3/9/2022
التوجه الفرنسي تجاه العلاقات الخليجية.. الأبعاد والمحددات.. وجهة نظر غربية
اعتبر العديد من المحللين الغربيين عملية التقارب الصيني في منطقة الخليج والزيارة المرتقبة للرئيس الصيني للرياض بمثابة تحد مباشر لدور الولايات المتحدة التقليدي في الخليج. ومع ذلك فإن بكين ليست اللاعب الدولي الوحيد الذي يرى انسحاب واشنطن من الشرق الأوسط، سواء كان حقيقيًا أو متصورًا؛ كفرصة لتوسيع روابطها الاقتصادية ونفوذها السياسي، فقد أبرز "جان لوب سمعان" من "المجلس الأطلسي" كيف أن "ماكرون" يفكر في وضع فرنسا كبديل بين واشنطن وبكين. وعلى الرغم من افتقارها إلى القوة العسكرية والاقتصادية، فهي تمتلك نفوذًا للقوة الناعمة، ونجحت في إقامة علاقات قوية مع الإمارات خاصة.
وبالرغم من أن "جو بايدن" حاول تهدئة الشركاء القلقين من انسحاب الولايات من المنطقة خلال زيارته للسعودية في منتصف يوليو 2022، فإن تقليص الالتزامات الأمريكية بأمن الخليج قد جعل دولا توسع علاقاتها الاقتصادية والسياسية مع الخليج، بما في ذلك الصين. وأوضح "فولتون"، خبير في العلاقات بين الصين والشرق الأوسط وزميل بالمجلس الأطلسي، في يناير 2022 كيف أن القادة الصينيين كانوا تاريخيًا "مترددين في تحدي الهيمنة الأمريكية" في الشرق الأوسط، و"نهج الحيطة الاستراتيجية" مع أمريكا وتعميق المشاركة، وفي العام الماضي لم تعد بكين راضية بذلك.
ولعل أوضح مظهر لتوثيق العلاقات الخليجية الصينية والتنافس بين بكين وواشنطن يتم إثباته من الناحية الاقتصادية، في عام 2020 تفوقت الصين على الاتحاد الأوروبي لتصبح أكبر شريك تجاري لمجلس التعاون الخليجي، وفي الآونة الأخيرة وعلى الصعيد الاقتصادي، في 15 أغسطس 2022م، وقعت شركة "أرامكو" مذكرة تفاهم مع "ساينوبك" الصينية؛ لتعزيز التعاون في المصافي والبتروكيماويات والبناء والتقنيات وإنتاج طاقة الهيدروجين.
وأضافت "منى أبو شنيف" من معهد الشرق الأوسط (MEI) أن الأنشطة الصينية أصبحت الآن تشمل شؤون الأمن العسكري، وأعربت واشنطن عن انزعاجها من عرض الصين أنظمة اتصالات "هواوي" على دول الخليج، والتعاون في مجال الطائرات المُسيرة والذكاء الاصطناعي، كما ذكرت وسائل الإعلام الغربية في ديسمبر 2021م أن الصين والمملكة العربية السعودية بدأتا التعاون في تطوير وإنتاج الصواريخ الباليستية.
من جانبه، أوضح "سمعان" أنه في السياسة الدولية منذ عام 2017م على النقيض من الاستخدام المقارن بين الولايات والصين لتأثير القوة الصلبة، تقدم فرنسا نفسها كقوة تعزز بيئة متعددة الأطراف، إشارة إلى الطموحات الفرنسية المتجددة للتأثير الإقليمي في الخليج، ووصف "سمعان" باريس بأنها: "تضع نفسها كشريك غربي، على الرغم من أنه قد لا تكون بديلًا لواشنطن، إلا أنها توفر خيارًا ملائمًا لقادة الخليج الحريصين على تنويع شراكاتهم".
وفي خضم السؤال عن سبب انفصال فرنسا عن الدول الغربية الأخرى فيما يتعلق بالقيادة الأمريكية في الخليج؛ هو الفكرة الراسخة عن الاستقلال الاستراتيجي الفرنسي في الشؤون الدولية، أضاف "جوليان بارنز دايسي" مدير برنامج الشرق أن نهج "ماكرون" في الشرق الأوسط يمثل اعترافًا: "بأن فرنسا بحاجة إلى أن تمتلك استباقية دبلوماسية ومشاركة أصحاب النفوذ لإحراز تقدم حقيقي في القضايا ذات الأولوية".
