1/9/2022
حول المساعي البريطانية لاتفاقية تجارة حرة بريطانية خليجية
منذ 22 يونيو الماضي انطلقت من الرياض جولة مفاوضات عقد اتفاقية تجارة حرة بين بريطانيا ومجلس التعاون الخليجي، من الاجتماع المشترك بين وزراء تجارة دول المجلس ووزيرة التجارة البريطانية، التي كان التمهيد لها أثناء زيارة الأمين العام للمجلس لبريطانيا في أكتوبر 2021، بعد أن تم تداول هذه المبادرة في أوساط وزارة المالية البريطانية في 2016، حين كانت بريطانيا تغادر الاتحاد الأوروبي، وتأمل بريطانيا أن يتم إنجاز الاتفاق قبل نهاية العام الحالي.
وفيما يبلغ حجم التجارة المتبادلة بين الطرفين نحو 33.1 مليار جنيه استرليني في عام 2021، ففي العام السابق على الجائحة 2019 بلغ حجم هذه التجارة نحو 45 مليار جنيه استرليني، أي نحو 7% من حجم تجارة بريطانيا مع الاتحاد الأوروبي، وفيما يعد السوق الخليجي سابع أكبر الأسواق المستقبلة للصادرات البريطانية، يعد السوق البريطاني ثالث أكبر الأسواق المستقبلة للصادرات الخليجية.
وتريد بريطانيا البناء على السمعة الطيبة التي تتمتع بها منتجاتها في السوق الخليجية لجهة الجودة، برغم طوفان السلع الآسيوية في هذا السوق لجهة انخفاض أسعارها، فيما يعد السوق الخليجي محل اهتمام الشركات البريطانية، بعدد سكان يزيد على 50 مليون نسمة، وناتج محلي إجمالي يزيد على 1.7 تريليون دولار.
كما تريد بريطانيا الاستفادة من الوفورات التي أخذ الاقتصاد الخليجي يحققها بعد ارتفاع أسعار النفط، وتجاوز الموازنات العامة الخليجية مرحلة العجز، واستئنافها تنفيذ المشروعات التنموية الكبرى التي تبغي من ورائها تحقيق رؤاها الاقتصادية 2030، وفيما يبلغ حجم الاستثمارات المتبادلة بين الطرفين قرابة 30 مليار جنيه استرليني، فإن بريطانيا تجد أن هذا الرقم يمكن أن تضاعفه أكثر من مرة، إذا ما فازت بعقود لتنفيذ هذه المشروعات، ولا ننسى أن سوق المال والأعمال البريطاني هو الأكثر جاذبية للمستثمر الخليجي بين نظرائه في أوروبا وآسيا.
وبعد أن وقعت بريطانيا في الآونة الأخيرة اتفاقات تجارة حرة مع كل من استراليا ونيوزيلندا واليابان وفيتنام، فهي في الوقت نفسه الذي تفاوض فيه المنظومة الخليجية لعقد اتفاق تجارة حرة، تمضي في مثل هذه المفاوضات مع كل من الهند وكندا والمكسيك.
ومن المتوقع طبقًا للتحليل الحكومي البريطاني أن تؤدي اتفاقية التجارة الحرة البريطانية الخليجية إلى زيادة حجم التجارة بين الجانبين بنسبة 16% على الأقل، وإضافة ما لا يقل عن 1.6 مليار جنيه استرليني سنويًا إلى الاقتصاد البريطاني، والمساهمة بمبلغ إضافي يصل إلى نحو 600 مليون جنيه استرليني أو أكثر في الأجور السنوية للعاملين البريطانيين.
والأكثر استفادة من هذه الاتفاقية هي الشركات البريطانية الصغيرة والمتوسطة التي تمثل صادراتها نحو 85% من إجمالي الصادرات البريطانية لدول الخليج، وفي عام 2020 فإن نحو 10700 شركة بريطانية صغيرة ومتوسطة صدرت سلعًا إلى الإمارات، و5500 صدرت إلى السعودية، و4100 صدرت إلى قطر، كما أن للشركات البريطانية استثمارات في دول الخليج تبلغ قيمتها 13.4 مليار جنيه استرليني وللشركات الخليجية استثمارات في بريطانيا بنحو 15.7 مليار جنيه استرليني، فيما توجد أكثر من 500 شركة خليجية في السوق البريطاني توفر نحو 25 ألف فرصة عمل. وإلى جانب صادرات السلع، فإن المملكة المتحدة هي ثاني أكبر مصدر عالمي للخدمات، وبلغت صادراتها من الخدمات للسوق الخليجية 12.1 مليار جنيه استرليني في العام الماضي.
