25/5/2022
الثروة السمكية والأمن الغذائي العربي
من أهم أسس تحقيق الأمن الغذائي لأي دولة الاعتماد على الذات، وفي ظل التأثير المباشر للنزاعات السياسية والحروب -التي من شأنها تعطيل تجارة المواد الغذائية- على نهج الاعتماد المتبادل؛ وجب على كل دولة السعي للاعتماد على الذات في إنتاج السلع الغذائية الرئيسية، وتنويع مصادر الدخل. وعلى الرغم من أن الدول العربية، كلها -فيما عدا السودان- تفتقر إلى المراعي الطبيعية، فإن النمط الغذائي فيها، قد غلب عليه الاعتماد على اللحوم، وخاصة الحمراء في حصولها على البروتين الحيواني، ومن ثمّ، الاعتماد على الاستيراد في توفير هذا الغذاء، ما جعل هناك ضرورة لتأمين متطلبات تحقيق أمنها الغذائي من هذه السلعة.
ومن المعلوم، أن حجم الثروة الحيوانية العربية يبلغ نحو 390 مليون رأس، يتركز إنتاجها في ثماني دول عربية فقط، يأتي على رأسها السودان الذي يستحوذ على 31.4%، يليه الصومال، والجزائر، والمغرب، وموريتانيا، واليمن، والسعودية، ومصر. وفيما تبلغ نسبة الاكتفاء الذاتي العربي نحو 79%، أخذت الواردات من اللحوم الحمراء تزيد عبر السنوات لتصل إلى نحو 10 مليارات دولار سنويًا، أي بنسبة 10% من إجمالي الواردات الغذائية البالغ نحو 100 مليار دولار، كما تستورد الدول العربية نحو 75% من احتياجاتها من الأعلاف اللازمة لإنتاج اللحوم الحمراء والدواجن، ونحو 30% من احتياجاتها من الدواجن.
وتدفع إشكاليات عدم وجود مراعي طبيعية، وارتفاع تكلفة استيراد الأعلاف، وإمكانية إعادة تخصيص الأراضي المزروعة بالأعلاف لزراعة القمح، بما يرفع نسبة الاكتفاء الذاتي منه، إلى الاهتمام ببدائل توفر البروتين الحيواني اللازم لصحة الإنسان. ويتوافر للدول العربية كلها هذا البديل ممثلاً في ثرواتها السمكية، وخاصة أنها كلها تقع على بحار، وتملك عمقًا فيها من خلال المنطقة الاقتصادية الخالصة لكل منها، والتي تمتد إلى 200كم من مياهها الإقليمية، أو إلى خط المنتصف، إذا كان الاتساع المائي لا يسمح بذلك، لتصبح الأسماك، سواء التي يتم صيدها أو يتم استزراعها مصدرا بديلا متميزا للبروتين الحيواني، وخاصة أن الشواطئ العربية تمتد إلى نحو 22.7 ألف كم، وتبلغ مساحة الجرف القاري الغني بالأسماك، نحو 707 آلاف كم2، إلى جانب العديد من المسطحات المائية، من البحيرات والأنهار والمستنقعات والمجاري المائية الداخلية.
ويعتبر إنتاج الأسماك منخفض التكاليف اقتصاديًا، حيث تتغذى من البحار، كما أن الاستزراع السمكي يمكن أن يتم في مناطق صحراوية، ومن ثم فهو لا يتعدى على أراضي مخصصة للزراعة، وكما هو معلوم، فإن الأسماك تعد من أهم مصادر البروتين الحيواني، ومصدرا مهما للأحماض الأمينية والمعادن والفيتامينات، فضلاً عن سهولتها في الهضم، كما يمكن من خلال الاستغلال الأمثل لهذا القطاع أن يحقق ليس فقط سد فجوة البروتين في العالم العربي، لكن أيضا الإسهام في تعظيم الصادرات وتنمية الدخل القومي.
ومع القيود الطبيعية المفروضة على نمو القطاع الزراعي العربي، حيث تشكل المساحة المزروعة -البالغة 70 مليون هكتار- 35% فقط من الأراضي الكلية القابلة للزراعة، والبالغة نحو 200 مليون هكتار. ومع تقلص هذه المساحة نتيجة التوسع العمراني وعوامل التصحر؛ يصبح الاتجاه إلى البحر لتوفير الغذاء، اختيارًا حتميا، لا ينبغي التأخر فيه، وخاصة مع توافر القدرة على ولوج هذا الاتجاه.
