العدد 39 خريف 2004
افتتاحية العدد: تقرير وزارة الخارجية الأمريكية حول الحريات الدينية في العالم.. قضية مقدسة ومعايير مزدوجة
لفت تقرير وزارة الخارجية الأمريكية حول الحريات الدينية في العالم والصادر يوم 15 سبتمبر 2004 الأنظار من جديد نحو الازدواجية الأمريكية في التعاطي مع مختلف القضايا المثارة، خاصة تلك المتعلقة بالعالمين العربي والإسلامي وأعطى مبررًا جديدًا رسخ من الاعتقاد السائد بتحيز التقارير الصادرة عن واشنطن بشأن حقوق الإنسان والحريات الدينية، بعدما فقدت مصداقيتها وتحولت إلى "ورقة سياسية" في الغالب بسبب ازدواجية المعايير التي تحكم بها على أوضاع حقوق الإنسان والحريات المدنية من ناحية، وعدم مراعاتها للخصوصية الثقافية والدينية للدول من ناحية أخرى.
والحقيقة أن التقييم السلبي المسبق لتقرير وزارة الخارجية الأمريكية الأخير، حول الحريات الدينية، في العالم لم يأت فقط بسبب وضع المملكة العربية السعودية على لائحة الدول التي تنتهك الحريات الدينية وذلك لأول مرة منذ بداية صدور التقرير الذي زعم تعرض الأقليات التي لا تدين بالمذهب السني في المملكة لمضايقات وعدم ممارسة السعوديين حرية العقيدة، وأن غير المسلمين يواجهون مخاطر الاعتقال والسجن والجلد والترحيل وأحيانًا التعذيب لمشاركتهم في أنشطة دينية، على الرغم من ارتباط هذه الخطوة بالتطورات التي طرأت على العلاقات السعودية ـ الأمريكية بعد أحداث 11 سبتمبر، بل يأتي لأسباب أخرى أصبحت حقائق معترف بها على الصعيد الدولي.
فلماذا ـ "على سبيل المثال أحجمت واشنطن عن وضع السعودية على هذه اللائحة منذ بداية صدور التقرير رغم تعدد المطالب الأمريكية بذلك، مع أن شيئًا لم يتطور في المملكة للأسوأ في مجال الحريات الدينية، بل العكس هو الصحيح، حيث وضعت السعودية، التي تخوض حربًا شاملة ضد الإرهاب والعنف، خططًا طموحة لتأهيل رجال الدين وتطوير برامج التعليم وترشيد الخطاب الديني وإجراء حوار وطني مع كافة الطوائف بهدف القضاء على التطرف والإرهاب الذي باتت تعانيه بعد الغزو الأمريكي للعراق.
الإجابة الواضحة على ذلك هي أن وضع اسم المملكة على قائمة الدول التي تنتهك الحريات الدينية يأتي في سياق الحملة المستمرة ضد السعودية بعد أحداث 11 سبتمبر، والتي يغذيها اللوبي الصهيوني واليمين المتطرف، بهدف النيل من سمعة المملكة وممارسة الضغوط عليها لوقف دعمها للقضايا العربية والإسلامية وخاصة للقضية الفلسطينية، والذي يتضح في الدعم السياسي والمادي الذي تقدمه السعودية لها في الوقت الراهن فضلاً عن دورها التاريخي في خدمة هذه القضية، والذي أكدته الوثائق السرية البريطانية التي كشف عنها في شهر سبتمبر 2004، وجاء فيها أن الملك عبد العزيز آل سعود كان من أشد المعارضين لقيام دولة إسرائيل، وأنه رفض مبلغ 20 مليون جنيه استرليني عرضه عليه رئيس الوزراء البريطاني وقتها ونستون تشرشل عام 1943 بطلب من رئيس الوكالة اليهودية في وقتها حاييم وايزمان. مقابل المساعدة في قيام دولة إسرائيل، ونقلت هذه الوثائق عن وزير الخارجية البريطاني في ذلك الوقت انتوني ايدن قوله: "إن الملك عبد العزيز آل سعود لن يقبل ذلك، ولن يقبل حتى استقبال حاييم وايزمان لمناقشة مستقبل فلسطين، ولن يوافق على أن يزكي للعالم العربي أي صيغة تشابه ولو من بعيد الطموحات الصهيونية".
كما تستهدف الحملة ضد المملكة محاولة التأثير على العلاقات المتميزة التي تربط بين الولايات المتحدة والسعودية والتي تستثمرها الرياض لصالح القضايا العربية والإسلامية عبر الضغط على واشنطن لتعديل سياساتها المنحازة في المنطقة، فهذه العلاقات لا تروق للوبي الصهيوني والذي يرغب بطبيعة الحال في استمرار الانحياز الأمريكي لإسرائيل.
وفي نفس السياق يمكن فهم وضع السعودية على القائمة المذكورة على أنه محاولة واضحة لابتزاز المملكة والضغط عليها للرضوخ لقائمة المطالب الأمريكية بدعوى مكافحة الإرهاب والإصلاح السياسي والديمقراطي، خاصة أن المملكة لا تقبل بهذه المطالب حيث أكدت على خصوصية الإصلاح من ناحية، وأهمية المعالجة المتدرجة والواعية لقضايا مثل عمل الجمعيات الخيرية وتطوير التعليم، فهي وإن كان قد قامت بخطوات واسعة في هذا المجال مثل إنشاء هيئة للإشراف على المؤسسات الخيرية، إلا أن هناك فجوة واضحة بين سقف المطالب الأمريكية والاستعداد السعودي، تعكس بالطبع تطرف هذه المطالب وعدم أخذها في الاعتبار مجموعة الاعتبارات السياسية والاقتصادية والثقافية والدينية للمملكة.
والثابت أن تقرير وزارة الخارجية الأمريكية قد عكس هذه الحقيقة، حيث طرح مجموعة من التوصيات التي قال إنها "واجبة " لإنهاء الانتهاكات المزعومة للحريات الدينية في السعودية، والتي تتطابق مع الأجندة الأمريكية التي تريد فرضها على السعودية في مجالي الإصلاح السياسي ومكافحة الإرهاب، حيث تشمل هذه التوصيات مطالب للسعودية بتقديم حساب حول أشكال الدعم التي تقدمها إلى المدارس الدينية والمساجد والمراكز التعليمية والمؤسسات الدينية الأخرى على مستوى العالم بما في ذلك الولايات المتحدة، وأن توقف تمويل الأنشطة الدينية في الخارج وتنشر أنشطة المنظمات الخيرية السعودية الموجودة خارج البلاد، وتمتنع عن منح الصفة الدبلوماسية لرجال الدين المسلمين والمعلمين في خارج المملكة وأن تغلق جميع أقسام الشؤون الدينية في السفارات السعودية في العالم كله، فضلاً عن سرعة إجراء الإصلاحات السياسية والاقتصادية والقضائية وتعزيز أوضاع حقوق الإنسان والتوقف عما أسماه التقرير، "وسائل الكراهية وعدم التسامح أو التحريض على العنف"، وإزالة العوائق التي تواجه إذاعة "سوا " – وهي أمريكية - لتغطية أرجاء المملكة.
