13/8/2022
الاقتصاديات الغربية والركود القادم
في أحدث مؤشر على دخول الاقتصادات الغربية في فترة من الركود وارتفاع مستويات التضخم؛ رفع "بنك إنجلترا"، في أوائل أغسطس 2022، أسعار الفائدة بأعلى معدل منذ ما يقرب من ثلاثة عقود، بالإضافة إلى تحذير من ارتفاع التضخم إلى أكثر من 10%. وعند إدراج تلك التحذيرات إلى جانب تحذيرات مماثلة من الصعوبات الاقتصادية في الولايات المتحدة والحكومات الأوروبية، وكذلك المؤسسات المالية الرائدة والمحللين، يتضح أن الاقتصاد العالمي يمر بفترة من الضغط على خلفية التأثيرات المزدوجة لفيروس كورونا خلال عام 2020، والعملية العسكرية لروسيا في أوكرانيا في فبراير 2022.
وترتبط الجولة الأخيرة من ارتفاع أسعار الفائدة وارتفاع الأسعار، خاصة بالنسبة للطاقة، ارتباطًا وثيقًا بالحرب الروسية على كييف، ونظام العقوبات الغربية المطبق لاحقًا ضد الكرملين، في حين أن هذه الإجراءات الاقتصادية المفروضة، بما في ذلك تجميد الأصول والحظر على السلع، أضرت بالاقتصاد الروسي بشدة، حيث وصل التضخم إلى 20%، وانخفض الاحتياطي الأجنبي لموسكو بمقدار 75 مليار دولار. وأوضح "أوين ماثيوز"، في صحيفة "سبكتاتور"، أنها "تعرض للخطر ما يصل إلى 40% من الناتج المحلي الإجمالي لروسيا"، بيد أن هذه الجهود فشلت في منع الأخيرة من مواصلة عملياتها العسكرية في أوكرانيا.
علاوة على ذلك، تمكنت روسيا من الرد وفرض ثمن اقتصادي باهظ على الدول الغربية، خاصة الأوروبية، التي تعتمد على صادرات الغاز الطبيعي الروسي لسد احتياجاتها المتعلقة بأمن الطاقة. ومنذ أعلن "الاتحاد الأوروبي"، نيته سد احتياجاته بعيدا عن سوق الطاقة الروسي، ردًّا على الحرب، قامت موسكو بتقييد صادراتها من الطاقة إلى أوروبا. وأعلنت شركة "غازبروم" الروسية في أواخر يوليو 2022، أنها ستقلل من تدفق الطاقة إلى ألمانيا عبر خط أنابيب "نورد ستريم1"، إلى 20% فقط من قدرته، في حين أن القادة الغربيين قد رفضوا علنًا في مناسبات عديدة، مثل هذه المحاولات من قبل موسكو، إلا أنهم كانوا عاجزين إلى حد كبير عن وقف تصرفاتها وتجنب تداعياتها المالية.
من ناحية أخرى، أثرت حرب أوكرانيا على أسعار الطاقة خارج أوروبا، ووصل سعر خام برنت إلى 94.12 دولارا للبرميل في الرابع من أغسطس 2022، وهو أدنى مستوى منذ بدء العمليات العسكرية في فبراير، لكن الأسعار ارتفعت في وقت سابق فوق 120 دولارًا للبرميل، مع تحمُّل المستهلكين في الدول الغربية عبء تلك التكاليف. وتُرجمت هذه الأسعار المرتفعة للنفط والغاز الطبيعي إلى ارتفاع التضخم وأسعار الفائدة المحلية. وأثارت تحذيرات من قِبَل العديد من المنظمات والخبراء بشأن المخاطر الحقيقية للغاية من ركود وشيك في هذه البلدان، وعلى سبيل المثال، حذر مصرف "كوميرزبنك" الألماني، من "رد فعل متسلسل له عواقب غير متوقعة" و"ركود حاد" لاقتصاد البلاد من النقص المستمر في الغاز الطبيعي. وفي ظل انخفاض صادرات الطاقة من روسيا، توقع البنك الألماني انكماش النمو الاقتصادي لبرلين بنسبة 2.7% لعام 2022.
أما بالنسبة للاتحاد الأوروبي، فقد أشارت "ماتينا جريدنيف"، في صحيفة "نيويورك تايمز"، الى أن التهديد بمزيد من التخفيضات الروسية لصادرات الطاقة وارتفاع معدلات التضخم يهدد بتقليص ما يصل إلى 1.5% من توقعات النمو الاقتصادي، مضيفة أن أوروبا "خفضت بالفعل توقعات النمو الاقتصادي بنسبة 2.7 في المائة لعام 2022".
