23/10/2022
مؤشرات على تراجع نفوذ "واشنطن" الدبلوماسي
في مستهل "استراتيجية الأمن القومي"، لإدارته الصادرة في أكتوبر 2022، أعلن الرئيس "جو بايدن"، أن الحاجة إلى قيادة أمريكية حول العالم "قوية كما كانت في أي وقت مضى"، وتفاخر بأن الولايات المتحدة "قوية في الخارج لأننا أقوياء في وطننا"، بناء على اقتصاد "ديناميكي"، وتفوق عسكري "لا مثيل له"، وشعب "مرن ومبدع"، و"نظام ديمقراطي يمكّننا من إعادة تقييم أنفسنا باستمرار وتجديد قوتنا".
وفي حين نصبت أمريكا منذ فترة طويلة نفسها "زعيمة العالم الحر"، بحجة أن "تقاليدها الديمقراطية، وحرياتها المدنية، وسيادة القانون، ونموذجها الاقتصادي"، "مرغوبة في جميع أنحاء العالم"، فقد سجلت مجموعة "أوراسيا"، كيف أنه خلال العقدين الماضيين، تعرض "التفوق الجيوسياسي لها إلى "ضربة"، حيث يشكك الكثيرون الآن في "حكمة"، و"شرعية" هذا الادعاء. وفي ضوء ذلك، كتب "بروس ستوكس"، من "المعهد الملكي للشؤون الدولية"، أن "النموذج الديمقراطي لأمريكا يتضاءل؛ "بسبب أزمة الشرعية والاستقطاب، وأنها تواجه أزمة" لا تتعلق بالحيوية الاقتصادية، أو البراعة الدبلوماسية، أو القوة العسكرية"، بل تتعلق بـ"الشرعية الدولية"، ويبدي حلفاؤها "شكوكًا بشأن وضع واتجاه ديمقراطيتها"، حيث "لم يعودوا ينظرون إلى النظام السياسي لها "كنموذج" يجب محاكاته.
ويأتي مفهوم "التراجع الديمقراطي" في مقدمة أسباب تراجع نفوذ "الولايات المتحدة" على الصعيد الدولي. وفي مؤشر الديمقراطية الصادر عن وحدة "الإيكونومست للمعلومات الاقتصادية" لعام 2021، احتلت المرتبة 26 عالميًا، بعد "المملكة المتحدة، وألمانيا، وفرنسا، وإسبانيا، واليابان، وحتى إسرائيل"، واُعتبرت "ديمقراطيتها معيبة"، وليست "كاملة". وسجلت "الوحدة"، أن المؤسسات الديمقراطية فيها "مثقلة بمستويات شديدة من الاستقطاب السياسي، والثقافي"، مع "تفاقم الخلافات في الرأي، والطائفية السياسية، والجمود المؤسسي".
علاوة على ذلك، أشار "ستوكس"، إلى تراجع "الإيمان بالديمقراطية الأمريكية" حول العالم، باعتباره "مشكلة أساسية" لـ"واشنطن". ووجد استطلاع أجراه مركز "بيو" للأبحاث عام 2021، أن 17٪ فقط من الأمريكيين ينظرون إلى ديمقراطيتهم على أنها "مثال جيد للاقتداء به"، بينما يرى 75٪، أنها "كانت مثالًا جيدًا"، لكنها "لم تعد كذلك في السنوات الأخيرة". وتم تسجيل أنماط مماثلة من التقييمات الدنيا ممن شملهم الاستطلاع عبر الدول الغربية، مثل كندا وفرنسا وألمانيا وهولندا.
ووفقا لـ"ستوكس"، فإن نقد الديمقراطية الأمريكية، يرتكز حول "عدم الاستقرار المؤسسي والحزبي"، و"انتقال السلطة بين إدارات مختلفة السياسات"؛ ما يجعل هناك تصورات بأن "واشنطن"، "لا يمكنها الوفاء بتعهداتها المتعلقة بالسياسة الخارجية"، حيث كانت وجهة النظر الدولية لها "مُتغيرة"، صعودًا وهبوطًا؛ "اعتمادًا على ماهية ساكن البيت الأبيض وسياساته الخارجية"، وذلك منذ رئاسة "جورج بوش" الابن، الأمر الذي عزز الاعتقاد بأن قوة ديمقراطيتها آخذة في التآكل.