وفضلاً عن ذلك، فقد أصبحت السعودية "ورقة انتخابية" في سباق الانتخابات الأمريكية المقرر إجراؤها في شهر نوفمبر 2004 وكانت إحدى القضايا التي استغلها المرشح الديمقراطي جون كيري، وهو المؤيدين لإسرائيل بـ "اعترافه"، للهجوم على الرئيس جورج بوش حيث اتهمه بسوء إدارة العلاقات الخارجية والأمن القومي بدعوى علاقته المتميزة بالسعودية، واتهم أيضًا الإدارة الأمريكية بالتهاون في التعامل مع السعودية، وقال أنه سيتخذ سياسات أكثر تشددًا مع دول مثل السعودية في حالة فوزه.
وفي تقدير معظم الخبراء يأتي إقدام الإدارة الأمريكية على وضع اسم المملكة لأول مرة على لائحة الدول التي تنتهك الحريات الدينية يأتي لدعم حظوظ الرئيس بوش في الانتخابات والتقليل من أهمية اتهامات كيري، ودحضًا لشائعات كثيرة تحدثت عن قيام الرئيس بوش بإبرام اتفاق تقوم الرياض بموجبه بزيادة الإنتاج النفطي لخفض أسعار النفط قبيل الانتخابات الأمريكية بهدف مساعدته لإعادة انتخابه، وبعض الشائعات الأخرى التي تحدثت عن ممارسة الرياض ضغوطًا على الإدارة الأمريكية لإدخال تغييرات على السياسة الأمريكية، ووفقًا لـ "آلان ليثمان" أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الأمريكية في واشنطن فإن السعودية حلت إلى درجة كبيرة محل الصين في الانتخابات الأمريكية الحالية وأصبحت رمزًا للقضايا الحساسة التي تواجه الولايات المتحدة.
كما يتجاهل التقرير الخصوصية الدينية والثقافية للمملكة ومكانتها المرموقة في العالم الإسلامي، فإذا كانت الحريات الدينية بها قاصرة على الطائفة السنية فقط فإن هذا لا يعني أنها تضطهد أصحاب الديانات والمذاهب الأخرى، والدليل على ذلك هو انتقاد المرجع الشيعي السعودي البارز حسن الصفار لهذا التقرير، مؤكدًا أن المواطنين الشيعة في المملكة يرفضون التدخلات الأجنبية في شؤون بلادهم وأنهم جزء لا يتجزأ من وطنهم ويرفضون استخدام اسمهم للضغط والابتزاز من قبل أي جهة أخرى، لافتًا إلى أن الشيعة كبقية السعوديين يتواصلون مع الحكومة لمعالجة أي مشكلات تواجههم كما يتضح في الحوار الوطني .
وفضلاً عما سبق، هناك ملاحظات كثيرة تدعوا إلى القول بأن تقرير وزارة الخارجية الأمريكية حول الحريات الدينية – وهو السادس الذي تصدره منظمة الحريات الدينية الدولية التابعة لوزارة الخارجية الأمريكية والتي أنشئت في عام 1998 بعد صدور قانون الحريات الدينية بغرض الرقابة على أوضاع الحريات الدينية في العالم- فقد مصداقيته وتحول كغيره من التقارير الأمريكية حول حقوق الإنسان إلى مجرد ورقة للضغط السياسي على الدول الأخرى وابتزازها، من هذه الملاحظات:
1 – أن التقرير يعكس ازدواجية المعايير الأمريكية في تعاملها مع كافة القضايا المثارة بما فيها موضوع الحريات الدينية التي تتمتع بأهمية خاصة لدى معظم الشعوب، والدلائل على ذلك كثيرة، أهمها عدم إدراج إسرائيل على قائمة الدول التي تنتهك الحريات الدينية رغم سجلها الحافل في هذا المجال، حيث اكتفى التقرير ـ وعلى استحياء مستفز ـ بإشارة سريعة للتمييز الذي يعانيه غير اليهود في إسرائيل، متجاهلاً الجرائم التي ترتكبها ضد المقدسات الإسلامية والمسيحية وسياستها العنصرية والتمييزيه ضد غير اليهود بها، والأمثلة على ذلك كثيرة وتفضح الانحياز الأمريكي لإسرائيل، منها: تشجيع الجماعات اليهودية المتطرفة على استباحة المقدسات الإسلامية والمسيحية، وهدم بعض المساجد، مثل مسجد الفالوجا القريب من قطاع غزة، فضلاً عن المحاولات الإسرائيلية المستمرة لهدم المسجد الأقصى، والتي كان آخرها تأكيد يوئيل ليرنير أحد قادة اليمين الديني المتطرف في إسرائيل يوم 14 أغسطس، 2004 على وجود مخططات لنسف المسجد، فضلاً عن انتهاك إسرائيل لحرية العبادة وممارسة الشعائر الدينية للفلسطينيين مسلمين ومسيحيين كقيامها بمنع الفلسطينيين دون 45 عامًا والفلسطينيات دون 35 عامًا من أداء الصلاة في المسجد الأقصى، إلى جانب محاولات تهويد مدينة القدس والتي تعد من أشد الإجراءات الإسرائيلية خطورة وانتهاكًا للقوانين الدولية، لأنها تتم عبر أساليب غير شرعية منها مصادرة الأراضي والممتلكات الفلسطينية وممارسة أساليب القهر والإرهاب ضد الفلسطينين بهدف إرهابهم ودفعهم لمغادرة المدينة وتغير الطابع الديمغرافي، فضلاً عن هدم منازلهم بحجة البناء دون تصريح، حيث هدمت إسرائيل نحو 2000منزل فلسطيني منذ عام 1967 وحتى عام 2000، وصادرت نحو 85% من أراضي المدينة وحظرت على الفلسطينيين الإقامة فيها، وتؤكد الإحصاءات أن اليهود الذين لم يكونوا يملكون أي وحدة سكنية في القدس قبل عام 1967 أصبح لديهم نحو 142 ألف وحدة مقابل 53 ألف للفلسطينيين، وقد كشفت الصحف في منتصف شهر سبتمبر2004 عن مخطط جديد للمجلس البلدي اليهودي يستهدف الحد من البناء في الأحياء العربية في المدينة خصوصًا في الجزء الشرقي المحتل منها، كجزء من المحاولات المستمرة لتهويد المدينة المقدسة.