ويمكن تقسيم مناطق الصيد في الوطن العربي الواعدة بفرص الاستثمار إلى أربع مناطق، تشمل الأولى، منطقة «المحيط الأطلسي»، حيث سواحل المغرب وموريتانيا بطول يقارب 4 آلاف كم، ومساحة جرف قاري تقارب 90 ألف كم2، وتتميز بغناها من الأسماك، وتنتج نحو 49% مما ينتجه العالم العربي من الأسماك، ويقدر مخزونها السمكي بنحو 4.5 ملايين طن، وتنتشر فيها أساطيل الصيد الأجنبية وأهمها الأسطول الأسباني. والثانية هي منطقة «البحر المتوسط»، وتشمل سواحل سوريا ولبنان وفلسطين ومصر وليبيا وتونس والجزائر والمغرب، بطول سواحل يقارب 7 آلاف كم، ومساحة جرف قاري 202 ألف كم2، وتنتج 34% من إنتاج العالم العربي من الأسماك، بمخزون سمكي يبلغ نحو 680 ألف طن، وتعد مصر الأولى في هذا الإنتاج، تليها الجزائر، ثم تونس.
أما المنطقة الثالثة، فهي منطقة «الخليج العربي وبحر العرب»، وتشمل سواحل العراق، والسعودية، والكويت، والبحرين، والإمارات، وقطر، وعمان، واليمن، بمساحة جرف قاري 176كم2. وأولى الدول إنتاجًا فيها اليمن، ثم سلطنة عُمان. والمنطقة الرابعة، منطقة «البحر الأحمر والمحيط الهندي»، وتشمل سواحل مصر، والسودان، والصومال، والسعودية، واليمن، وجيبوتي، بطول سواحل 6 آلاف كم2، ومساحة جرف قاري 177كم2، واحتلت اليمن والسعودية المرتبة الأولى في الإنتاج في هذه المنطقة. ووفق هذا المعنى، تعد المنطقة الأولى (المحيط الأطلسي)، هي الأكثر إنتاجًا، وفرصًا للاستثمار في الثروة السمكية في عالمنا العربي، يليها منطقة (البحر المتوسط)، ثم (الخليج العربي، ثم (البحر الأحمر والمحيط الهندي)، بإجمالي إنتاج ارتفع من 1.2 مليون طن متوسط السنوات 1997/2011 إلى نحو 5 ملايين طن حاليًا.
علاوة على ذلك، يحتل «الاستزراع السمكي»، مكانة بارزة في الإنتاج السمكي على المستوى العالمي. وتبين إحصاءات «منظمة الأغذية والزراعة»، التابعة للأمم المتحدة، أنه من بين إنتاج عالمي للأسماك يبلغ نحو 179 مليون طن، جاء 82 مليون طن من الاستزراع السمكي بنسبة 46%، في مقابل 96.4 مليون طن صيد بحري بنسبة 54%، وقد تربعت «الصين» على عرش الاستزراع السمكي، تليها على الترتيب الهند، وإندونيسيا، وفيتنام، وبنجلاديش، لتأتي «مصر» في المركز السادس عالميًا بمتوسط إنتاج سنوي يبلغ 1.6 مليون طن. وفي إطار هذا الواقع، تتضاءل نسبة الإنتاج العربي من الأسماك، سواء المصادة أو المزروعة، قياسًا إلى الإنتاج العالمي، أو إلى حاجة الوطن العربي، أو إلى الإمكانيات المادية المتوافرة التي تمكن من زيادة الإنتاج.
ويأتي ضعف الإنتاج السمكي، نتيجة عدة عوامل من أهمها، الممارسات الخاطئة كالصيد الجائر، وصيد الزريعة وعدم احترام الراحة البيولوجية ومواسم التكاثر، والتركيز على الصيد الساحلي، ونقص تسهيلات البنية الأساسية المساعدة، كالأرصفة وموانئ الصيد والورش، والثلاجات، وصناعة معدات الصيد، فضلا عن تضاؤل الاستثمار في ممكنات الصيد في أعالي البحار التي تمتلكها الأساطيل الأجنبية العاملة قرب السواحل العربية، وفي مقدمتها الأسطول الروسي والياباني والأسباني، وضعف الاستثمار في الاستزراع السمكي برغم وجود استراتيجية عربية لتربية الأحياء المائية أعدتها «المنظمة العربية للتنمية الزراعية». وتبين الدراسات أن هناك قابلية لزيادة الإنتاج العربي من الأسماك البحرية، بما لا يقل عن 2 مليون طن سنويًا، أما آفاق التوسع في الاستزراع السمكي، فهي مرتبطة بالأعلاف، شأنها شأن تربية الدواجن.
