31/8/2022
الخلفية السياسية لمشهد الطاقة الراهن
من الصعب تفسير مشهد الطاقة الراهن بمعزل عن التطورات السياسية، فمن المعلوم أن موارد الطاقة، وخاصة النفط والغاز، تعد من أكثر السلع الاستراتيجية ارتباطًا بالتطورات السياسية، وربما لا ينافسها في ذلك غير مبيعات الأسلحة، ولم يصل العالم بعد إلى درجة التقدم الإنساني التي تجعله يضع الموارد الحيوية لحياة الإنسان -منها موارد الطاقة- في حيدة عن التطورات السياسية، ويؤَمِّن حصول كل إنسان على حقه الطبيعي في الطاقة اللازمة لمعيشته، وعلى امتداد العالم من شماله إلى جنوبه، ومن شرقه إلى غربه، نجد ذلك الارتباط القوي بين مشهد الطاقة الراهن وخلفيته السياسية. ولأن تأمين الطاقة هو العمود الحيوي لصعود الصين الاقتصادي، فقد عملت على امتداد علاقاتها السياسية وتعزيزها مع كل الدول المحتمل أن تحصل منها على نفط وغاز، بل قامت بتنفيذ مشروعات بنية تحتية تسهل نقل هذا المورد كما رأينا في جنوب السودان، ولأنها فقيرة في موارد الطاقة الأحفورية، فما إن ظهر غاز شرق المتوسط، حتى أشعلت تركيا النزاع الإقليمي بشأن حقها في هذا الغاز انطلاقًا من وضعها في قبرص، ولأن موارد الطاقة ركيزة أساسية للاقتصاد الإيراني -كما أنها كذلك للاقتصاد الروسي وفنزويلا أيضًا- فقد كان الحرمان في تصدير هذه الموارد والانتفاع بإيراداتها في صلب نظام العقوبات الأمريكية على هذه الدول، بل إن النزاع حول برنامج إيران النووي هو حول الحدود الفاصلة بين برنامج الطاقة أو برنامج للتسلح النووي.
وقد كانت السياسة الأمريكية التقليدية في الشرق الأوسط تقوم على ضمان أمن إسرائيل، وضمان مصادر النفط، وتدفقه إليها، وإلى حلفائها، ولكن منذ أن أخذ الصعود الصيني يلاحق مكانة الولايات المتحدة ويكاد يدركها، بعد أن أصبحت الصين القوة الاقتصادية الثانية في العالم بعد الولايات المتحدة في وقت وجيز، أدركت الإدارة الأمريكية أنه بعد انهيار الاتحاد السوفيتي فإن خصمها الرئيسي الذي ينبغي التركيز في مواجهته هو الصين، ومن ثم أخذت في التحول الاستراتيجي تجاه الشرق الأقصى، وقد شجعها في هذا التحول انخفاض اعتمادها على نفط الشرق الأوسط، بعد أن زاد إنتاجها من النفط الصخري، حتى صارت من القوى المنتجة النفطية الكبرى، والمصدرة، وفي هذا التحول تركت العراق لأزماته، وسلمت الأمور في أفغانستان إلى طالبان، وأفضى انسحابها إلى تمدد النفوذ الإيراني من العراق إلى اليمن إلى لبنان وسوريا، أي أن الفراغ الذي أحدثه هذا الانسحاب لم يعد فراغًا، بل إنها أعطت خصومها أوراق قوة بملئهم هذا الفراغ.
وحين أدركت الولايات المتحدة حاجتها إلى نفط الشرق الأوسط وغازه في صراعها مع روسيا في أوكرانيا، وسعيها لتحرير أوروبا من الاعتماد على النفط والغاز الروسي، وأن يكون البديل من نفط وغاز الشرق الأوسط، وجدت الخريطة قد تغيرت، وفي كلمته في 16 يوليو، حين قَدِم "بايدن" للاجتماع بقادة المنطقة، أكد أن الولايات المتحدة لن تترك فراغًا تملؤه الصين أو روسيا أو إيران، ولكن هذا الفراغ لم يعد فراغًا؛ فقد غدت دول الخليج المنتج والمصدر الرئيسي للنفط في العالم متحالفة من خلال "أوبك بلس" مع روسيا، في جبهة تنظيم إنتاج وتصدير النفط ومن ثم أسعاره، وقد رفضت دول الخليج فك هذا الارتباط تلبية للرغبة الأمريكية، ووجد أن إيران التي يدخل معها في مباحثات غير مباشرة من أجل إحياء الاتفاق النووي متمددة حول شبه الجزيرة العربية، ووجد أن معظم صادرات النفط والغاز من المنطقة تتجه إلى الشرق الأقصى.