وفضلاً عن ذلك تمارس إسرائيل تمييزًا عنصريًا ضد المواطنين العرب بداخلها من مظاهره أن نسبة الموظفين العرب في المؤسسات الحكومية 5% مقابل 95% للإسرائيليين على الرغم من أنهم يمثلون 17.5% من عدد السكان كما تخصص إسرائيل 7% فقط من ميزانيتها للسكان العرب مقابل 93% للإسرائيليين.
2– أن الولايات المتحدة لم تعد في وضع يسمح لها بانتقاد سجل الآخرين في مجال حقوق الإنسان والحقوق الدينية، في ضوء انتهاكاتها لحقوق الإنسان سواء في معسكر جوانتانامو الذي تحتجز فيه أشخاص منذ ثلاثة أعوام من دون محاكمة أو في سجن أبو غريب الذي تعرض فيه العراقيون لأشكال غير مسبوقة من الانتهاكات على يد قوات الاحتلال الأمريكية، فضلاً عن التمييز والعنف والانتهاكات التي تتعرض لها الجاليات العربية والإسلامية في الولايات المتحدة والغرب.
لقد أصبحت قضية الحريات الدينية ـ حتى وفقًا للمفهوم الأمريكي والغربي ـ محل شك كبير خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر، وهو ما أكدته كافة التقارير الدولية حيث قامت هذه الدول بانتهاكات واسعة للحريات المدنية، ووفقًا لمنظمة العفو الدولية في تقريرها الصادر يوم 14 سبتمبر 2004 فإن السلطات الأمريكية تمارس حالات التمييز العرقي منذ هجمات 11 سبتمبر 2001، وأنها وسعت ممارستها للتمييز العرقي تحت ذريعة محاربة الإرهاب، وأصبحت تنظر إلى الدين والجنس والعنصر العرقي وبلد الموطن الأصلي على أنها "مؤشرات" على أنشطة إجرامية وتهديدات محتملة للأمن القومي، ضاربة مثالاً على التمييز الذي تعرض له طفل مسلم يبلغ من العمر 8 سنوات في أحد المطارات الأمريكية، وذلك عندما جرى تفتيش حقيبته وإخراجه من صف المسافرين!، مما أدى إلى فقدانه لوالديه، وأن والدته أكدت أنها أصبحت " مضطرة" إلى خلع الحجاب أثناء سفرها في المطارات الأمريكية تفاديًا للتمييز وأنها أوصت أبناءها عدم تحدث العربية في المطار أو داخل الطائرة، وألا يسافروا ومعهم نسخة من القرآن الكريم!!
وفي تقريره عن الحقوق المدنية للمسلمين في أمريكا خلال عام 2003 أكد مجلس العلاقات الإسلامية الأمريكية المعروف اختصارًا باسم " كير" وجود نحو 602 شكوى من حوادث تمييز تعرض لها المسلمون في أمريكا خلال عام 2002 بما يمثل زيادة 15% مقارنة بعام 2001 وزيادة قدرها 64% مقارنة بعام 2000 وزيادة بنسبة 752% مقارنة بعام 1995 ولفت التقرير أن الاعتداءات الواسعة على حقوق وحريات المسلمين واكبها انتشارا غير مسبوق لخطاب العداء للإسلام والمسلمين في وسائل الإعلام ودوائر السياسة الأمريكية خاصة اليمينية المتطرفة منها، واللافت أن تقرير " كير" رصد ارتفاعًا ملحوظًا في عدد حوادث التمييز الواسعة في حق المسلمين في أمريكا من قبل المؤسسات " الرسمية"، حيث كانت تمثل 10 % من حوادث التمييز في عام 2000 ثم ارتفعت في عام 2001 إلى 19% وبلغت 23% عام 2002.
3 – أن المصالح الأمريكية تبدو واضحة تمامًا من رصد الدول التي وردت على قائمة تقرير وزارة الخارجية للحريات الدينية، حيث وضع هذا التقرير السودان وإيران وكوريا الشمالية إضافة إلى بورما وفيتنام وإريتريا على قائمة الدول التي تنتهك الحريات الدينية، والمعروف أن معظم هذه الدول تعد مناوئة لواشنطن مما يؤكد تحول هذا التقرير إلى أداة سياسية لمعاقبة دول أخرى وابتزازها، فيما جاء رفع اسم العراق من هذه القائمة تمشيًا مع مبادئ وزارة الخارجية الأمريكية في عدم تقديم حول المناطق التي تخضع لحكم الولايات المتحدة حسب رأي بعض المحللين.
وأخيرًا يبقى التأكيد على ملاحظة هامة في التعاطي العربي والإسلامي مع تقرير وزارة الخارجية الأمريكية حول الحريات الدينية وغيره من التقارير ذات الصلة، وهي أنه إذا كان من الضروري أن تقوم السعودية وغيرها من الدول العربية والإسلامية بالتعامل مع الاتهامات الواردة بهذه التقارير حول انتهاكات حقوق الإنسان والحريات الدينية بموضوعية وهدوء فيجب على هذه الدول ـ في نفس الوقت ولأسباب كثيرة- ألا تشغل نفسها كثيرًا بتقارير مغرضة وغير موضوعية باتت أهدافها واضحة للجميع.
العدد 38 صيف 2004
افتتاحية العدد: الشيخ (محمد بن خليفة آل خليفة) وإرساء أسس الأمن في مملكة البحرين
يشكل مفهوم الأمن الوطني هاجسًا رئيسيًا لكل دولة، لاسيما إذا كانت هذه الدولة تحتل مكانة استراتيجية مهمة أو تقع في منطقة احتكاك دولي أو محاطة بجيران بعضهم قد يهدد وجودها أو لا يقبل بسياساتها أو أن مصالحهم تتعارض معها.
وتتنوع المخاطر التي تواجه الأمن الوطني لدولة ما، ما بين مخاطر خارجية مصدرها دول أو أطراف تقيم خارج إقليم الدولة، ولكن مصالحها ترتبط بتلك الدولة، وأخرى داخلية تتمثل في عناصر الشغب والتنظيمات المعادية للنظام وعصابات التهريب والجريمة المنظمة
بيد أن هذا التقسيم لم يعد يستهوي الخبراء والسياسيين على حد سواء، لأنه يعطي أولوية في التعامل مع مصادر التهديد الخارجية في الوقت الذي ربما تكون فيه التهديدات الداخلية أكثر خطرًا، كما أنه لم يعد من الممكن الفصل بين الداخلي والخارجي، فمثلاً الدول التي تتسم بعدم اكتمال مراحل نموها القومي وضعف قدراتها التكاملية والاندماجية تخلق فرصًا عديدة للقوى الخارجية لاختراق أمنها القومي، ومن ثم تهديده. وانطلاقًا من ذلك قسم بعض الباحثين مصادر التهديد إلى مصادر رئيسية وأخرى ثانوية اعتمادًا على درجة خطورة التهديد بصرف النظر عما إذا كان خارجيًا أم نابعًا من الداخل.