وكان الاستخدام المتعمد لـ"القوة الناعمة" من قبل فرنسا كبديل للقوة الصلبة الأمريكية والصينية سمة ثابتة لسياسة "ماكرون" الخارجية، حيث سجل مؤشر (القوة الناعمة العالمي30) صعود فرنسا لتصبح القوة الناعمة العالمية الرائدة في العالم في عام 2017م، وحافظت على هذا المركز في عام 2019م، لتوضيح ذلك، وثقت شبكة "دويتشه فيله" كيف أن "القوة الناعمة" لا تعني القيادة السياسية فحسب، بل تشير أيضًا إلى النفوذ الثقافي لفرنسا في الخليج وشبكتها الدبلوماسية التي اعتمدت عليها حكومة "ماكرون".
وفي هذا الإطار، أشار محلل المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية إلى كيف أصبحت العلاقات الفرنسية الإماراتية أساسية، فقد ازدهرت العلاقات الرسمية بين باريس وأبوظبي في السنوات الأخيرة، حيث التقى سمو الشيخ "محمد بن زايد" رئيس دولة الإمارات مع "ماكرون" في سبتمبر وديسمبر 2021، وأيضًا زيارة سمو الشيخ "محمد بن زايد" لفرنسا في يوليو 2022 كأول زيارة له كرئيس لدولة الإمارات.
أوضح "سمعان" أن "التقارب الاستراتيجي" المتبادل بسبب وجهات نظرهم المشتركة حول القضايا الإقليمية، بما في ذلك مخاوف مماثلة بشأن الجماعات التابعة لجماعة "الإخوان المسلمين"، بالإضافة إلى ذلك، تعمل القيادة البحرية الفرنسية في المحيط الهندي من أبوظبي، وفي أبريل 2021 دعت باريس الإمارات إلى الانضمام إلى مناورات "فارونا" البحرية العسكرية التي استمرت ثلاثة أيام مع الهند.
ومثل فتور العلاقات الدبلوماسية بين الولايات والإمارات فرصة للبلدين لتعزيز العلاقات الدفاعية، وفتح تعليق صفقة مع الأمريكيين لبيع مقاتلات طراز "اف-35" في ديسمبر 2021م الباب أمام أبوظبي للموافقة بدلًا من ذلك على شراء "80" طائرة مقاتلة فرنسية الصنع من طراز "رافال"، إلى جانب اتفاقية لشراء 12 طائرة هليكوبتر نقل عسكري، وبذلك تصل القيمة الإجمالية للصفقة إلى ما يقرب من 17 مليار يورو، وتبقى أكبر صفقة بيع أسلحة دولية لفرنسا على الإطلاق، من الناحية السياسية، وصفت "بارنز ديسي" أيضًا هذه الاتفاقية بأنها: "نجاح لباريس هي في أمس الحاجة إليه في ذلك الوقت، بعد إحراجها من قبل قيام الولايات وبريطانيا باستبدال الاتفاق مع أستراليا لبيع غواصات".
ويمتد التعاون إلى الأمور الاقتصادية والجيوسياسية. وأشار "سمعان" إلى كيفية مساعدة الإمارات لفرنسا في تعزيز طموحاتها الاستراتيجية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، حيث سهلت رئاسة الإمارات العربية المتحدة لجمعية حافة المحيط الهندي العضوية الفرنسية في المنظمة في عام 2020م، وذكرت صحيفة "ذا ناشيونال" أن الزيارة المذكورة أعلاه لسمو الشيخ "محمد بن زايد" لباريس في يوليو 2022م أسفرت عن اتفاقية "شراكة إستراتيجية شاملة للطاقة" تركز على أمن الطاقة وأسعار مقبولة وخفض الكربون.
وسجل المحللون كيف أن إقامة العلاقات الفرنسية مع المملكة العربية السعودية لم تبلغ بعد المستويات، ومع ذلك أظهر "ماكرون" في الأشهر الماضية رغبة أكبر في التواصل مع الرياض، حيث التقى ولي العهد الأمير محمد بن سلمان في جدة في ديسمبر 2021م، وعقب اجتماعهما الأخير أصرت الحكومة الفرنسية على أن الطرفين "أعربا عن رغبتهما في تعميق العلاقات بين البلدين، بغية مواجهة التحديات الإقليمية والعالمية".
وبحسب "سمعان"، فإن مجال التعاون الرئيسي المنشود من قبل "ماكرون" مع الرياض يتعلق بالمصالح المشتركة للأمن في لبنان، ويتجلى ذلك من خلال إعلان بعثة مساعدة إنسانية مشتركة، واتفق الزعيمان ثانية في اجتماعهما التالي، بحسب بيان صادر عن قصر "الإليزيه"، على تكثيف التعاون بينهما من أجل تمكين لبنان من التغلب على التحديات الاقتصادية والسياسية؛ من خلال التنفيذ السريع للإصلاحات.
