14/7/2022
رؤية صندوق النقد الدولي للتحديات التي تواجه اقتصادات دول الخليج
على مدى العامين الماضيين واجهت دول الخليج تداعيات وباء «كوفيد-19»، والانخفاض المصاحب له في أسعار النفط، بعد فرض عمليات الإغلاق في جميع أنحاء العالم، وقد نجحت هذه الدول في اجتياز هذه التحديات، وتتطلع الآن لمواصلة التنمية الاقتصادية. وفي إطار هذا الواقع، نشر «صندوق النقد الدولي»، تقريرًا، يهدف إلى تحليل إدارة دول الخليج للانكماش الاقتصادي العالمي الأخير، ومناقشة التوجهات المتوقعة مستقبلا، والتحديات التي تواجهها، وتقديم بعض التوصيات لدعم هذه الجهود، بما في ذلك المتعلقة بالتنويع الاقتصادي، وإصلاح سوق العمل والسياسة المالية.
في البداية، أشاد التقرير بجهود واضعي السياسات في دول الخليج، الذين «تحركوا بسرعة» من أجل «التخفيف من الآثار الصحية والاقتصادية لـ«كوفيد-19»، واصفا استجابات هذه الدول، بأنها «سريعة وجيدة التنسيق»، بما في ذلك التدابير المالية، التي «أغاثت القطاعات المتضررة بشدة»، والتي كان لها «دور محوري في تخفيف الأعباء»، مشيرا إلى أن برامج التطعيم الناجحة، أدت إلى «انتعاش جزئي» في القطاعات غير النفطية، بعد انخفاض بنسبة 3.9% في عام 2020. وفي تأييد لهذا، أشاد «إريك لوندباك» من «صندوق النقد الدولي»، «بالسياسات الداخلية الجيدة، مسلطا الضوء على معدل التطعيم الجيد جدا». فيما أشار «سكوت ليفرمور» من «مؤسسة أكسفورد إيكونوميكس» إلى أنه قد تم احتواء الفيروس إلى حد كبير بدليل «التخفيف المستمر للقيود»، وتم تحديد الإمارات كرائدة عالميا في احتواء الوباء، حيث إن لديها معدل تطعيم يزيد على 90%.
وعلى الرغم من هذه الجهود، فقد شهدت اقتصادات الخليج، ركودًا، لكنه «مؤقت» عام2020، حيث انخفض معدل النمو في المنطقة، بنسبة 4.8%». ويعود ذلك إلى انخفاض الطلب على النفط. وأشار التقرير إلى أنه «من المتوقع أن يصل الطلب إلى مستويات ما قبل الجائحة فحسب، بحلول نهاية عام 2022». وهذا على الرغم من حقيقة أنه الطلب قد ارتفع إلى «94 مليون برميل يوميًا في الربع الثاني من عام 2021»، في انتعاشة كبيرة بعد «الانخفاض غير المسبوق في الطلب العالمي في الربع الثاني من عام 2020». وأدى هذا الانخفاض في الطلب إلى «قلب» الموازين المالية والخارجية لدول الخليج، مسببا عجزا قدره 8.8% من الناتج المحلي الإجمالي، و0.4% من إجمالي الناتج المحلي على التوالي.
ومع ذلك، تبدو توقعات النفط في عام 2022 «متفائلة». وتوقع التقرير نموًا بنسبة 5.3% في الناتج المحلي الإجمالي للمنطقة. ورفعت «الوكالة الدولية للطاقة»، تقديراتها للطلب العالمي لعام 2022، بمقدار 200000 برميل يوميًا، بسبب «القيود الأقل صرامة بشأن كوفيد-19»، فضلا عن الإدارة الرشيدة لـ«أوبك بلس» والتي ساهمت في هذه التطورات الإيجابية. وعلقت «مونيكا مالك»، من «بنك أبوظبي التجاري»، بأن التحالف «أدار الوضع النفطي بشكل جيد للغاية». وبالفعل، شهدت بعض دول الخليج بوادر هذا الانتعاش. وأشارت «كيت دوريان»، من «معهد دول الخليج العربية»، إلى أن السعودية تمكنت من «الاستفادة الكاملة من تعافي الأسعار»، وتتوقع فائضًا في ميزانية عام 2022. وأشار تقرير «معهد المحاسبين القانونيين»، إلى أن «الاقتصاد الخليجي ينتعش بقوة «نتيجة لارتفاع أسعار النفط».