ولن يبدأ الطرفان بريطانيا ومجلس التعاون الخليجي هذه المفاوضات من نقطة الصفر، فقد كانت بريطانيا أثناء وجودها في الاتحاد الأوروبي شريكة في المفاوضات بشأن اتفاقية التجارة الحرة الخليجية الأوروبية التي تجمدت من 2008، ومن ثم فإن هناك أشواطًا قد تم عبورها، كما أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سيحررها من مشروطية هذا الاتحاد لعقد هذه الاتفاقية، والنظر أساسًا إلى الاعتبارات الاقتصادية والتجارية التي تحقق مصلحتها، وتتجاوز الاعتبارات السياسية.
وبعد 3 عقود من المفاوضات الخليجية الأوروبية وصلت هذه المفاوضات إلى طريق مسدود، وظلت العلاقات التجارية الأوروبية الخليجية تسير وفق اتفاقية التعاون المبرمة في 1988، وتريد بريطانيا من اتفاقات التجارة الحرة الجديدة بما فيها اتفاق التجارة الحرة مع المنظومة الخليجية التعويض عن الأضرار التي لحقتها نتيجة خروجها من الاتحاد الأوروبي، وخاصة أن حجم تجارتها مع الاتحاد الأوروبي يبلغ نحو 50% من إجمالي تجارتها الخارجية، وأخذت هذه التجارة تواجه حواجز تجارية.
وفيما تحاول بريطانيا انتهاج السلوك البراجماتي الصيني الذي يفصل بين الاقتصاد والسياسة في معاملاته، فإن هذا النهج سوف يسهل كثيرًا من فرص التوصل إلى اتفاق، وخاصة إذا تم الأخذ في الاعتبار مطالب ورغبات كل دولة من دول مجلس التعاون الخليجي الست.
وفي الاجتماع الأول لسفراء دول مجلس التعاون الخليجي في لندن بشأن مفاوضات التجارة الحرة في يوليو الماضي ترأس الشيخ فواز بن محمد آل خليفة سفير مملكة البحرين في لندن الجانب الخليجي بحضور كبير المفاوضين البريطانيين وعدد من كبار المسؤولين، حيث تم مناقشة المكاسب الاقتصادية المتوقعة لكلا الجانبين، لجهة التجارة والاستثمار ودعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة والتعاون المشترك وتبادل الخبرات في مجالات التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي والتعليم والخدمات المالية.
ولا تنظر دول المجلس في هذه الاتفاقية إلى التبادل السلعي فحسب، ولكنها تأمل أن تصل بالعلاقة الاقتصادية إلى المستوى التالي في صناعات المستقبل، كالتجارة الرقمية والخدمات والنمو الأخضر، حيث يمكن لشركات الخدمات المالية والرقمية، جنبًا إلى جنب مع مقدمي خدمات التعليم والرعاية الصحية، تعزيز مكانتها في منطقة تحظى بتقدير كبير من قبل الجانب البريطاني.
وتنظر المملكة المتحدة إلى النمو الكبير في الوفورات النفطية الخليجية باهتمام واسع، فقد أظهر تقرير الاستثمار العالمي 2021 أن حجم الاستثمارات الأجنبية المتدفقة على بريطانيا قد بلغ حوالي 20 مليار دولار في 2020، بنسبة تراجع 57% عن العام السابق الذي كانت فيه هذه التدفقات 45 مليار دولار، وتراجع شديد عن عام 2016 الذي بلغت فيه هذه التدفقات 200 مليار دولار، ويشير هذا إلى تراجع جاذبية السوق البريطانية للاستثمار الأجنبي، حيث تراجعت مكانة المملكة المتحدة في هذا المؤشر من المرتبة الـ11 عالميًا إلى المرتبة الـ16.
ولهذا تظهر أهمية دول الخليج الباحثة عن تنمية استثماراتها الخارجية، وتنظر إلى هذا الاستثمار كأحد أهم مجالات تنويع مصادر الدخل، وفيما أعلنت كل من قطر والإمارات استثمارات بقيمة 10 مليارات جنيه استرليني لكل من الدولتين خلال السنوات الخمس القادمة، أعلنت السعودية استثمارات بقيمة 64 مليار دولار، في وقت تخوض فيه الحكومة البريطانية مفاوضات مع صندوق الاستثمارات العامة السعودي لاستثمار أمواله في عدد من المشاريع البريطانية.
واستباقًا لتوقيع اتفاقية التجارة الحرة أخذت لندن تمنح العديد من المزايا للسياحة الوافدة من الخليج، التي يصل عددها إلى قرابة 700 ألف سائح سنويًا، ينفقون نحو مليار جنيه استرليني، فأعفت السياحة الخليجية الوافدة من تأشيرة الدخول ابتداءً من العام القادم، كما تستفيد هذه السياحة من رخصة السفر الإلكترونية، وهي استمارة إلكترونية يقوم المواطن الخليجي الراغب في السفر إلى المملكة المتحدة بملئها قبل يومين من الوصول إلى المملكة المتحدة، وليس عليه أداء أي رسوم ولا تقديم جوازات سفر ولا الحصول على بصمته.
