26/6/2019
هل تصمد إيران أمام الضغوط الأمريكية؟
في إطار ما تشهده منطقة الخليج من توترات وتصعيد متبادل، للأزمة بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران؛ والذي كان آخر فصوله إعلان الأخيرة إسقاط طائرة مسيَّرة أمريكية من طراز «إم.كيو - 4 سي ترايتون»، يوم20 يونيو، بزعم اختراقها مجالها الجوي -وهو ما نفته واشنطن- الأمر الذي دفع بالرئيس «دونالد ترامب» إلى اتخاذ قرار بالرد العسكري، وتراجعه عنه في اللحظات الأخيرة، وعقد البيت الأبيض اجتماع حرب تشاوري، وما أعقبه من وعود وتصريحات على لسان مسؤولين في الإدارة الأمريكية برد فعل قوي، فضلا عن التوترات التي سبقتها إثر تعرض ناقلتي نفط في خليج عُمان في13 يونيو إلى هجوم. وكانت 4 سفن تجارية قد تعرضت في المياه الإماراتية الاقتصادية خلال شهر مايو لعمليات أخرى تخريبية، وتم استهداف محطتي نقل للنفط في السعودية، بهجوم من قِبل طائرات من دون طيار حوثية مدعومة من إيران.
وكشفت صحيفة «نيويورك تايمز» أن «البنتاجون جهّز فجر يوم21/6. لضربة عسكرية تجاه مواقع إيرانية تشمل بطاريات صواريخ ومنظومة دفاعية ورادارات، منها «نظام الصواريخ S-125 Neva / Pechora» وأن القوات الأمريكية في المنطقة، وضعت في حالة تأهب، وكان من المقرر أن تنفذ الضربات في غضون ساعة، لكن تم إرجاؤها غير أنها بقيت معتمدة». مضيفة، أن «ترامب» تراجع عن تنفيذها قبل 10 دقائق، وذلك عقب الموافقة عليها وتحديد المواقع التي سيتم استهدافها». جدير بالذكر أن قرار الرجوع المفاجئ أوقف ما كان سيصبح ثالث عمل عسكري لـ«ترامب» ضد أهداف في الشرق الأوسط، حيث إنه ضرب مرتين أهدافًا في سوريا في 2017 و2018.
وكانت قناة «فوكس نيوز» قد أوضحت أن تعليق «ترامب» للضربة العسكرية، لا يتنافى مع موقفه الحازم بشأن عدم السماح لإيران بامتلاك سلاح نووي، والذي أكده بقوله أنه «لا يمكن لإيران أن تحصل على أسلحة نووية أبدًا»، مؤكدا أنها أصبحت اليوم أضعف مقارنة ببداية ولايته، بفضل العقوبات المفروضة عليها».
وفي إطار هذا الواقع، أعلنت محطة «إن بي سي» الأمريكية أن الرئيس الأمريكي بعث في اليوم التالي لاستهداف الطائرة، رسالة إلى إيران، عبر سلطنة عُمان؛ للتحذير من «هجوم أمريكي محتمل ستكون له عواقب إقليمية ودولية» (نفته الإدارة الأمريكية)، وفي نفس اليوم طلبت واشنطن عقد اجتماع مغلق لمجلس الأمن الدولي يوم 24/6. لبحث آخر التطورات المتصلة بإيران، والحوادث الأخيرة التي تعرضت لها ناقلات نفط، والتي قالت إنها ستقدم فيه أدلة على تورط طهران في تلك الحوادث. وفي هذا الصدد يقول «إيمانويل غونزاليس» من «كلية دفاع حلف الناتو»، «أطلقت إيران الرصاصة الأولى في الحرب بإسقاط الطائرة الأمريكية، والأمر لا يحتاج إلى جهد للتأكد من أن قرار «ترامب» لن يستغرق وقتًا طويلا، وستكون هذه الحرب مفاجئة من حيث الأهداف والتحركات وحجم القوة وتنوعها».