ومع التحولات التي شهدها العالم خلال العقد الأخير من القرن العشرين، تغيرت طبيعة وأشكال التهديدات التي تتعرض لها الدولة، واتخذت أبعادًا جديدة ، فإذا كان الاهتمام انصب في العقود الماضية على طبيعة التهديدات ما بين عسكرية وسياسية، فإن المرحلة الراهنة تستدعي النظر إلى ما أفرزته، وتفرزه، المتغيرات والمستجدات على الساحة الدولية من تنامٍ لظاهرة الإرهاب والجريمة المنظمة وعمليات الاتجار غير المشروع بالمخدرات والمؤثرات العقلية، وغير ذلك من الأعمال الإجرامية.
وأخذًا في الاعتبار هذه التطورات مجتمعة، فإن الدور الذي تقوم به وزارات الداخلية وما يندرج تحتها من أجهزة وإدارات أمنية، يعد غاية في الأهمية، وذلك على ضوء الحقيقتين التاليتين:
ـ فشل محاولات إقامة نظام دولي للأمن الجماعي قادر على الردع الفعال لأي دولة تعتدي على دولة أخرى بالنظر إلى أن العمل الجماعي الدولي وحفظ السلام الذي يعتبر من مبادئ الأمم المتحدة قد تضاءل تدريجيًا، ولم تعد معظم الدول تثق بالمنظمة في ظل النظام الدولي الجديد، حيث تم استبعادها من الكثير من القضايا الدولية ذات الصلة بالأمن والسلم الدوليين.
ـ هشاشة التحالفات الدفاعية والأمنية بين الدول، إذ أثبتت خبرة النصف الثاني من القرن العشرين أن معظم الاتفاقات والتحالفات الدفاعية كانت غير فاعلة.
وتواجه مملكة البحرين منذ استقلالها عام 1971 تحديات وتهديدات داخلية وخارجية لم تتعرض لمثلها أي من الدول الأخرى المجاورة، كانت تسير وفق منحنى متذبذب بين الصعود والهبوط.
وإذا كان الإرهاب وما يرتبط به من عنف هو أخطر ما يمكن أن تواجهه أي أمة أو دولة في أي مرحلة من مراحل تاريخها، فإنه قد قفز إلى درجات من الخطورة في البحرين لعدة أسباب، أهمها:
ـ أنها تجاور دولاً كبيرة وصغيرة في المساحة والسكان، وهذا كله يفرض عليها تحقيق توازنات متعددة لصون أمنها الوطني بصورة فعالة وبما يعطيها دورًا مؤثرًا في محيطها المباشر.
ـ أنها دولة صغيرة المساحة قليلة الموارد توجه كل طاقاتها نحو التنمية وتنويع مصادر دخلها وفي ظل محدودية الموارد النفطية، فإن استقرارها يعد أهم مصادر ثروتها ودخلها باعتبارها مركزًا ماليًا وسياحيًا متقدمًا، ودولة جاذبة للاستثمار.
ـ ما يمثله موقعها من أهمية استراتيجية لأمن الخليج، فأي توتر تتعرض له ينعكس سلبًا على أمن باقي دول مجلس التعاون والدول المجاورة له، وتزداد أهمية هذا الموقع بالنظر إلى أهمية موقع منطقة الخليج التي تعد ملتقى ثلاث قارات ومن ثم فهي نقطة حيوية للملاحة الدولية، خاصة في ظل استحواذها على ثلثي الاحتياطي العالمي من النفط، ودلالة ذلك تكمن في أن استقرار المنطقة وأمنها يمثل ضرورة دولية.
هذه التحديات كانت تفرض ضرورة وجود قيادة أمنية خبيرة وواعية تتمتع بالولاء والانتماء، قادرة على حفظ الأمن والاستقرار، ومن هنا يتضح حجم المسؤولية التي كانت ملقاة على عاتق وزارة الداخلية بقيادة الشيخ "محمد بن خليفة آل خليفة" بدءًا بحماية الجبهة الداخلية، مرورًا بدعم الجبهة الخليجية باعتبار أن الأمن الخليجي كل لا يتجزأ، وانتهاءً بالتعاون العربي انطلاقًا من قناعة مفادها أن منظومة الأمن العربي شاملة ومتكاملة.
وقد كان الشيخ محمد بن خليفة آل خليفة نموذجًا لتحمل المسؤولية وإنكار الذات؛ فقد حمل على كاهله مسؤولية أمن واستقرار البلاد بتوجيه القيادة السياسية، فنجح في صون مقدرات الوطن وقيادة المسيرة الأمنية في مرحلة حاسمة من تاريخه الحديث، حيث استطاع من خلال سياسة رشيدة هادئة توازن بين الحزم الأمني واحترام حقوق الإنسان وبين حقوق الفرد وحقوق المجتمع، الوصول بالبلاد إلى بر الأمان 000 ساعد في ذلك انتماء ووعي الشعب البحريني نفسه.
ويحسب له أنه أرسى فلسفة أمنية تنطلق من عدة أسس، أولها: تهيئة المناخ الأمني لدفع حركة التنمية الشاملة وتشجيع الاستثمار، انطلاقًا من قناعة مفادها: "أن ثمة علاقة بين الأمن والتنمية، باعتبار أن الأجهزة الأمنية يقع عليها عبء العمل على تحقيق الاستقرار وتوفير الأمن كمناخ ضروري وطبيعي لنجاح التنمية في مختلف المجالات"، الأمر الذي أثمر العديد من النتائج الإيجابية التي صبت في تقدم الإنسان البحريني ورفاهيته، منها: انحسار الإرهاب وزيادة معدلات التنمية وفرص العمل. ثانيها: العمل على توفير خدمات أمنية حقيقية للمواطن، تتجاوز مراحل الأمن الجنائي والأمن السياسي إلى الأمن الصحي والتعليمي والغذائي والثقافي بالقدر الذي يبث في نفوس المواطنين الشعور بالطمأنينة والاستقرار، وذلك انطلاقًا من: "أن الأمن مفهوم مجتمعي شامل، لا يقتصر فقط على الجوانب الدفاعية والعسكرية، وإنما يتضمن كذلك أبعادًا اجتماعية واقتصادية وثقافية". ثالثها: إشراك قوى المجتمع المختلفة في المجال الأمني (المؤسسات الأهلية والحكومية العاملة في مختلف المجالات التعليم والصحة والاقتصاد والشؤون الاجتماعية والعمل) بهدف تعميق الثقة والتعاون بين المواطنين ورجال الأمن. رابع هذه الأسس: الاستفادة من خبرات الدول الصديقة والتعاون معها من خلال التنسيق وتبادل المعلومات والمشورة حول التعاطي مع بعض التحديات الأمنية، على أساس أن ذلك أصبح "ضرورة تمليها المتغيرات الدولية من حيث تطور الجريمة وتعديها حدود الدولة وميلها إلى العنف، وغير ذلك من التحديات التي لا يمكن مواجهتها إلا من خلال ذلك التعاون على جميع مستوياته وآفاقه".