وفي المقابل، حذر بعض المحللين من استمرار حالة عدم اليقين بشأن التعافي الاقتصادي العالمي. وقال «روبرت موجيلنيكي»، من «معهد دول الخليج العربية»، إنه «على الرغم من وجود أسباب تدعو للتفاؤل بشأن مستقبل اقتصاد دول الخليج؛ إلا أن المنطقة «لم تخرج من دائرة الخطر»، فيما يتعلق بأسعار النفط، وصدمات فيروس كورونا. وأشار «لوندباك»، إلى أنه يجب النظر إلى التوقعات المتفائلة، في ضوء «مستقبل مجهول بشدة»، وإدراك أن التعافي الاقتصادي العالمي لا يزال «هشًا». وعلى الرغم من اعتراف التقرير، بأن دول الخليج، أدارت أزمة الوباء بشكل جيد، إلا أن «موجيلنيكي»، أكد أنه لا يمكن استبعاد المزيد من «الانتكاسات العالمية»، والتي بدورها يمكن أن يكون لها «مردود سلبي» على المنطقة، مشيرًا إلى التقلب التاريخي لأسعار النفط كمبرر لمخاوفه.
واستمرارًا لهذه الحجة، ذكر «صندوق النقد الدولي»، أنه «مع استقرار إجراءات التعافي الاقتصادي من الجائحة، يجب أن تتصدى السياسات للتحديات المتوسطة والطويلة الأجل، محذرا من أن «خسائر الإنتاج المستمرة»، يمكن أن تحدث جراء انخفاض الطلب على النفط، و«الانتعاش الذي طال أمده في القطاعات كثيفة العمالة»، و«نقاط الضعف في سوق العمل». ودعمًا لهذه الأطروحة، سلط الضوء على أنه «تماشيا مع التوقعات الخاصة بالعديد من الاقتصادات الناشئة الأخرى»، من المتوقع أن يظل النمو في اقتصادات دول الخليج أقل من اتجاهات ما قبل الوباء بنحو 4%.
وفيما يتعلق بنقاط الضعف -المذكورة أعلاه- في أسواق العمل المحلية، أكد أن «التحديات الهيكلية لا تزال قائمة»، على الرغم من أنها «نجت من الوباء بشكل جيد نسبيًا». فقد خفف من وطأة ذلك، الإقرار بحدوث زيادات في المشاركة بين المواطنين، «خاصة النساء». ومن ثمّ، خلص إلى أن الجهود التي تبذلها دول الخليج في إصلاح سوق العمل «مرحب بها»، مثنيا على التشريعات السعودية والبحرينية والإماراتية، التي تحظر التمييز على أساس الجنس.
وعلى الرغم من اعترافه بجهود الإصلاح، فقد أوصى بمزيد من الإجراءات «لتعزيز نمو أعلى للإنتاجية»، و«تعزيز التنويع»، بما في ذلك «إصلاح القطاع العام»، و«مضاعفة الجهود لتشجيع مشاركة القوى العاملة بين المواطنين»، و«اعتماد سياسات أكثر مرونة للعمال الوافدين». وعلى وجه الخصوص، لا يزال تنويع اقتصادات الخليج وتقليل اعتمادها على إنتاج الهيدروكربونات يحظى باهتمام كبير. وتم الحكم على «النمو الاقتصادي المستدام والتنويع» من خلال «صندوق النقد الدولي»، بأنه «محوري أكثر من أي وقت مضى». وأوضح كل من «نادر قباني» و«نجلاء بنت ميمون»، من مركز «بروكنجز»، أن التنويع الاقتصادي، «اكتسب إحساسًا متجددًا بضرورته»، نتيجة الانكماش الاقتصادي العالمي الناجم عن الوباء، كما افترضت «مالك»، أن التحديات طويلة المدى التي يفرضها تحول الطاقة، قد مثلت «ناقوس إنذار» لدول الخليج.