وسط كل هذه التوترات، يأتي حرمان إيران من تصدير نفطها من أشد العقوبات الأمريكية إيلامًا، فهو يتسبب في خنق اقتصادها، ففي أعقاب إسقاط الطائرة الأمريكية، ارتفع خام برنت إلى ما يزيد على 65 دولارًا للبرميل، ويتجه لتحقيق صعود نسبته 6% الفترة القادمة، بحسب مراقبين بفعل مخاوف من شن الولايات المتحدة هجومًا عسكريًّا على إيران، ما قد يعطل تدفقات النفط من منطقة الشرق الأوسط، التي توفر ما يزيد على خُمس الإنتاج العالمي منه.
وتعد إيران واحدة من أكبر دول العالم من حيث احتياطيات الطاقة، باحتياطي نفط يبلغ أكثر من 132 مليار برميل، كما أنها ثاني أكبر منتج ومصدر بين دول الأوبك، وتشكل صناعتها النفطية أهم قطاعاتها الاقتصادية، حيث يوفر لها80% من متحصلاتها من العملات الأجنبية أي نحو 100 مليار دولار سنويا. وفي بدايات القرن الحالي كانت تنتج 5.1% من إجمالي إنتاج النفط العالمي (3.9 ملايين برميل يوميا)، وحافظت على هذا الوضع حتى نهاية العقد الأول من الألفية.
ومع ذلك، فإنه بالنظر إلى الحظر الدولي، الذي فُرض عليها بين عامي (2012 - 2016)، فقد تأثر اقتصادها؛ بسبب تراجع إنتاجها النفطي إلى أقل من 3 ملايين برميل يوميا بداية من عام 2012. وتراجعت صادراتها النفطية إلى أقل من مليون برميل يوميا، ما مثل أهم الضغوط التي أوصلت إيران إلى الاتفاق النووي. غير أنه بعد رفع العقوبات عنها أخذت تخطط لاستثمارات في صناعاتها النفطية بنحو 500 مليار دولار حتى 2025. وكانت هذه العقوبات موجعة لاقتصادها، وعطلت توقيع اتفاقيات تهدف إلى استخراج النفط من حقول جديدة، وتعد فضلاً عن سوء الإدارة السبب الرئيسي لتدهور قيمة عملتها، ووصولها إلى حالة التردي الكبرى التي آل إليها اقتصادها، حتى اضطرت الحكومة إلى تقنين توزيع البنزين، فيما كانت تستورد نحو 40% من احتياجاتها منه.
وفي مايو الماضي انتهت مهلة الشهور الستة، التي كانت الإدارة الأمريكية قد منحتها لثماني دول تشتري النفط الإيراني هي (الصين والهند واليابان وكوريا الجنوبية وتايوان وتركيا واليونان وإيطاليا)، لإعفائها من العقوبات. وفي العام الذي سبق عودة هذه العقوبات كان الاقتصاد قد حقق نموًا بلغ 12.5%، وقاد هذا النمو قطاع النفط والغاز. وفيما يتجه ترامب إلى جعل صادراتها النفطية صفرا، انخفضت صادراتها في مارس 2019 إلى 1.1 مليون برميل يوميا، وخسرت بذلك أكثر من 10 مليارات دولار، في الوقت الذي أوقفت تايوان واليونان وإيطاليا شراء نفطها، وخفضت الصين والهند الكميات التي تشتريها منها، فيما تتجه طهران إلى الأبواب الخلفية؛ لبيع نفطها عبر التهريب الذي يصعب ضبطه.