ولتفسير هذا "التراجع"، رأت منظمة "فريدوم هاوس"، أن "واشنطن"، تعاني من "الضغط الحزبي على العملية الانتخابية، والتحيز، والخلل في نظام العدالة الجنائية، والسياسات الضارة بشأن الهجرة وطالبي اللجوء"، فضلاً عن "الفوارق في الثروة، والفرص الاقتصادية، والنفوذ السياسي". وانطلاقا من هذا، انخفضت ثقة الشعب في حكومتهم. وفي حين حازت السلطات الثلاث "التنفيذية والتشريعية والقضائية"، على ثقة الأمريكيين في تصنيف مؤسسة "جالوب"، عام 2005، فقد أظهر أحدث استطلاع أجرته المؤسسة أن 43٪ فقط منهم يثقون في سلطتهم التنفيذية، بينما يثق 38٪ فقط بالهيئة التشريعية. فيما رصد استطلاع أجراه "صندوق مارشال الألماني"، في سبتمبر 2022، انخفاضًا في تصورات الأمريكيين عن ديمقراطيتهم من 55٪ في عام 2021، إلى 38٪ فقط بعد عام، مع اعتقاد 30٪ منهم الآن بأن الديمقراطية في بلادهم "في خطر".
وعلى وجه الخصوص، أشارت "فريدوم هاوس"، إلى رئاسة "دونالد ترامب"، على أنها أبرزت التحديات الكامنة في النموذج الديمقراطي الأمريكي، واتهمتها "بتقويض القيود التي تحد من تضارب المصالح"، وكيف أن الرئيس ومستشاريه "كثيرا ما أدلوا بتصريحات مضللة، أو غير صحيحة"، وخلصت إلى أن "الافتقار إلى الشفافية والنزاهة، يوصف جوانب متعددة من تلك الإدارة".
علاوة على ذلك، أشارت "وحدة الإيكونومست"، إلى أن نقل السلطة "المضطرب"، بين "ترامب"، و"بايدن"، أدى أيضًا إلى تقويض سمعة أمريكا الديمقراطية في الخارج. وأكدت "فريدوم هاوس"، على محاولات "ترامب"، تغيير نتائج الانتخابات من خلال تشجيع الناخبين على اقتحام مبنى "الكابيتول" في يناير 2021، والتمسك بالسلطة". وبعد عامين من هذه الانتخابات، لم تهدأ التوترات السياسية، ولا تزال نظريات المؤامرة في الانتخابات الرئاسية لعام 2020، تحظى بتأييد واسع. ووجد استطلاع أجراه موقع "إكسيوس"، بالتعاون مع مؤسسة "مومنتيف" في يناير 2022، أن أكثر من 40٪ من الأمريكيين ما زالوا يعتقدون أن فوز "بايدن" غير شرعي.
بالإضافة إلى ذلك، تمت الإشارة إلى القيود المفروضة على الحقوق المدنية في النظام السياسي للبلاد، مثل "التلاعب الحزبي"، في "توزيع الدوائر الانتخابية"، و"إعادة التصويت بالولايات على أسس سياسية"، وهي ممارسات رأت "وحدة الإيكونوميست"، أنها "تشكل خطرًا إضافيًا لزيادة العجز الديمقراطي". إلى جانب ذلك، شهدت أمريكا مؤخرًا مؤشرات سلبية على تقليص حقوق التصويت للعديد من المواطنين. وسجل مركز "برينان للعدالة"، أنه في عام 2021 وحده، أدخلت 19 ولاية 34 قانونًا تقيد الوصول إلى التصويت عبر تنفيذ متطلبات أكثر صرامة لبطاقات هوية الناخب، وحدود الأطر الزمنية للتصويت عبر البريد، وزيادة السهولة التي يمكن بها إزالة أسماء الناخبين من السجلات". وعند النظر إلى البعد السياسي لمثل هذه الإجراءات، أشارت "المنظمة"، إلى أن هذه "القيود"، تأتي بغرض التأثير على المجموعات السكانية التي يُنظر إليها على أنها تدعم المرشحين الديمقراطيين".