وعلى الرغم من أن الاقتصاد الأمريكي لم يتأثر بشكل مباشر بنقص إمدادات الطاقة المحلية، إلا أنه وجد نفسه أيضًا في وضع يقاوم فيه بشدة أكبر ارتفاع في التضخم في البلاد منذ أكثر من أربعين عامًا، حيث قام الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي مؤخرًا برفع أسعار الفائدة في محاولة لمواجهة ذلك. وسجلت وزارة العمل الأمريكية ارتفاع التضخم إلى 9.1%، كما سجلت السلطات المحلية في العديد من المدن الأمريكية الكبرى، بما في ذلك سياتل وميامي، مستويات تضخم عالية. ونتيجة لذلك، ارتفعت تكلفة جالون البنزين في الولايات المتحدة فوق 5 دولارات في يونيو 2022، وهو رقم قياسي، وبينما شهد انخفاضا منذ ذلك الحين، إلا أنه لا يزال أعلى من 4 دولارات.
وتم الاعتراف أيضًا بأن احتمال حدوث ركود قادم في الولايات المتحدة؛ يمثل ضربة سياسية كبيرة لآمال إعادة انتخاب "بايدن"، خاصة وأن هذا يأتي قبل فترة وجيزة من انتخابات منتصف المدة المؤثرة، حيث من المتوقع أن يُبدي المرشحون الجمهوريون أداءً جيدًا. ووصف "دومينيك روش"، في صحيفة "الجارديان"، انخفاض الناتج المحلي الإجمالي، بأنه "ضربة كبيرة لإدارة بايدن"، مشيرًا إلى أن أرقام استطلاعات الرأي على الأداء الاقتصادي للرئيس هي الأدنى خلال فترة رئاسته حتى الآن.
وعلى النقيض من ذلك، فإن الآمال في تجنب الركود أقل تفاؤلاً بشكل ملحوظ في المملكة المتحدة، في ظل تقييمات "بنك إنجلترا"، للمسار المستقبلي للاقتصاد البريطاني، وعلق "بن تشابمان"، في صحيفة "ذي إندبندنت"، بأن ذلك يعد "أحد أكثر التقييمات كآبة على الإطلاق حول الآفاق الاقتصادية للمملكة المتحدة". وحذرت لجنة السياسة النقدية بالبنك، من أن التضخم قد يصل إلى ذروته عند 13.3% بحلول نهاية عام 2022، وهي زيادة عن التحذيرات السابقة المقلقة بالفعل للمؤسسة المالية، والتي تشير إلى ارتفاعها إلى 9.4%. وبالتالي من المتوقع أن ينكمش الاقتصاد البريطاني بنسبة 2.1%، وذلك لخمسة أرباع متتالية للمرة الأولى منذ أربعة عشر عامًا. علاوة على ذلك، من المتوقع أن تزداد البطالة من 3.8% إلى 6.3% بحلول عام 2025.
من ناحية أخرى، قام "بنك إنجلترا"، برفع أسعار الفائدة من 1.25% إلى 1.75%، وهو أكبر ارتفاع منذ ما يقرب من ثلاثة عقود، فيما وصفته شبكة "بي بي سي نيوز"، بأنه "محاولة لخفض الأسعار المرتفعة". وحذر "أندرو بيلي"، محافظ بنك إنجلترا، من "خطر حقيقي"، يتمثل في أن يصبح ارتفاع الأسعار "جزءًا لا يتجزأ" من الاقتصاد البريطاني، محذرا من انخفاض دخل الأسرة الحقيقي بنسبة 5% على مدار عامين، في حين أن متوسط فواتير الطاقة للمستهلكين في المملكة المتحدة سيرتفع إلى 3.500 جنيه إسترليني بحلول أكتوبر 2022، بزيادة من 1.200 جنيه إسترليني عن العام السابق. كما توقع مصرف "إنفستك" أن تصل أسعار الطاقة إلى 4.210 جنيه إسترليني سنويًا بحلول يناير 2023. وأوضح "تشابمان"، كذلك أن "الزيادة في التضخم ستضر أيضًا بالمالية العامة، وتضيف المليارات إلى الدين الحكومي ودفعات الفائدة على السندات المرتبطة بالتضخم"
وحول كيفية مواجهة هذه التحديات الاقتصادية المعقدة في ضوء الاختلافات بين الحكومات الغربية فيما يتعلق بالسياسة الاقتصادية، وأيضًا، في حالة المملكة المتحدة، بين المرشحين الذين يسعون لخلافة "جونسون" على منصب رئيس الوزراء في سبتمبر 2022 أوضح "نديم الزهاوي"، وزير المالية، أن الحكومة البريطانية "تتخذ خطوات مهمة للسيطرة على التضخم" استنادًا إلى "سياسة نقدية قوية ومستقلة وضرائب مسؤولة وقرارات إنفاق وإصلاحات لتعزيز إنتاجيتنا ونمونا". على الرغم من ذلك ترى "تشابمان" أن التحذيرات الاقتصادية الأخيرة لبنك إنجلترا، "ستثير القلق لمن سيصبح رئيس الوزراء المقبل".