ومنذ عودة العقوبات الأمريكية أخذت عملتها في التراجع، وفقد الريال نحو 60% من قيمته مقابل الدولار في السوق غير الرسمي، وتسببت هذه العقوبات في تكالب الإيرانيين على شراء الدولار خشية مزيد من انهيار لقيمة عملتهم، خاصة أن العملة الأجنبية هي الوسيلة الوحيدة للحصول على احتياجاتهم. وأدى تدهور سعر الريال إلى شح في جميع السلع والمنتجات المستوردة، فضلاً عن الارتفاع الكبير في أسعارها. وطبقا لبيانات صندوق النقد الدولي، فإن الارتفاع الكبير في الأسعار قد رفع معدل التضخم المتوقع في 2019 إلى 37% بعد أن كان 31% في 2018. وامتصاصًا لغضب الشارع توسعت الحكومة في استيراد اللحوم والمواد الغذائية فيما كان المنتجون المحليون يبيعون إنتاجهم للخارج؛ للحصول على العملات الأجنبية، ومع هذا الوضع قد لا يكون هناك بديل عن استحداث نظام الكوبونات الإلكترونية؛ لمنع غضب الشرائح الفقيرة من الشعب.
هذا الوضع الذي يمثله النفط للاقتصاد والحياة في إيران يفسر لنا الاعتداءات الأخيرة على المواقع والمنشآت النفطية في الخليج، حيث إنها بهذه الأعمال تريد أن تقول «أفرجوا عن النفط» - في رسالة إلى الشركات وإلى دول الخليج العربية المعتمدة على إنتاجه وتصديره، وإلى الإدارة الأمريكية - وذلك لما يمثله هذا القطاع في اقتصادها.
ومن المعلوم أن العراق يحتفظ بعلاقات جيدة مع كل من إيران والولايات المتحدة ويقوم بدور توفيقي في محاولات رأب الصدع ومنع تدهور الأمور وانزلاقها إلى الحرب. وتعبر زيارة أمير الكويت الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح إلى بغداد عن حالة القلق القائمة على مستوى الخليج ككل وليس فقط الكويت، خاصة بعد استهداف الهجوم الإيراني في حادث البصرة مواقع تابعة لشركات نفطية أهمها شركة «إكسون موبيل»، النفطية الأمريكية العملاقة، لإيصال رسالة أنه على هذه الشركات التي تعد من أهم مجموعات الضغط في النظام السياسي الأمريكي أن تلعب دورها لدى الإدارة الأمريكية كي ترفع الحظر النفطي عن طهران.
وفضلاً عن الجهود الدبلوماسية المعلنة، التي تقوم بها العراق واليابان؛ لخفض التوتر الإقليمي، فإنه على أبواب قمة العشرين، التي تعقد في أوزاكا في اليابان ويحضرها كل من ترامب وبوتين وقادة كبار دول العالم، فإن التصريحات الصادرة من كبرى دول الاتحاد الأوروبي، تبين أن هذه الدول ليست بمنأى عن تلك الجهود الإقليمية والدولية الساعية إلى خفض التوتر، كما أنه سيكون للاتحاد الأوروبي دور في مناقشة الملف النووي حين يأتي المسؤول الأمريكي المكلف بالملف النووي، (بريان هوك) إلى باريس قريبًا؛ لمناقشة الوضع مع المسؤولين في فرنسا وألمانيا وبريطانيا. وتطلب إيران من هذه الدول، إما المساعدة في خفض العقوبات الاقتصادية عليها وفي مقدمتها الحظر النفطي أو مواجهة انهيار الاتفاق النووي، ومن ثم إطلاق يدها في المضي قدمًا في برنامجها من دون قيود أو التزامات. ولكنّ خروجها من الاتفاق النووي، الذي تهدد به سيدفع الاتحاد الأوروبي نفسه إلى العودة إلى العقوبات، وهو أمر تخشاه طهران، ولهذا فقد تواكب مع عمليات الهجوم على منشآت ومواقع نفطية إعلانها في 17 يونيو أنه خلال 10 أيام سوف تجتاز الحد المسموح؛ لتخصيب اليورانيوم المنخفض الدرجة بموجب الاتفاق النووي الموقع في عام 2015. وهو إعلان تقول به أنه لا بد من سرعة بذل الجهد؛ حيث تخشى مع مرور الوقت مع شدة وطأة هذه العقوبة، ثورة شعبية عارمة تودي بنظامها، ولهذا فهي تضغط بجميع الوسائل.