ومن واقع انتمائه القومي فقد كان حريصًا على تعزيز التعاون الأمني مع الدول العربية، واضعًا في اعتباره عدة أمور كان يؤكد عليها في كل مناسبة، وهي:
* إعطاء الأولوية لحماية أمن الوطن والمواطن العربي، والمحافظة على منجزاته في مجال التنمية.
* أن التهديدات الأمنية لا تقتصر على دولة عربية دون أخرى، فما يمثل تهديدًا لواحدة منها تتأثر به باقي الدول، وأن التحديات الأمنية التي تواجه العالم العربي واحدة، وإن اختلفت أشكالها من بلد لآخر.
* تطور أساليب وأنواع الجرائم من ناحية التنظيم والتمويل والإعداد ..إلخ، وظهور مفاهيم مثل الجريمة المنظمة والعصابات الدولية، تجعل من الصعب على كل دولة أن تواجه هذه التحديات الأمنية التي تهدد استقرارها وأمنها منفردة، من دون تعاون إقليمي أو دولي، وهو ما ترجم إلى توقيع العديد من الاتفاقات الأمنية ومذكرات التفاهم 000 ومن الجدير ذكره أن الشيخ "محمد بن خليفة" لعب دورًا مهمًا في صياغة الاتفاقيتين الخليجية والعربية لمكافحة الإرهاب، واللتين جاءتا تتويجًا لجهود مختلف القيادات الأمنية العربية، ما اعتبر نقطة تحول مهمة في تعزيز مسيرة العمل العربي والخليجي المشترك في المجالين الأمني والقضائي.
وعلى الصعيد الدولي، كان للجهود التي قام بها أثرها في دعم الاقتراح الخاص باعتماد اللغة العربية لتكون إحدى اللغات الرسمية لمنظمة الإنتربول وذلك من خلال عضوية البحرين فيها.
ومنذ حصولها على الاستقلال وانضمامها لعضوية الأمم المتحدة ساهمت البحرين بدور إيجابي في حفظ الأمن والسلم الدوليين، حيث شاركت بنشاطات فعالة في منظومة الأمم المتحدة وأجهزتها المعنية بنزع السلاح، وعززت جهود مجلس الأمن في مجال السلم والأمن الدوليين وخاصة في منطقة الخليج العربي، ظهر ذلك جليًا عندما طلبت الأمم المتحدة من أعضائها بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر أن تقدم كل منها إنجازاتها في محاربة الإرهاب، وقد اعتبرت المنظمة الدولية جدية وقدرة البحرين في هذا المجال مثالاً يحتذى. وإذا كان من المعروف في أدبيات العلوم السياسية أن السياسة الخارجية لأي دولة هي انعكاس لأوضاعها الداخلية، تتأثر بها وتؤثر فيها، فإن لذلك دلالته الواضحة بالنسبة للبحرين، فالأوضاع السياسية والاقتصادية المتطورة وحالة الاستقرار التي تنعم بها أنتجت سياسة خارجية بعيدة عن أي توترات أو أزمات.
ولأن تحديث وتطوير الأجهزة الأمنية يمثل ضرورة لأي عمل أمني فعال، فقد استجاب الشيخ محمد بن خليفة لمتطلبات ذلك من خلال تزويد الأجهزة والإدارات الأمنية بالكوادر البشرية المؤهلة وذات الكفاءة ووفر لها الإمكانيات المادية والتقنية الحديثة، ووضع استراتيجيات العمل في خطط قصيرة ومتوسطة وبعيدة المدى وفق منهج علمي، مستلهمًا ما حققته المؤسسات الأمنية والمعاهد العريقة على الساحة الدولية للاستفادة من خبرتها في مجال التحديث؛ حيث أدى ذلك إلى الارتقاء بمستوى رجل الأمن وإعداده، وبذلك رفعت عملية التطوير والتجديد أجهزة الأمن البحرينية إلى مصاف نظيراتها في الدول المتقدمة.
وهكذا، نجح الشيخ "محمد بن خليفة آل خليفة" بتوجيه ودعم القيادة السياسية في أن يجعل من البحرين مملكة الأمن والأمان وأصبحت إدارته الأمنية الناجحة مدرسة تنهل منها العديد من القيادات الأمنية العربية في إدارتها للأزمات ومواجهة التحديات.
وتكريمًا لدوره في إرساء أسس الأمن في المملكة، جاء المرسوم الملكي بتعيينه نائبًا لرئيس مجلس العائلة الحاكمة، وتعيين الشيخ "راشد بن عبدالله بن أحمد آل خليفة" خلفًا له. وكان لافتًا تأكيد عاهل البلاد الشيخ "حمد بن عيسى" على الدور المميز الذي قام به أثناء توليه الوزارة، وأثنى على جهوده التي بذلها في دعم الأمن والأمان والتي أشاد بها أيضًا رئيس الوزراء، وثمَّنا ما بذله لتطوير الأجهزة الأمنية ورفع كفاءة أدائها بما عزز استتباب الأمن والاستقرار.
وإذا كان الشيخ محمد بن خليفة آل خليفة قد نجح في قيادة وزارة الداخلية في فترة حاسمة وحساسة من تاريخ البحرين، ووضع فلسفة أمنية حفظت الاستقرار وعززت التنمية، فإن الآمال معقودة على الوزير الجديد في "تحقيق كل التطلعات والآمال والأهداف المنشودة وبما يعزز من مكانة البحرين في جميع الأصعدة".