ومع ذلك، أشار محللون آخرون إلى أن تأطير جهود التنويع على أنها تحول مفاجئ بعيدًا عن إنتاج الهيدروكربونات، هو «تقييم خاطئ». وكما لاحظت «ربى الحصري»، من «معهد الشرق الأوسط»، فإن جهود التنويع، تشمل الاستخدام المستمر للوقود التقليدي، مشيرة إلى أن «الاستثمارات تتدفق»، لتطوير إنتاج الهيدروكربونات الأنظف. وبالمثل، أقرت «دوريان»، بالتدابير التي اتخذتها دول الخليج، مثل السعودية والإمارات، لتسهيل انتقال الطاقة، بينما لا يزال «يراهنون على النفط والغاز للاحتفاظ بجزء مهيمن من سوق الطاقة في العقود المقبلة». وفي هذا الصدد، أشار تقرير «النقد الدولي»، إلى أن استئناف النشاط الاقتصادي، والتنبؤ بارتفاع أسعار النفط، يجب أن «يستخدم لزيادة تنويع الاقتصادات الخليجية «لتحسين استدامتها على المدى الطويل».
ويأتي تطوير «برامج التعليم والتدريب»، وإبراز أهميتها في تحويل القوى العاملة، وتقليل «التفاوتات الهيكلية في أسواق العمل»؛ من بين الإجراءات السياسية الأخرى التي تم التأكيد عليها، فيما يتعلق بالتنويع الاقتصادي. وكما أوضح «مارتن هفيدت»، من «جامعة جنوب الدنمارك»، فإن التحول الوشيك للطاقة في السوق المحلي والدولي، أدى إلى «تشجيع نمو قطاع إنتاجي؛ مما يخلق فرص عمل للسكان»، وإنتاج سلع يمكن بيعها على حد سواء. وأوضح «ماجد زاده»، من «جامعة هارفارد»، أن «الحاجة إلى الانتقال والتحول إلى الصناعات القائمة على المعرفة، أصبحت ضرورة اقتصادية لمنطقة الخليج».
ولا يعني تشجيع «صندوق النقد»، دول الخليج على بذل المزيد من التطورات والجهود في هذا المجال، أنها لم تبدأ بالفعل خطواتها نحو هذه الضرورة الاقتصادية. ومن جانبه، أشاد «زاده»، بتطوير «صناعة البحوث الطبية والإنتاج العلمي» في الخليج، باعتباره نجاحًا «غير مسبوق». وتعد الإمارات أول دولة خليجية تشيد منشأة لإنتاج لقاحات «سينوفارم»، فضلا عن خطة السعودية لبناء أول «مصنع لإنتاج لقاحات حيوانية، باستثمارات قيمتها 60 مليون دولار»، بالإضافة إلى أهمية التطورات التي يشهدها قطاع الخدمات المالية والمصرفية في البحرين، والذي «يمثل الآن ما يقرب من 20% من الناتج المحلي الإجمالي للمملكة.
من ناحية أخرى، أولى التقرير اهتمامًا بالضغوط المالية التي تواجه دول الخليج حاليًا. ولعل أحد النقاط والحلول الرئيسية التي تم تحديدها، هو ضرورة «ضمان ثبات مستويات الاستدامة المالية والخارجية طويلة الأجل للاقتصاد»، حيث نصح بالحفاظ عليها من خلال إعطاء الأولوية لـ«تعزيز الأطر المالية، و«تعزيز الإيرادات غير النفطية». وجاء ذلك ردًا على حقيقة أن الوباء، أضعف أوضاع الدين العام، حيث وصلت مستويات الدين العام الإقليمي إلى60% من الناتج المحلي الإجمالي عام 2021. وحذر التقرير من أنه على الرغم من أن الاحتياطيات المالية الوقائية المخصصة لمواجهة الصدمات المؤقتة، «لا تزال ثابتة»، إلا أنها قد تشهد «تذبذبًا» على المدى المتوسط، إذا تأخرت عملية الإصلاح الاقتصادي، لا سيما في ضوء «التحديات التي تواجه نمو العائدات النفطية مستقبلاً»، جراء مرحلة التحول إلى الاعتماد على الطاقة المتجددة.