على العموم، على الرغم من تسبب الاعتداءات الأخيرة على المواقع والمنشآت النفطية في الخليج، في ارتفاع أسعار النفط فإن هذا الارتفاع يخدم كل مصدريه في دول الخليج العربية، ويخدم بالأساس شركات النفط الصخري الأمريكية، وهو ما يجعل واشنطن لا تذعن لهذا الابتزاز، بل تعلن التزامها بأمن الخليج وأمن الممرات البحرية الدولية، في الوقت الذي يزداد فيه الاتجاه لتدويل إجراءات ضمان الملاحة في المنطقة، لتجد طهران نفسها أمام خيارين، إما الإذعان للشروط الأمريكية وعلى رأسها برنامجها الصاروخي والكف عن التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى ودعم الإرهاب، وإما الاستمرار في خضوعها للعقوبات وفي مقدمتها حظر تصدير نفطها. وعليه، نجد أن الجهود الدولية لخفض التوتر سيكون تأثيرها ملحوظًا، إذ إن وضع النفط في الاقتصاد لا يجعل النظام قادرا على الصبر الطويل، خاصة مع تفاقم سوء الأحوال المعيشية.
وبمناسبة زيارته لبيروت في 23 مارس، تعهد وزير الخارجية الأمريكي «مايك بومبيو»، بحل النزاع الحدودي البحري بين لبنان وإسرائيل، بعد أن رفضت لبنان مقترحًا سابقًا لحل هذا النزاع، يقضي بتخليها عن منطقة من مياهها الاقتصادية تبلغ مساحتها أكثر من 800 كم2، وتمسَّك لبنان بأن يكون الحل عن طريق الأمم المتحدة، وبحضور الطرفين المتنازعين لبنان وإسرائيل، وبوساطة أمريكية، شاملاً ترسيم الحدود، فيما تستغل إسرائيل علاقة حزب الله اللبناني بإيران لاستمالة الموقف الأمريكي لصالحها، وللضغط على لبنان لقبول تنازلها عن المنطقة، التي تعد واعدة بثروة نفطية وغازية.
وكان لبنان على لسان وزير الطاقة في حكومته قد عرض في عام 2017 خمس مناطق بحرية من أصل عشر حددها على الشركات النفطية الدولية للتنقيب عن النفط والغاز بها، وقد كان من المفترض أن تبدأ شركات روسية وفرنسية وإيطالية عمليات التنقيب في مناطق قبالة شمال بيروت وأخرى قبالة الحدود الجنوبية مع فلسطين المحتلة، وسط تقديرات غير رسمية بأن لبنان لديه في المناطق المعروضة للتنقيب نحو 25 تريليون قدم مكعبة من الغاز، ونحو 500 مليون برميل نفط خام، تحويها مساحة تقارب 22 ألف كم2.
وقبل أيام من الاحتفال الرسمي يوم 9 فبراير الماضي لتوقيع اتفاقيتي منح تراخيص الاستشكاف والإنتاج، تعرض لبنان للتهديد المباشر من قِبَل إسرائيل، ووصف وزير خارجيتها هذا الإجراء اللبناني بأنه استفزازي لإسرائيل، وطالب الشركات السالفة الذكر بالتوقف عن عملياتها، زاعمًا أن هذه المناطق هي ملك لإسرائيل.
وأثار هذا الموقف الإسرائيلي ردود فعل لبنانية أجمعت على حق لبنان السيادي في هذه المناطق التي تقع ضمن مياهها الاقتصادية الخالصة، والموقف القانوني في صالح لبنان؛ لأن حدودها البحرية مرسومة وفقًا للقانون الدولي للبحار، وعلى أساس قاعدة المسافة المتساوية، والقانون الدولي لا يشترط وجود اعتراف أو علاقات متبادلة لممارسة أي دولة حقوقها السيادية.