وفيما يتعلق بالجرائم وعقوبة السجن، فإن سجل "الولايات المتحدة" في هذا الصدد، لا يقدمها كنموذج يحتذى به في العالم. ورأت "فريدوم هاوس"، أن أعمال العنف للشرطة "نادرًا ما تتم المساءلة بشأنها"، وأنه عندما يتم اتهام الضباط بارتكاب انتهاكات ما، "تنتهي تلك الحالات عادةً بالبراءة، أو الأحكام بتهم مخففة". وبشكل كبير، ارتفع تعداد السجناء بها منذ عام 1970 من 200 ألف إلى أكثر من 1.2 مليون سجين عام 2021. وبينما تنتقد بشكل متكرر أوضاع السجناء في البلدان الأخرى، فإن "ظروف السجون والاعتقال، ومراكز الاحتجاز السابقة للمحاكمة، غالبًا ما تكون سيئة على مستوى الولايات الداخلية"، وقد مكّن هذا العامل من الانتشار السريع لفيروس كورونا بين السجناء والمعتقلين على حد سواء.
وتنعكس المشاكل الداخلية في "الولايات المتحدة"، على نقاط التأثير العالمية لها. وعلى الرغم من تعزيز مستويات تأييدها من قبل الدول الواقعة في شمال وشرق أوروبا في ضوء الحرب "الأوكرانية- الروسية"؛ بما في ذلك، "بولندا، وليتوانيا، ورومانيا، والسويد"، والتي تراوحت معدلات الشعور بالإيجابية تجاهها ما بين 74٪ و61٪، فقد كانت هناك معدلات أقل تأييدًا من قبل المملكة المتحدة (54٪)، وألمانيا (53٪)، وفرنسا (49٪)، وإيطاليا (45٪). وفي حين أن التصورات حول موثوقيتها كحليف للدول الأوروبية قد انبثقت من دعمها السياسي والاقتصادي والعسكري لـ"كييف"، فإن هذه الثقة على مستوى القارة لا تزال عند (65٪) فقط. وتتناقض هذه الأرقام بشكل حاد مع نسبة الـ83٪ من البريطانيين، والـ78٪ من الألمان، والـ62٪ من الفرنسيين المؤيدين للولايات المتحدة عام 2000.
وعليه، أوضح "ستوكس"، أن هناك تحولا في النمط العام لوجهات النظر الأوروبية؛ حيث إن تلك الدول "لطالما أيدت "بيل كلينتون"، ثم سرعان ما انتقدت "جورج دبليو بوش"، وبعد برهة أيدت "أوباما"، وأخيرًا انتقدت "ترامب"، وأن التغييرات "الواضحة" في مثل هذه المشاعر تجاه الولايات المتحدة وقادتها؛ تعكس "تأرجح معدلات الاستحسان والتأييد من إدارة إلى أخرى". وفي ضوء ذلك، تساءل المراقبون "عما إذا كانت الالتزامات التي تعهد بها "بايدن"، مثل "التعاون الدولي، ومعالجة ظاهرة تغير المناخ، والحفاظ على القيادة الأمريكية بحلف شمال الأطلسي، ودعم كييف"، يمكن إلغاؤها، والرجوع عنها تمامًا من خلال أي رئيس مستقبلي.
وبالإضافة إلى المخاوف بشأن التراجع الديمقراطي الداخلي، فإن تأثيرها العالمي قد تعرض أيضًا لتحديات ملحوظة. وبدا واضحًا وفقًا لمسح أجراه "صندوق مارشال الألماني"، إنه في حين أن 62٪ من الأوروبيين ينظرون إليها باعتبارها حاليًا القوة العالمية الأكثر نفوذاً؛ يعتقد 35٪ فقط أنها ستستمر على هذا النحو حتى عام 2027، لا سيما مع توقع كبير أن "الصين"، ستكون "القوة الرئيسية على المسرح العالمي"، بحلول هذا التاريخ وما بعده.
وكنتيجة لذلك، تم الاعتراف أيضا بتراجع المكانة العالمية للولايات المتحدة بين الأمريكيين. ووجد مركز "بيو"، أنه في عام 2022، اعتقد 68٪ منهم أن بلدهم حاليًا أقل احترامًا دوليًا، مما كان عليه في الماضي. وفي عام 2021، اعتقد 19٪ فقط منهم أن نظامهم الديمقراطي، يعد "مثالًا جيدًا يمكن للدول الأخرى أن تحذو حذوه، بينما يعتقد 72٪ أنه كذلك، ولكنه لم يعد نموذجًا للآخرين.