وهي جزء من مشروع لندن لجعل المرور عبر مطاراتها إلكترونيًا بنسبة 100%، وإلى أن يتم استفادة المواطن الخليجي من هذه الاستثمارات في مطلع 2023، يمكنه الاستفادة من التأشيرة الإلكترونية التي يمكنه الحصول عليها برسوم في حدود 30 جنيها استرلينيا.
كما أن عدم تطبيق بريطانيا أي تعرفة جمركية على النفط والغاز القادمين من الخليج، اللذين يمثلان الجزء الأكبر من صادرات دول مجلس التعاون الخليجي، يجعل متوسط التعرفة الجمركية البريطانية المفروضة على صادرات دول مجلس التعاون الخليجي 0.4%، ما يشجع هذه الصادرات وفي المقابل فإن متوسط التعرفة الجمركية على صادرات المملكة المتحدة إلى دول مجلس التعاون يبلغ 4.8%، تسعى إلى إزالتها مع هذه الاتفاقية، ما يجعل المنتجات البريطانية أكثر تنافسية في السوق الخليجي.
وإذا كان النفط والغاز ليسا من بين بنود هذه الاتفاقية المتوقعة، فإن المصادر الأخرى للطاقة التي تسعى دول مجلس التعاون الخليجي إلى تعزيز مكانتها فيها ستكون مشمولة، مثل إزالة التعرفات على البنية التحتية للطاقة المتجددة، كتوربينات الرياح المصنوعة في المملكة المتحدة، وزيادة الوصول إلى تكنولوجيا الطاقة النظيفة، وتحسين كفاءة الطاقة في المنازل والمباني والشركات، كما أنه من المتوقع أن تقوم دول مجلس التعاون الخليجي بإلغاء الرسوم الجمركية على وارداتها من بريطانيا في المواد الغذائية والمشروبات، ما يعزز الأمن الغذائي الخليجي.
وتستند بريطانيا في تحقيق سرعة الوصول إلى عقد اتفاقية تجارة حرة مع مجلس التعاون الخليجي إلى علاقاتها التاريخية السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية والثقافية مع دول هذا المجلس، وبعد خروجها من الاتحاد الأوروبي أصبحت متحررة من سياسات هذا الاتحاد، وأكثر رغبة في تنمية علاقاتها الثنائية معها.
كما أن علاقاتها الحميمة مع الولايات المتحدة تدعم موقفها في المفاوضات التجارية مع مجلس التعاون الخليجي، وخاصة بعد توجه الإدارة الأمريكية للانسحاب من الخليج والتركيز على الشرق الأقصى، ولن تساعد اتفاقية التجارة الحرة في توسيع التعاون الاقتصادي بين بريطانيا ومجلس التعاون الخليجي فحسب، ولكنها تعزز مساعي لندن بتوسيع طرق تجارتها إلى منطقة الهندي – الهادي، ما يمكنها من عولمة طرقها التجارية.
وبعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي تعددت علاقاتها العسكرية بدول الخليج، وعلى سبيل المثال وسعت بريطانيا ودول الخليج من التعاون العسكري، وقد أجرت أكبر مناورات عسكرية مشتركة في سلطنة عُمان منذ عام 2001، وأعلنت في 2019 افتتاح قاعدة بحرية في ميناء "الدقم" العماني واستثمرت فيها نحو 30.5 مليون دولار في 2020، وبعد المناورات العسكرية المشتركة مع القوات العمانية في 2021 قررت نقل وجودها العسكري من كندا إلى عُمان في 2023، ومع الفتور الذي انتاب العلاقات الخليجية الأمريكية بسبب الاختلاف حول عدد من القضايا، فقد خلق هذا فراغًا، وجدت فيه بريطانيا مجالًا تعود فيه بقوة إلى منطقة الخليج من بوابة العلاقات التجارية.
وما يميز محادثات التجارة الحرة الجارية الآن بين بريطانيا ومجلس التعاون الخليجي أنها ستبرم بين بريطانيا كدولة ومجلس التعاون ككتلة سياسية واقتصادية وليس دوله الست فرادى، والمجلس وصل حاليًا إلى مرحلة الاتحاد الجمركي، ولا يتفاوض نيابة عن الدول الأعضاء، بل ينسق معها منفردة.
ما يعني أن الاتفاق يمكن أن يكون مشفوعًا بملاحق فردية، وخاصة أن التفاوض على معايير أعلى مع دولة واحدة أسهل منه مع ست دول مجتمعة، ولمجلس التعاون الخليجي سوابق في هذا الشأن، كاتفاقية التجارة الحرة بين المجلس ورابطة التجارة الحرة الأوروبية في 2009، واتفاقية التجارة الحرة بينه وبين سنغافورة في 2013.