وإزاء التهديدات الإسرائيلية وجَّه لبنان رسائل إلى كل من الأمين العام للأمم المتحدة والممثلة العليا للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية ووزراء خارجية قبرص واليونان وإيطاليا، وكان ذلك بخصوص مشروع مد خط أنابيب غاز بين إسرائيل وقبرص واليونان، ومن ثم إلى إيطاليا، فهذا الغاز الذي ستنقله إسرائيل جزء كبير منه حق لبناني، وخاصة بعد أن بدأت إسرائيل أعمال الحفر والتنقيب في حقل «كاريش» البحري الإسرائيلي، الذي يبعد نحو 5كم فقط من الحدود البحرية اللبنانية، وأعمال استكشاف حدودية بحقول نفط وغاز في شرق المتوسط وآبار إنتاجية مشتركة بين البلدين، وهو ما يُخشى معه أن تسحب إسرائيل من حقوق لبنان النفطية والغازية في هذه المنطقة.
وقد أكد لبنان على لسان رئيس الجمهورية «ميشال عون» أن لبنان سوف يستخدم كل السبل المتاحة لتأكيد حقه في سيادته وسلامة أراضيه، وهو الموقف نفسه الذي أجمعت عليه القوى اللبنانية، فيما ينذر بتصاعد هذه الأزمة، وخاصة أنها ليست الوحيدة في ملف غاز المتوسط المليء بالمشاكل.
والجدير بالذكر أن إسرائيل هي أول من وضع يده على غاز المتوسط منذ عام 2009، من دون أي اتفاق مع الدول التي يمكن أن يكون هذا الغاز ضمن منطقتها الاقتصادية أو قريبا منها، وكان تقرير هيئة المساحة الجيولوجية الأمريكية في عام 2010 قد كشف عن وجود ثروة كبيرة محتملة من الغاز والنفط قدرها بـ122 مليار قدم مكعبة من الغاز و1.7 مليار برميل نفط خام قبالة سواحل إسرائيل وقطاع غزة وقبرص وسوريا ولبنان ومصر، وهي كلها حين إعلان هذا التقرير تفتقر إلى النفط والغاز، وتعتمد على الاستيراد في توفير احتياجاتها من الطاقة، ويشكل حصول كل منها على حقه في هذه الثروة تحولا اقتصاديا كبيرا، قد يحررها من فاتورة هذا الاستيراد، بل قد يجعلها مصدرة.
وقد سبقت إسرائيل كل هؤلاء، بل أخذت في التحول من الاستيراد إلى التصدير، واستغلت وضعها كدولة احتلال في حرمان قطاع غزة من ثروته النفطية والغازية، وأصبح وضع سوريا معلقًا؛ بسبب أزمتها الداخلية الممتدة، وحينما أقدم لبنان على ممارسة حقوقه السيادية، بادرته إسرائيل بالتهديد، ووصفت هذه الممارسة بأنها استفزاز لها.
وفيما يدل على تعنت إسرائيل، فإن المنطقة المتنازع عليها، التي تدّعي إسرائيل ملكيتها لها، لم تُدخِلها لبنان ضمن المناطق التي تم الاتفاق بشأنها مع الشركات النفطية للتنقيب فيها، فقد قسّم لبنان رقعة التنقيب إلى عشر مناطق، ويتم التنقيب بمحازاة الجزء المتنازع عليه، ولهذا نجد أن إسرائيل تمارس على لبنان سياسة الترهيب، مستغلة أنهما رسميًّا في حالة حرب، معيدة إلى الأذهان الحرب الإسرائيلية على لبنان في 2006، والتي استمرت 33 يومًا. ودلالة على نوايا إسرائيل العدوانية فقد اتفقت مع ألمانيا لبناء سفن حربية تخصصها البحرية الإسرائيلية لحماية منصات الغاز والمنشآت الاقتصادية في المياه الإسرائيلية، وأحاطت مواقع استخراج الغاز بتجهيزات مضادة للصواريخ، بل إن رئيس الأركان الإسرائيلي هدد باستخدام القوة للسيطرة على المناطق البحرية قبالة قطاع غزة ولبنان، وهذا التوتر دفع الشركات النفطية التي تعاقد معها لبنان إلى وقف عملياتها ريثما يتم حل الأزمة، ما يزيد من معاناة الاقتصاد اللبناني.