ولدى الوزير الشاب كل مقومات النجاح، فهو أولاً: يتسم بالدقة والحرص في أداء العمل، وقادر على التعامل مع الظروف الصعبة بروية يحتاجها القادة عادة، كما يتمنع بالدأب على العمل والمثابرة، ومن ناحية ثانية يتبنى رؤية أمنية شاملة حدد معالمها في العناصر التالية: مواكبة المستجدات والتحديات الأمنية لكي تنسجم مع الانفتاح السياسي وتواكب أطره في ظل المشروع الإصلاحي للملك الذي شكل أساسًا لممارسة الديمقراطية وحرية التعبير، وضرورة أن يعمل رجال الأمن في إطار الدستور والقانون واحترام حقوق الإنسان. وثالثًا: فهو قادر على فتح قنوات الحوار والتشاور مع المجتمع لإيجاد أرضية تعاون يكمل فيه كل جانب الجانب الآخر، بما يثمر عن شراكة بين رجل الأمن والمواطن يكون أحد أهدافها هو إيجاد دور للمواطن في خدمة الأمن، ورابعًا: فهو يحظى بثقة وتقدير كبيرين من الملك ورئيس الوزراء وجميع الفعاليات السياسية في المملكة، وإذا كان الوزير يملك كل هذه المقومات فقد هيأت المؤسسة ذاتها بما تملكه من انضباط وحسن تنظيم وسمعة طيبة وقيامها على أسس ومبادئ قويمة جعلتها محل ثقة على المستوى الشعبي والرسمي والدولي، هيأت له عوامل أخرى للنجاح والتميز.
العدد 37 ربيع 2004
افتتاحية العدد: الإصلاح مطلب شعبي
مثلت قضايا الإصلاح السياسي والديمقراطي لفترة طويلة أحد التحديات المهمة التي واجهت العالم العربي المتهم إضافة إلى العالم الإسلامي بأنهما السبب في أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 من قبل الولايات المتحــدة والدوائـر الغربيــة, والذين عللوا ذلك بغياب الديمقراطية فيهما.
كما فرضت مجموعة من التغيرات الداخلية والمجتمعية (كتصاعد موجة العنف والإرهاب، وفشل برامج التنمية في الداخل، وارتفاع مستويات التطور الاجتماعي والتعليمي والتي أوجدت طبقة من المثقفين لها مطالبها في الإصلاح والمشاركة السياسية،...إلخ)، والإقليمية (بداية من حرب الخليج الثانية، مرورًا بفشل عملية التسوية السلمية في المنطقة، وانتهاءً بغزو العراق واحتلاله ثم الاستسلام الليبي للولايات المتحدة مما كشف عن مدى ضعف وهشاشة القاعدة الشعبية التي تستند إليها بعض النظم العربية ومن ثم قدرتها على مواجهة التهديدات الخارجية)، فرضت ضرورة الإسراع بخطى الإصلاح السياسي باعتباره الأساس لتحقيق الأمن والاستقرار المجتمعي وتدعيم قوة وتماسك دول المنطقة في مواجهة المخاطر والتحديات التي تعترض تقدمها وتهدد مصيرها.
ونظرًا لما تمثله هذه القضية بكل تعقيداتها وتطوراتها من أهمية شديدة، فقد شغلت حيزًا مهمًا من اهتمامات العديد من المفكرين ومعاهد البحوث والدراسات العربية ومنها مركز الخليج للدراسات الاستراتيجية، الذي حرص على متابعة ورصد وتقييم الخطوات والإجراءات التي اتخذتها العديد من الدول العربية لتوسيع هامش الديمقراطية والمشاركة السياسية وتحديد جوانب القصور والإخفاق فيها ومتطلبات وآليات تفعيلها، انطلاقًا من قناعة مؤداها أن غياب الديمقراطية كان سببًا رئيسيًا في حالة الضعف والتردي التي وصلت إليها الدول العربية وتعدد المشاكل التي تواجهها؛ إذ أدى هذا الوضع إلى زيادة الفجوة بين الحكام والمحكومين ومن ثم ضعف وهشاشة الدولة من الداخل، وهو ما جسده بوضوح النموذج العراقي, حيث أضعفت قرارات "صدام " الفردية وإجراءاته القمعية ضد شعبه قيم الانتماء الوطني، وهو ما كان عاملاً حاسمًا في سرعة سقوط العاصمة بغداد في أيدي قوات الاحتلال.
كما وفر غياب الديمقراطية المبرر للقوى الدولية، وعلى رأسها الولايات المتحدة للتدخل في شؤون المنطقة والضغط عليها لتحقيق مصالحها، خاصة في ضوء التطورات العالمية التي جعلت من حقوق الإنسان عالمية الطابع وليست شأنًا داخليًا للدول. وساهم أيضًا هذا الغياب في نشر ثقافة العنف والإرهاب بين قطاعات مهمة من الأفراد بسبب غياب القنوات السلمية للحوار والتعبير عن الرأي، إضافة إلى زيادة رقعة الفقر والتخلف الاقتصادي نتيجة شيوع ظاهرة الفساد والمحسوبية وغياب المساءلة الشعبية، وهو ما يؤكد أن الرغبة في الإصلاح جاءت بالأساس استجابة لمطالب داخلية ملحة أكثر من كونها استجابة لضغوط خارجية.
ومن خلال رصد وتحليل الضغوط الخارجية التي تتعرض لها الدول العربية لتوسيع هامش الديمقراطية والإصلاح السياسي بها باعتباره عنصرًا أساسيًا في مواجهة عوامل التطرف والإرهاب الذي تفرزه الأوضاع الداخلية في المجتمعات العربية التي تفتقر لثقافة ومؤسسات الديمقراطية – طبقًا للتصور الأمريكي والغربي – والتي عكستها سلسلة المبادرات التي قدمتها الإدارة الأمريكية والدول الأوروبية، والتي نرى أنه مطلب حق يراد به باطل، بدءًا من مبادرة "كولن باول" الشهيرة التي طرحها في 12 ديسمبر 2002 وحملت عنوان "مبادرة الشراكة بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط: بناء الأمل للسنوات القادمة"، مرورًا بالمبادرة التي طرحها الرئيس بوش في مايو 2003 والخاصة بإقامة منطقة تجارة حرة بين الولايات المتحدة ودول المنطقة في غضون عشر سنوات، ثم المبادرة التي طرحها وزير الخارجية الألماني يوشكا فيشر في فبراير 2004، والمبادرة الفرنسية – الألمانية المشتركة التي جاءت تحت عنوان "شراكة استراتيجية لمستقبل مشترك مع الشرق الأوسط"، وانتهاء بمشروع "الشرق الأوسط الكبير" الذي يمثل تقنينًا للأهداف والمساعي الأمريكية الرامية إلى تغيير واقع المنطقة وإعادة رسم خريطتها السياسية، كما يمثل أيضًا محاولة جادة لهدم مقومات وجود الجامعة العربية والعمل العربي المشترك.