وأشار المحللون إلى حدود رئيسية للنفوذ الفرنسي في الخليج مقارنة بدور واشنطن وبكين، وعلى الرغم من اتفاقية ديسمبر 2021م القياسية لبيع طائرات مقاتلة وطائرات هليكوبتر فرنسية، لا تزال مبيعات الأسلحة الأمريكية إلى الخليج متفوقة، فبلغت مبيعات الأسلحة الأمريكية إلى المملكة العربية السعودية وحدها بين عامي 2000م و2019م أكثر من 60%، بينما بلغ إجمالي الإمدادات الفرنسية 8.4% فقط من واردات الرياض، ما يعني أن المبيعات الفرنسية كانت أيضًا أقل من المملكة المتحدة 12.8%.
كما لا تزال هناك عقبات دبلوماسية وسياسية، كما حذر "بارنز ديسي" من أن الجهود الدبلوماسية الفرنسية في الشرق الأوسط كافحت للوفاء بوعدها، في غضون ذلك قام "روبرت ماسون"، زميل بمعهد دول الخليج العربي في واشنطن، بتسجيل المزيد عن كيفية صعود المرشحين الشعبويين ومن اليمين المتطرف في السياسة الفرنسية مع سياسات مبطنة معادية للمسلمين والتي يمكن أن تؤثر على علاقات كل من باريس وأوروبا بدول مجلس التعاون الخليجي.
وعلى الرغم من رغبتها في الاستقلال الاستراتيجي والجيوسياسي، فقد رأى "سمعان" أن فرنسا لن تفلت تمامًا من المنافسة الإقليمية والعالمية الأوسع بين واشنطن وبكين، وكتب أن حكومة ماكرون: "ستواجه حتمًا معضلة فيما يتعلق بموقفها أو عدمه من نفوذ الصين المتزايد في الخليج"، على الرغم من أن الخبير قد سجل أن باريس لا تزال "متشككة" بشأن المخاوف الأمنية الأمريكية المطروحة على الغرب من خلال التعاون الصيني الخليجي الوثيق في مجال التكنولوجيا، فقد حلل سمعان ذلك مع استمرار الصين (وروسيا) "في تعميق مشاركتهما في الشرق الأوسط"، باريس "قد تجد أنه من المستحيل الترويج لخطابها عن عدم الانحياز" في الخليج العربي.
وأشار "ماسون" إلى كيف أنه منذ انسحاب إدارة "ترامب" من الاتفاق النووي الإيراني في عام 2018م، توترت العلاقات بين سياسة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بشأن الخليج، ومن جانبه برز الاتحاد الأوروبي كجهة فاعلة دفاعية وأمنية أكثر استقلالية من خلال إطلاقه قوة دولية لأمن الملاحة في مضيق "هرمز"، وهو مشروع أوروبي آخر يقع مقره العسكري في أبوظبي، زادت المملكة المتحدة أيضًا من انخراطها السياسي مع منطقة الخليج، وعلى الأخص عبر إعلان يونيو 2022م أنها أطلقت مفاوضات رسمية مع دول مجلس التعاون الخليجي من أجل إبرام اتفاقية تجارة حرة، وهو الأمر الذي زعمت الحكومة البريطانية أنه سيخفض التعريفات الجمركية أو يزيلها على سلع مختارة، بما في ذلك المنتجات الزراعية، وكذلك رفع التجارة بين المملكة المتحدة والخليج بنسبة لا تقل عن 16%، وإضافة 1.6 مليار جنيه إسترليني سنويًا للاقتصاد البريطاني.
ومن الواضح أن تكوين علاقات أوثق بين القوى الوسطى الغربية ودول الخليج ليس مهمة فريدة للدولة الفرنسية، ومع ذلك يبدو أن فرنسا في عهد "ماكرون" قد اتخذت أهم الخطوات في هذا الصدد خلال العام الماضي، مع بيع الأسلحة المذكورة؛ تبرز كعلامة على شكل التعاون المحتمل في المستقبل إعادة التعاون المحتمل، في إطار التنافس العالمي والإقليمي الأوسع بين الولايات المتحدة والصين، فإن "مقامرة فرنسا الدقيقة" المتمثلة في تقديم طريق وسطي بين واشنطن وبكين عبر تقديم خطاب غير منحاز يجذب كلا من الإمارات والسعودية، وخاصة أن الولايات المتحدة تزيد من ضغوطها على دول الخليج "لاتخاذ موقف تجاه الصين" إلى جانبها. ومع ذلك، خلص "بارنز ديسي" إلى أن المصلحة المباشرة لفرنسا في الشرق الأوسط تظل الحاجة إلى تحقيق الاستقرار في الجوار الجنوبي لأوروبا، وذلك في حين أن استراتيجية "ماكرون" الدبلوماسية في الخليج يمكن الحكم على أنها "نجاح". وحذر "بارنز ديسي" من أن باريس ستحتاج إلى زيادة استخدام "التواصل النشط لماكرون، وربما تبني نهج أوروبي أوسع وأكثر أهمية مع الجهات الفاعلة الإقليمية" في كل من الخليج وخارجه.