وإذا ما وضع لبنان يده على ثروته الغازية المحتملة، المقدرة بـ25 تريليون قدم مكعبة من الغاز، استنادًا إلى الدراسة العلمية التي قامت بها شركة «بي جي إس» النرويجية، التي أفادت بأن هذه الثروة تصل إلى 80 تريليون قدم مكعبة، فإنه يكون قد وضع يده على ثروة تتراوح قيمتها ما بين 300 و960 مليار دولار، وإذا كان كل تريليون قدم مكعبة من الغاز يعطي 5000 ميجاوات كهرباء، فإن لبنان بسبب موقعه في المتوسط قد يصبح أحد مصدري الكهرباء من خلال شبكات الربط الإقليمية والدولية، فضلاً عن توفير الطاقة لكل الاستخدامات المنزلية والإنتاجية من موارد محلية، والتحول إلى استخدام الغاز بدلاً من المشتقات النفطية في إنتاج الكهرباء وفي وسائل النقل، ما يقلل من حدة التلوث، ويؤدي توفير الطاقة بأثمان معقولة للشركات إلى فتح الباب لتدفق الاستثمارات الأجنبية على لبنان، كما يخفض من الإنفاق الحكومي، ومن ثَمّ عجز الميزانية ولجوء الحكومة إلى القروض، بل إن توافر الغاز يشكل حافزًا للمشروعات الكثيفة الاستخدام للطاقة، كإنتاج البتروكيماويات.
عموما إذا كان وضع لبنان يده على ثروته من النفط والغاز، وهو أمر سيادي، يحدث هذه النقلة النوعية للاقتصاد اللبناني، فإن إسرائيل التي بادرت بالتهديد والتلويح باستخدام القوة لا تريد لهذا القطر العربي ولا لغيره من الأقطار العربية أن ينتعش ويقف على قدميه، وتريد أن تستثمر وضعها في غاز شرق المتوسط، بعد أن أصبحت مصدرة لهذا الغاز، وأن تمارس دبلوماسية الطاقة، وأن تكون قوتها في الطاقة أحد أهم عناصر نفوذها السياسي والأمني، بل ونفوذها الاقتصادي والمالي أيضا، فملف غاز شرق المتوسط ليس ملفًا اقتصاديا فقط، ولكنه بالأساس ملف جيوسياسي، فإذا ما تعطل إنتاج لبنان من هذا الغاز؛ بسبب إشكالية المنطقة المتنازع عليها، التي قد يستغرق حلها زمنًا، فلن يكون أمام لبنان إلا الاستمرار في الاعتماد على الاستيراد، والمعاناة الاقتصادية والافتقار إلى أمن الطاقة، وهذه هي نقطة الابتزاز التي تسعى إسرائيل إلى استثمارها.
وختاما إذا كان لبنان قد دفع دائمًا ثمن موقعه العروبي الملتزم في الصراع العربي الإسرائيلي، ولم يرضخ لضغوط إسرائيل المستمرة التي حاولت إخراجه من الصف العربي، وكان بعض هذا الثمن تأخره في استثمار موارده، فلماذا لا يكون ملف الغاز -كما تسعى إسرائيل- هو مفتاحها في ممارسة ضغوطها على لبنان، للحصول على المكاسب السياسية التي تبتغيها، التي أخفقت فيها من قبل؟ وإلى هذه النقطة لا تعد إشكالية المنطقة المتنازع عليها وتمكين لبنان من حقه من استثمار موارده قضية لبنانية بحتة، ولكنها تصبح قضية عربية لا ينبغي أن يتوارى الاهتمام بها.