وعلى المديين المتوسط والطويل، أوصى «بالاستفادة من أسعار النفط المرتفعة لتقليل أعباء الديون»، مشيرا إلى أن «معايير الضبط المالي»، و«سبل تخفيض العجز»، يجب أن تكون مدعومة، «بأطر مالية متوسطة الأجل تتسم بالموثوقية والاتساق والفاعلية»، لتجنب الآثار السلبية للسياسات المالية المسايرة للتقلبات الاقتصادية. ويشمل هذا أيضًا، حتمية «تعزيز خطط الطوارئ»، للتمكن من الاستجابة للصدمات وفترات الكساد المستقبلية. ورحب بالتقدم المحرز في هذه النقاط والتوصيات في بلدان، مثل عُمان، والسعودية. فيما تضمنت جهود ضبط الأوضاع المالية العامة الأخرى، «ضرورة تعزيز الإيرادات غير النفطية»، مثل «توسيع نطاق تطبيق ضريبة القيمة المضافة»، و«الإلغاء التدريجي للإعفاءات الضريبية»، و«تنفيذ إصلاحات القطاع العام»، كما أوصى، بأن تواصل سياسات الاقتصاد الكلي، تسهيل مرحلة التعافي من الوباء، باستخدام «تدابير لدعم القطاعات المتضررة بشدة، مع السعي لتحقيق وفورات عن طريق «تقليص أو إعادة تخصيص» أوجه الإنفاق غير ذي الأولوية.
وفي سياق تقييمها لمبادرات الإصلاح، أشارت «مالك»، بشكل إيجابي إلى أن «عملية صنع السياسات الاقتصادية الخليجية» الحالية، هي «أكثر العناصر ديناميكية وفاعلية»، التي شهدتها على الإطلاق، مؤكدة ثقتها في أن دول المنطقة، يمكن أن تتغلب على التحديات المستقبلية. وتشير التطورات الأخيرة مثل فرض الإمارات لضريبة الشركات، وخطط عمان لفرض ضريبة الدخل، إلى أن هذه الدول، بدأت تقود مسارها الاقتصادي نحو مستقبل مستدام.
على العموم، قدم التقرير «رؤية قيمة»، للمسارات الحالية لاقتصادات دول الخليج، وبعض التحديات التي من المتوقع أن تواجهها في المستقبل، حيث حظيت استجابتها لصدمات، مثل تداعيات «كوفيد-19»، والانخفاض اللاحق في أسعار النفط، بـ«الثناء» من الخبراء الدوليين، مما أدى إلى وجود توقعات اقتصادية إيجابية بشكل عام في الأشهر المقبلة. ومع ذلك، تم تسليط الضوء على بعض القضايا التي تواجهها في ظل المخاوف بشأن تذبذب هيكل اقتصاداتها مع بداية تحول العالم بعيدًا عن الاعتماد على الوقود الأحفوري.
ومع ذلك، تم الاعتراف بجهودها في رفع مستويات النمو في الناتج المحلي الإجمالي جراء ارتفاع الإيرادات غير النفطية في السنوات الأخيرة، والإشادة بجهودها في إصلاح السياسات المالية، والآثار الإيجابية لزيادة مشاركة المرأة في القوى العاملة، والتعديلات الأخرى في التشريعات المنظمة لأنشطة سوق العمل التي زادت من ديناميكية وحيوية اقتصادات الخليج.