإيرانيون من الدولة حلولاً لتحسين أوضاعهم، فقد نفد صبرهم وامتلكهم اليأس في تقديم حلول في ظل سيطرة النظام القائم، بل غدت الأوضاع القائمة حاليا تشبه مثيلاتها قبل 1979.
على العموم، يظل تحول الاحتجاجات الشعبية الراهنة إلى ثورة عامة، مرهونًا بعدة عوامل منها مدى تماسك مؤسسات النظام نفسها، والمدى الزمني لاستمرارها بنفس الزخم. ومع ذلك، فإن استمرارها بهذا الشكل حتى الآن ينبئ بأن هذه المرة ليست مطالب إصلاح، لكنها دعوة إلى التغيير، وأنه حتى لو استطاع النظام إنهاء التظاهرات بصورة أو بأخرى، فلن تكون الأخيرة من نوعها في المدى المنظور، ما لم تكن هناك حلول فعلية لمشكلاتهم وعدم الاكتفاء بالمسكنات.