وتشير تراجع معدلات الاستحسان والتأييد الدولي للنموذج الديمقراطي الأمريكي إلى وجود تحديات تعترض دبلوماسيتها على الساحة الدولية. وأشار "ستوكس"، إلى أن "سلطة وشرعية"، واشنطن في "إقناع الدول الأخرى بتلبية متطلبات صعبة تدعم المصالح الأمريكية فحسب"، قد تم التشكيك في قوتها، مشيرًا إلى أن توقيع الاتحاد الأوروبي على اتفاقية تعاون استثماري مع الصين في ديسمبر 2020، كان "دليلًا على ضعف النفوذ الأمريكي".
وبعد ما يقرب من عامين من تولي إدارة "بايدن" زمام الأمور، لم يتم شغل 27٪ من مناصب السفراء الأمريكيين في جميع أنحاء العالم، حيث يفتقر الشركاء الاستراتيجيون للولايات المتحدة، مثل السعودية، وقطر، والإمارات، والكويت حاليًا إلى مسؤولين دبلوماسيين رفيعي المستوى. وأوضحت "مات ماليس"، من "جامعة نيويورك"، أن هذا الوضع، كان نتيجة الجمود السياسي، حيث "تباطأت الحكومة في تعيين سفراء جدد"، كما أن الجمهوريين بمجلس الشيوخ، الذين يجب عليهم تأكيد مثل هذه التعيينات "رفضوا كثيرا من المرشحين تقريبًا"، على خلفية اعتراضات حزبية غير ذي صلة".
وفي محاولة لتقديم حلول للمشكلات السياسية والاجتماعية المحلية الحالية للولايات المتحدة، أكد "ستوكس"، أنه لكي تستعيد "واشنطن"، "مكانتها" في جميع أنحاء العالم، يجب أن "تتغلب على تحدياتها السياسية الحزبية، وحالة الجمود المؤسسي، وعدم الاستقرار"، كما أنها "ستحتاج إلى إثبات أنها قادرة على انتهاج سياسات دولية مستدامة يمكن لأصدقائها وأعدائها الاعتماد عليها". وكجزء من هذا، أكد أن "مؤسسة السياسة الخارجية"، يجب أن تنظر إلى طرق "إحياء الديمقراطية الأمريكية"، على أنها "حجر الزاوية للقيادة العالمية الأمريكية المستقبلية"، وهو الأمر الذي يتطلب "انخراطا مباشرا مع الأمريكيين"، "وفهما أفضل" لمشاعر الإحباط حيال ديمقراطيتها".
ومن خلال تقديم بعض التوصيات، أشارت مجموعة "أوراسيا"، إلى أن التعليم هو "أحد أكبر العوامل التي تنبئ بالمواقف المؤيدة للولايات المتحدة"، وبالتالي حثتها على منح المزيد من تأشيرات الطلاب للأجانب و"دعم جهود البلدان الأخرى لتعليم شبابها". وفي ضوء استطلاعات الرأي التي أشارت إلى أن "المعاملة غير العادلة للأقليات"، بها "تنتقص من جاذبية ديمقراطيتها الدولية"؛ أضافت "المجموعة"، أن جزءًا مهمًا من "استراتيجية تعزيز الديمقراطية" المستقبلية للولايات المتحدة، يجب أن تكون موجهة نحو "التصدي للعنصرية وتعزيز الحقوق المدنية محليًا".
على العموم، فإن عدم استطاعة "الولايات المتحدة"، الحفاظ على "التماسك السياسي"، و"الوحدة الاجتماعية" في مواجهة الأحداث التي تتحدى مستقبل وجود مؤسساتها الديمقراطية، مثل جائحة كورونا، أو الانتخابات الرئاسية لعام 2020 وما بعدها؛ دليل على أنها يجب أن تتخذ نهجًا أكثر جرأة لإصلاح الانقسامات الداخلية من أجل تعزيز ضعفها الدولي، وتقوية شوكة العلاقات والنفوذ في وقت يتسم بالتنافس المحموم بين القوى العظمى، ويشهد الكثير من الحروب، والصراعات الأهلية، والصعوبات الاقتصادية. وبما أن شرعية وعدالة نظامها الديمقراطي قد باتت "موضع شك" في الوقت الراهن، فإنه يترتب على ذلك ضعف قدرتها على التأثير في الدول الأخرى لتبني أية إجراءات ديمقراطية في هذا الصدد.