وانطلاقًا من ذلك، عقد المجلس الاستشاري الخليجي العربي التابع لمركز الخليج، والذي يضم عددًا من أساتذة الجامعات والمفكرين العرب أعمال حلقته النقاشية الثالثة في 4 مارس 2004 لبحث هذه القضية بمختلف أبعادها وتطوراتها, حيث تقدم بما يراه مناسبًا للعمل على الإصلاح السياسي والاجتماعي على مستوى الوطن العربي. ثم جاء المؤتمر الذي نظمته مكتبة الأسكندرية والذي أداره باقتدار د.إسماعيل سراج الدين مدير المكتبة في الفترة من 12 ـ 14 مارس 2004 والذي جاء تحت عنوان "الإصلاح العربي.. الرؤية والتنفيذ" والذي كان لي شرف المشاركة في أعماله مع أكثر من مائة وسبعين شخصية عربية فكرية وأكاديمية وممثلين عن منظمات المجتمع المدني والقطاع الخاص، وافتتحه الرئيس المصري "حسني مبارك"، فرصة أخرى لبحث الأوضاع السائدة في الوطن العربي وسبل إصلاحه. وبعد مناقشات فكرية دون حساسيات، توصل المؤتمر إلى مقترح حول استراتيجية أو صيغة موحدة تعكس رؤية المشاركين لكيفية تحقيق الإصلاح بمختلف مستوياته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية حملت عنوان "وثيقة الأسكندرية".
وقد انطلقت هذه الوثيقة من حقيقة مفادها أن المجتمعات العربية تملك من النضج والخبرة التاريخية ما يجعلها قادرة على الإسهام في تشكيل الحضارة الإنسانية وتنظيم أمورها وإصلاح أوضاعها الداخلية، دون أن يكون هناك أدنى تعارض مع ضرورات الانفتاح على العالم وتجاربه الإصلاحية والتفاعل معها طبقًا لقائمة أولويات محددة تتفق وظروف كل دولة عربية على حدة، وقد تضمنت العديد من الأفكار والمقترحات لتحقيق الإصلاح بمفهومه الشامل، فعلى صعيد الإصلاح السياسي، طالبت بتجديد أشكال الحكم عن طريق تداول السلطة بالطرق السلمية طبقًا لظروف كل بلد، وإقامة انتخابات دورية حرة، وإلغاء مبدأ الاعتقال بسبب الرأي وإطلاق سراح سجنائه، بالإضافة إلى إجراء إصلاح دستوري بما يضمن أداءً ديمقراطيًا سليمًا يفرض الشفافية التامة واختيار القيادات الفاعلة والتحديد الزمني لفترة قيامها بمسؤولياتها والتطبيق الفعلي لمبدأ سيادة القانون، كما دعت إلى تحرير الصحافة ووسائل الإعلام من التأثيرات والهيمنة الحكومية، بما يجعلها دعامة قوية من دعائم النظام الديمقراطي، وإطلاق حرية تشكيل مؤسسات المجتمع المدني.
وعلى صعيد الإصلاح الاقتصادي، دعت الدول العربية إلى وضع خطط واضحة وبرامج زمنية محددة للإصلاح المؤسسي والهيكلي، والتصدي الحاسم للمشكلات المعوقة للاستثمار وتشجيع برامج الخصخصة بما في ذلك القطاع المصرفي، والتركيز على سبل علاج البطالة، وتطوير البنية الأساسية لتكنولوجيا المعلومات، وتطوير برامج تمويل المشروعات الصغيرة، وإرساء قواعد الحكم الجيد للنشاط الاقتصادي مع تأكيد الشفافية والمحاسبة، وتمكين المرأة من الإسهام الكامل في قوة العمل الوطنية، ومعالجة الفقر، وتنظيم سوق العمل العربي وتنشيط العلاقات الاقتصادية البينية...إلخ.
وفيما يتعلق بالإصلاح الثقافي، طالبت بالعمل على ترسيخ أسس التفكير العقلاني والعلمي وتشجيع مؤسسات البحث العلمي وتوفير التمويل اللازم لها، وفي الوقت نفسه القضاء على منابع الإرهاب والتطرف والتجديد في الخطاب الديني، وفتح أبواب الاجتهاد في قضايا المجتمع للعلماء والباحثين، وتطوير حقوق المرأة بما يحقق المساواة العادلة في العلم والعمل، وتهيئة المناخ الثقافي اللازم بتخليصه من الشوائب العالقة به والمعوقة لتقبل الحوار والاختلاف مع الرأي الآخر.
وعلى صعيد الإصلاح الاجتماعي، أوصى المشاركون في المؤتمر باستمرار تحمل الدولة مسؤوليتها في تمويل ودعم مؤسسات التعليم والبحث العلمي مع ضمان الاستقلال الأكاديمي لها، والقضاء على الأمية، والعمل على تحقيق الاستقرار الاجتماعي في المجتمعات العربية، الأمر الذي يتطلب صياغة سياسات فعالة تضمن عدالة توزيع الثروة وعوائد الإنتاج في مجالاته المختلفة، والعمل على صياغة عقد اجتماعي جديد بين الدولة والمواطن العربي يحدد على وجه قاطع حقوق الدولة والتزاماتها إزاء المواطن وحقوق الأخير وكيفية الحفاظ عليها.
وقد حرصت الوثيقة على استحداث آليات تتيح متابعة ما تم التوصل إليه من مقترحات، ومن أبرز تلك الآليات، تأسيس "منتدى الإصلاح العربي" في مكتبة الأسكندرية ليكون فضاء مفتوحًا للمبادرات والحوارات الفكرية والمشاريع العربية سواء فيما يتعلق بالإصلاح العربي أو إقامة جسر لكل أشكال الحوار والتعاون مع مؤسسات المجتمع المدني العالمي، مع تشكيل لجنة متابعة تجتمع كل ستة أشهر على الأقل لمراجعة ما تم تنفيذه.
ورغم أن الوثيقة لم تحدد آليات واضحة ومحددة لتنفيذ هذه المقترحات والتصورات واكتفت بالتأكيد على أن مسؤولية تنفيذها تقع على عاتق الحكومات ومؤسسات المجتمع المدني على السواء، فإنها أكدت ـ هي وغيرها من المؤتمرات الفكرية العربية الأخرى العديدة التي ناقشت هذه القضية – أن استمرار الأوضاع الراهنة في المنطقة العربية كما هي عليه أصبح مستحيلاً، وأن الإصلاح سواء تم نتيجة ضغوط ومطالب داخلية ملحة أو استجابة لضغوط خارجية أصبح مسألة حتمية للخروج من هذا الوضع المتردي الذي تعيشه الأمة العربية.