ولتعظيم الاستفادة من هذا المورد تعددت الفعاليات العربية، وأصدرت العديد من التوصيات، كتوجيه الاستثمارات العربية نحو القطاع السمكي، وتأسيس شركة عربية قابضة للأسماك والمساهمة في رأسمالها، وإنشاء «المجلس العربي للثروة السمكية»، في إطار جامعة الدول العربية، وإنشاء قاعدة بيانات عربية تشمل مختلف أنواع الثروة السمكية، وتأسيس شركة عربية لمراكز البحث العلمي المعنية. وتفرض الظروف الحالية، التي يمر فيها وضع الأمن الغذائي العربي، ضرورة الالتفات لمثل هذه التوصيات.
وفي منطقة الخليج العربي -التي عرفت صيد الأسماك قبل أن تعرف النفط- وكثيرًا ما اعتمدت على الأسماك كغذاء مهم لوفرتها وكثرة السواحل واتساعها. ومع قابلية قطاع الثروة السمكية للتطوير وقدرته على تلبية احتياجات الأمن الغذائي للسكان، إلا أنه لم يحظ بعد بالاهتمام الكافي مع ما يتناسب وأهميته، حيث يمكن أن يسهم بنسبة يعتد بها في الناتج المحلي، ويكون بديلاً منافسًا وكاملاً عن اللحوم الحمراء، التي يتم استيرادها، أو استيراد الأعلاف اللازمة لإنتاجها.
وفي واقع الأمر، يعاني هذا القطاع في الخليج من نفس المشاكل تقريبًا التي يعانيها على مستوى العالم العربي. وبرغم أن «الأمانة العامة»، لمجلس التعاون الخليجي، يتوفر لديها لجنة معنية بالثروة السمكية تجتمع بصفة منتظمة، وتصدر توصيات لتشجيع الاستثمار في هذا المجال، فيما تتعدد فرص الاستثمار، سواء في مجال الصيد، أو التصنيع، أو التسويق، أو الخدمات المساعدة؛ إلا أن الاستثمار والعمل الخليجي المشترك في هذا القطاع مازال محدودًا.
ومما لاشك فيه، أن الصناديق والمؤسسات العربية يمكن أن تلعب دورًا مميزًا في هذا الشأن، وخاصة مع توافر مناخ ملائم للاستثمار، كـ«الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي»، و«الشركة العربية للاستثمار»، و«المؤسسة العربية لضمان الاستثمار»، و«البنك الإسلامي للتنمية»، و«المصرف العربي للتنمية الاقتصادية في إفريقيا».
وفضلاً عن الفرص القائمة في الخليج، هناك فرص عربية واعدة للاستثمار في المجال السمكي، وخاصة في موريتانيا والمغرب والصومال. وتأكيدا لذلك، بادر القطاع الخاص الخليجي، بعقد المنتدى الخليجي الموريتاني للاستثمار بمبادرة «اتحاد الغرف التجارية»، لبحث آفاق الاستثمار الخليجي في موريتانيا وفرص هذا الاستثمار، كما التقى وزير الخارجية الموريتاني في نوفمبر 2021، أمين عام مجلس التعاون الخليجي، لبحث سبل تعزيز الاستثمارات الخليجية في الفرص الموريتانية.
على العموم، أخذت دول الخليج العربية في توجهها لتنويع مصادر الدخل وتعزيز القطاعات غير النفطية، تشجع الاستثمار في الاستزراع السمكي، التي أخذت تنظر إليه أيضًا كأحد المفاتيح الرئيسية لحل إشكالية الأمن الغذائي، ولكن الظروف العالمية الراهنة للأمن الغذائي العربي والخليجي، تتطلب وضع قطاع الثروة السمكية على رأس أجندة استراتيجية الأمن الغذائي، سواء على المستوى الخليجي أو العربي.