وسجل "جوشوا نيفيت"، من شبكة "بي بي سي نيوز"، كيف هيمنت "الحالة المتدهورة لاقتصاد المملكة المتحدة" على حملة قيادة حزب المحافظين، حيث وضع كل من الوزير السابق، "ريشي سوناك"، ووزيرة الخارجية الحالية، "ليز تروس"، خططهما الخاصة لمعالجة التضخم وتقليل احتمالية ركود اقتصادي مدمر. وفي حين أصر "سوناك" على ضرورة إعطاء الأولوية لمعالجة ارتفاع التضخم قبل التخفيضات الضريبية فقد تعهدت "تروس"، بخفض ضريبي فوري بقيمة 30 مليار جنيه استرليني عند وصولها للمنصب على أساس أن "محاولة تدارك مخاطر الأحداث قبل الأوان تؤدي إلى نتائج عكسية" للنمو الاقتصادي، مؤكدة أن الركود "ليس أمرًا حتميًّا"، إذا تم اتخاذ إجراء قوي بسرعة.
وردًّا على ذلك، وصف "سوناك"، التخفيضات الضريبية لتروس بـ"غير الممولة"، والذي سوف تصب "الوقود على نار" التضخم المتزايد. وانتقدت الوزيرة في حكومة الظل عن حزب العمال المعارض، "راشيل ريفز"، مرشحي قيادة حزب المحافظين؛ لأنهم "قاموا بجولة في البلاد معلنين عن سياسات غير عملية لن تُقدم شيئًا لمساعدة الناس على تجاوز هذه الأزمة"، في حين أصر وزير الظل من حزب العمال، "كونور ماكجين"، على أن كلا المرشحين "ليس لديهما حلول للتضخم المرتفع، وفواتير الطاقة الجنونية والركود الطويل، الذي حذر بنك إنجلترا من أنه يلوح في الأفق".
وفي "الاتحاد الأوروبي" دفع التضخم والتحذيرات من الركود الوشيك؛ متأثرين بشدة بطلب الطاقة والأسعار، المسؤولين إلى اتباع سياسة تقليل استخدام الطاقة لتقويض محاولات روسيا لإلحاق أضرار اقتصادية بالدول التي تدعم المقاومة الأوكرانية. وكجزء من هذا الجهد، اقترحت "أورسولا فون دير لاين" رئيسة المفوضية الأوروبية أن تخفض الدول الأعضاء استخدامها بنسبة 15% خلال الشتاء القادم. ويرى "سيمون تاجليابيترا"، من مركز أبحاث "بروغل"، أن "الحكومات يجب أن تطلب من الناس أن يستهلكوا كميات أقل"، و"يجب أن تكون لديهم الشجاعة لإخبار مواطنيهم أن أوروبا في خضم ما يمكن أن يمثل أكبر أزمة طاقة في تاريخها".
ومع ذلك، يبدو أن هناك صعوبة في محاولة تفسير سبب عدم قدرة الغرب على التحكم بسهولة في أسعار الطاقة المتزايدة لمساعدة المستهلكين. وأقر "جيروم باول"، رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، أنه في حين أن هناك "مسارًا يمكننا من خفض التضخم"، فقد "واجهتنا معوقات في هذا الصدد تستند إلى أحداث خارجة عن إرادتنا".
على العموم، يعكس هذا الموقف حقيقة أوسع نطاقا مفادها أنه بالنسبة للعديد من الحكومات والمؤسسات الغربية فإن وسائل التحكم في ارتفاع التضخم وأسعار الطاقة المرتبطة به في اقتصادات الغرب تبدو خارجة عن سيطرتها، وتعتمد على عوامل خارجية، مثل: الحرب الروسية في أوكرانيا، ومحاولات الدول الأعضاء في منظمة أوبك لإنتاج الطاقة في حدود طاقتها، وبسبب حالة عدم اليقين العام في الأسواق المالية العالمية بشأن إمكانية حدوث ركود، والاستعدادات اللازمة التي يتعين على الدول القيام بها لضمان استقرارها الاقتصادي في مثل هذه الحالة.