إن طريق الإصلاح في العالم العربي والخطوات التي ينبغي اتخاذها لتحقيقه، كما قال المفكر القومي المعروف أ. صلاح الدين حافظ على مسمع ومرأى كل المؤتمرين لساعات وقبل صدور التوصيات واضحة ومعروفة للجميع، ولا ينقص هذه الأمة سوى توافر الإرادة الحقيقية الواعية بأهمية الإسراع بخطى الإصلاح واتخاذ إجراءات عملية جادة لتحقيق ذلك، فإذا كان للدول العربية أن تتطور وللشعوب العربية أن تتقدم، فلابد من إدخال إصلاحات حقيقية وشاملة لتغيير الوضع القائم، وليس إعطاء جرعات مؤقتة أو اتخاذ خطوات شكلية لامتصاص الضغوط الداخلية والخارجية, فهل تقوم الدول العربية بإصلاح ذاتها وأوضاعها الداخلية قبل أن يأتيها الإصلاح مفروضًا من الخارج ولخدمة أهداف ومصالح خارجية أو من الداخل.
العدد 36 شتاء 2004
افتتاحية العدد: الولايات المتحدة من الحكمة فى استخدام القوة إلى الدخول فى سراب القوة
لاشك في أن المحصلة النهائية لعام 2003 تصب لصالح جورج بوش الابن وفريقه من المحافظين المتشددين وكذلك لصالح حليفه الوفي توني بلير، فالعراق قد احتل وصدام حسين تم اعتقاله في مشهد درامي مثير تم إخراجه بعناية فائقة استنادًا إلى سيناريو محكم تم إعداده من قبل ، وها هي الأهداف الأمريكية تتحقق مجانًا أو بتكلفة محدودة، فإيران توافق على التوقيع على البروتوكول الإضافي لاتفاقية حظر انتشار الأسلحة النووية، بل وتقبل بالبيان الأخير الصادر عن مجلس محافظي الوكالة والذي أدان تصرفات إيران السابقة، ورغم أن البيان لم يؤد إلى إحالة الملف النووي الإيراني لمجلس الأمن، إلا أن إمكانية إحالة الملف واردة في حالة عدم وفاء إيران بالتزاماتها ، ومن ثم فسوط إحالة الملف النووي الإيراني إلى مجلس الأمن لازال مسلطًا على إيران.
وهاهو العقيد القذافي يدعو الشعب الليبي إلى مساندة قراره بالتخلص من أسلحة الدمار الشامل برغبته. ثم تأتى كوريا الشمالية لتعلن مؤخرًا عن استعدادها لإيقاف العمل ببرنامجها النووي مقابل الحصول على ضمانات أمنية ومساعدات أمريكية، وهو عرض يقترب من العرض الأمريكي في هذا الشأن.
وفيما يتعلق بالهدف الأمريكي بمكافحة الإرهاب وتحقيق الإصلاح الديمقراطي في الدول العربية والإسلامية، هناك استجابات واضحة من جانب هذه الدول للمطالب الأمريكية. والأجندة الأمريكية بشأن إعادة هيكلة العالم والشرق الأوسط على وجه التحديد تسير في المسار المخطط لها بشكل ملحوظ ولاشك في أن هذا كله يصب في مصلحة جورج بوش وتوني بلير، والاتجاه المحافظ المتشدد في الإدارة الأمريكية. ولا يبقى خارج هذا الإطار إلا عمليات المقاومة العراقية والأفغانية، التي تحدث بشكل متقطع هنا وهناك، وأصوات بعض الحكماء الأمريكيين والأوروبيين الذين يخشون من أن تؤدي هذه النتائج إلى الإسراف في استخدام القوة والحرب دون حكمة.
وإن كانت السياسة عادة ما تتعامل مع ما هو قائم من أجل الوصول إلى ما يجب أن يكون، فإن الإشكالية القائمة الآن هي عدم وضوح البوصلة الهادية أو المرشدة إلى ما يجب أن يكون، حيث تسود السياسة الدولية حالة غير مسبوقة من السيولة وعدم اليقين، الأمر الذين يجعل دائرة التركيز على ما هو قائم بحد ذاته أمرًا معقدًا بل بالغ التعقيد.
والتعامل مع ما هو قائم يتطلب قدرًا من القدرة على التكيف مع الظروف القائمة تجنبًا للمخاطر الناتجة عن الفشل في التكيف والخروج عن الإطار العام للسياسة الدولية، وهو أمر ليس بالأمر السهل كما قد يتصور بعض ساسة العالم الثالث، لأن المسألة لا تقتصر على اتخاذ قرار مفاجئ يتلاقى مع رغبات قادة البيت الأبيض، بل المسألة أكبر من هذا، لأن المطلوب هو إعادة هيكلة شاملة اقتصاديًا وسياسيًا وفكريًا مع متطلبات تحقيق هذه الرغبات، النموذج الليبي خير دليل على هذا، فقد طالبت ليبيا بمكافأة على قرارها الأخير، وجاءت المكافأة من واشنطن وهى تمديد وضع ليبيا في قائمة الدول الراعية للإرهاب وعدم رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها حتى الآن من جانب الولايات المتحدة، ولا أحد يدري على وجه التحديد ماذا تريد الولايات المتحدة من ليبيا حتى يتم رفعها من قائمة الدول الراعية للإرهاب ، وحتى يتم رفع العقوبات عنها.
إنه ابتزاز القوة في مواجهة دول لازالت تتخذ قراراتها بشكل عفوي ومن دون دراسة محددة وفى ظل خلل شديد في توازن القوى، الأمر الذي يجعل الحسابات القديمة لا مكان لها في سياق واقع جديد له أرقامه وأوزانه النسبية المختلفة، وتوازناته الجديدة.
وإن كان الأمر كذلك فإن ما يجب الالتفات إليه هو أن حقائق السياسة ديناميكية متغيرة وليست ثابتة، وأن الوضع القائم الآن هو وضع مؤقت لا يمكن البناء عليه، لأنه يمثل في حقيقة الأمر سقف تأثير القوة الأمريكية الذي أعتقد أنه لا يمكن أن يتجاوزه، هذا السقف يمثل إطارًا ضاغطًا على كافة القوى السياسية في العالم، الأمر الذي لابد وأن يتولد عنه مقاومة بشكل أو بآخر لهذا الوضع، وهو ما يحذر منه حكماء أمريكا من خلال خشيتهم من استخدام القوة بغير حكمة، لأن استخدام القوة هو وسيلة بحد ذاته، فإن تحول إلى هدف فإن مستخدمه يكون قد دخل في دائرة سراب القوة، لأنه وليد فكرة أن هناك حدودًا لتأثير القوة لا يمكن تجاوزها.
فهل تدخل الولايات المتحدة إلى سراب القوة أم تجد من ينقذها من الوقوع في هذا الشرك الذي تصنعه بيديها؟ سؤال سوف تجيب عنه أحداث العام الجديد والأعوام التالية.