ولهذا نجد أنه في أعقاب زيارة "بايدن" للمنطقة كان الاتصال الهاتفي بين "بوتين" وولي العهد السعودي "محمد بن سلمان" في 21 يوليو لبحث الوضع في سوق النفط العالمي، والتشديد على ضرورة استمرار تفاهمات واتفاقات "أوبك بلس" التي تقودها موسكو والرياض. ومن طهران أشاد "بوتين" بموقف السعودية والإمارات من روسيا خلال الأزمة الأوكرانية، مؤكدًا أن علاقة روسيا مع إيران لم ولن تكون على حساب شركاء روسيا في الخليج، وأن روسيا تثمّن غاليًا مواقفهم، وأنها حريصة على استمرار التنسيق والتعاون الاستراتيجي على النحو الذي يخدم مصالح الطرفين. وفي 24 يوليو قام وزير الخارجية الروسي "سيرجي لافروف" بإلقاء خطاب بجامعة الدول العربية أشاد فيه بموقف الدول العربية من الأزمة الأوكرانية، وأكد عزم روسيا استمرار تطوير التعاون مع الدول العربية، مطمئنًا لها بشأن الأمن الغذائي، والتزام روسيا بتصدير الحبوب لها، وقبل ذلك قام "لافروف" بزيارة السعودية وشارك في اجتماع وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي في الأول من يونيو، وقبلها زار الجزائر وسلطنة عُمان في مايو. بل إن روسيا قد سعت إلى جذب الدول العربية إلى أطر قانونية دولية تقودها، أو لها فيها وضع مؤثر، مثل "بريكس" و"الاتحاد الأوراسي" و"منظمة شنغهاي"، فقد رحب "لافروف" بسعي مصر للحصول على مقعد شريك حوار في "منظمة شنغهاي" للتعاون، ومشاركتها في عمل "بريكس"، وفي العام الماضي حصلت مصر والإمارات على عضوية بنك "بريكس" للتنمية، ما يمهد لانضمامهما الكامل إلى تلك المجموعة التي تضم روسيا والصين والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا، وحصلت مصر والسعودية وقطر على مقعد شريك حوار في منظمة "شنغهاي للتعاون" التي تضم الصين وروسيا والهند وباكستان ودول آسيا الوسطى في سبتمبر الماضي، ورحبت روسيا باتفاقات التجارة الحرة التي وقعتها كل من الإمارات ومصر مع الاتحاد الأوراسي الذي يضم: (روسيا وكازاخستان، وبيلاروسيا وأرمينيا وقيرغيزستان، وطاجيكستان، وتركمانستان، ومولدوفا). وبدأت موسكو مفاوضات جادة مع دول المنطقة للتعامل بالعملات الوطنية واعتماد بطاقة "مير" الروسية بعد تعليق "ماستر كارد" وفيزا خدماتهما البنكية في روسيا، وقد تبنت تركيا بالفعل التعامل بـ"مير" لتشجيع قدوم السياحة الروسية إليها. وذكرت روسيا في نفس الوقت التزامها بجميع الاتفاقات والمشروعات القائمة بينها وبين الدول العربية، مدركة أن انسحابها منها يخلق فراغًا بمنطق "بايدن"، قد تملؤه الولايات المتحدة أو قوة غربية أخرى، من ذلك التزامها بمشروع محطة "الضبعة النووية" لتوليد الكهرباء في مصر. وفي سياق عدم ترك فراغ للولايات المتحدة أو قوة غربية أخرى، فرغم اختلاف طبيعة العلاقات الروسية بكل من إيران وتركيا، فقد دعا "بوتين" إلى مأسسة علاقة ثلاثية بين موسكو وطهران وأنقرة بقمة تجمع زعماء الدول الثلاث في 19 يوليو، وترسيخ هذا الإطار الثلاثي وتوسيع دائرته، وأسفرت هذه القمة عن إطلاق ممر الشمال الجنوب الذي يربط روسيا بالهند عبر إيران، وكانت إيران تسعى إليه منذ عهد "أحمدي نجاد"، وقد أصبح هذا الممر ضروريًّا في ضوء تزايد مبيعات الطاقة الروسية للهند، كما أسفرت هذه القمة عن توقيع اتفاقية التجارة الحرة بين إيران والاتحاد الأوراسي، وتوقيع اتفاقية نفطية بين شركة "غاز بروم" الروسية وشركة النفط الوطنية الإيرانية بقيمة 40 مليار دولار، وتشمل تطوير سبعة حقول نفطية باستثمار روسي رغم الحظر الغربي على إيران، منها حقل "أزاديجان" على الحدود الإيرانية العراقية وحقل غاز "بارس شمال" و"بارس جنوب" و"كيش"، ويتيح الاتفاق مكاسب استراتيجية خاصة لروسيا، حيث تمكنها من إنشاء أقوى احتكار للغاز في العالم تحت مظلة روسية، ويسمح بوجود روسي في جزيرة "كيش" وسط مياه الخليج، ما يمكن موسكو من متابعة تحرك جميع القطع البحرية في الخليج، بما في ذلك سفن الأسطول الخامس الأمريكي. وحققت روسيا أيضًا مكسبًا سياسيًّا آخر لدى دول المنطقة المعتادة الحصول على واردات القمح الأوكراني، وكان ذلك في اتفاق إسطنبول في 22 يوليو بين روسيا وأوكرانيا وتركيا والأمم المتحدة، لفك الحصار عن صادرات الحبوب والأسمدة الأوكرانية من موانئ البحر الأسود، وتوفير ممرات آمنة لها، ومعها صادرات الحبوب الروسية. وحين أجل "بايدن" بحث القضية الفلسطينية لدى زيارته للمنطقة مارست روسيا ضغوطًا على إسرائيل في الأشهر الأخيرة، وبدأت السلطات الروسية اتخاذ إجراءات قانونية ضد منظمة "سختوت اليهودية للهجرة"، واستبعادها من سجل الدولة الموحد للكيانات القانونية غير الربحية المسجلة، و"سختوت" هي فرع الوكالة اليهودية الأم وتنشط في مجال الهجرة اليهودية إلى إسرائيل، وقد تأسست في 1929، ومن جهة أخرى قامت بطارية روسية بإطلاق النار على طائرات إسرائيلية كانت تقوم بمهاجمة سوريا، كما قامت روسيا بتزويد سوريا بصواريخ إس300، إلى جانب قيام روسيا بدعم القضية الفلسطينية ومطالبتها بضرورة إقامة دولة فلسطينية، وتنديدها بالانتهاكات الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني. ولم تكن روسيا وحدها هي التي زاد انخراطها في الشرق الأوسط على حساب الولايات المتحدة، ولكن الصين أيضًا، وقد بدأت الصين هذا الانخراط في الاقتصاد بشكل رئيسي، ثم توسعت لاحقًا نحو مستوى محدود من الانخراط العسكري، وإن كان في حدود ضيقة، ولكنه يمثل خطوة في مسار طويل الأمد، وفي نفس الوقت أدى انسحاب الولايات المتحدة من المنطقة على مر السنوات من 2008 حتى 2022، وسياساتها تجاه الإقليم منذ وصول "بايدن" في يناير 2021، إلى تغيير في العلاقات بين الولايات المتحدة والدول الرئيسية في المنطقة، وكان ذلك نتيجة ما ظهر من تركيز واشنطن على مصالحها أولًا بغض النظر عن مصالح هذه الدول، وقد ظهر ذلك أثناء المباحثات التي أفضت إلى الاتفاق النووي في 2015 والتي تم فيها تغييب دول الخليج، كما ظهر في المباحثات الحالية للعودة إلى هذا الاتفاق، وانسحاب واشنطن من العراق وأفغانستان، ما أفقدها مصداقيتها والثقة في الاعتماد عليها، ومن ثم لجوء دول المنطقة إلى تنويع علاقاتها وتحالفاتها، وإذا كانت زيارة "بايدن" للمنطقة قد توجهت إلى تعزيز العلاقات الأمريكية بدول المنطقة والتعاون الاستراتيجي في الملفات الأمنية والتنسيق بشأن قضايا الأمن غير التقليدي فإن ما يعيد الثقة الأفعال وليس الأقوال، الأمر الذي تقف أمامه الكثير من علامات الاستفهام.