11/5/2022
قراءة في المشهد الاقتصادي العالمي الراهن
بعيدًا عن منظمة «الأمم المتحدة»، المعنية بحفظ الأمن والسلم الدوليين، وحل المشاكل الدولية بالطرق السلمية؛ قامت «روسيا»، بعملية عسكرية في أوكرانيا منذ فبراير2022، استباقًا لانضمام الأخيرة إلى حلف «الناتو»، ما يجعلها مصدر تهديد ملاصقا لأمنها، يقع على حدودها مباشرة. ويعيد هذا الإجراء الاستباقي، ما فعلته «الولايات المتحدة» عام 2003، حينما قامت بغزو «أفغانستان»، و«العراق»، بدعوى وجود مصادر تهديد لأمنها. وبعد أن شرعت روسيا في هذه الحرب، قادت الولايات المتحدة والغرب سلسلة ممتدة من العقوبات المالية والاقتصادية والسياسية ضدها، فضلاً عن الدعم العسكري والسياسي والإعلامي لـ«كييف»، ما جعل هذا الصراع، «ساحة صراع روسي، غربي مباشر»، كل طرف لا يريد أن يخرج المنافس من هذه العملية العسكرية منتصرًا، أو محققًا أهدافه التي سعى إليها.
ومع ذلك، فإن أيا من الطرفين لم ينظر إلى الأعباء الاقتصادية الباهظة التي يدفع ثمنها في النهاية المواطن في شتى أنحاء العالم، وبدلاً من أن تتعاون القوى الكبرى، أو تقود تحالفا دوليا من خلال الأمم المتحدة لمواجهة الأخطار، التي تهدد الإنسانية وكوكب الأرض، إذا بالتهور السياسي يجعل الحديث عن هذا التعاون، نوعا من الآمال لدى الدول النامية، التي ظلت وحدها الباحثة عن السلام، المتمسكة بشرعية المنظمة الأممية، الحريصة على بقائها ودورها.
وبعد أن كانت العملية العسكرية الروسية، يُقدر لها أن تنتهي في وقت قصير، إذا بها تمتد إلى شهور، وترتفع درجة عدم اليقين فيما يتعلق بتطوراتها. ولهذا فإن «صندوق النقد الدولي» - بعد أقل من شهرين من بدايتها، وتحديدًا في 19 أبريل الماضي- خفض تقديراته لنمو الاقتصاد العالمي بشكل كبير، ليبلغ معدل النمو المتوقع 3.6% لعام 2022، بينما كان قد قُدر هذا المعدل في تقريره السابق قبل العملية العسكرية بـ4.4%، كما توقع ارتفاع معدل التضخم في الدول المتقدمة ليبلغ 5.7%، بزيادة 1.8% عن تقديره السابق، وفي الدول النامية إلى 8.7% بزيادة 2.8% عن تقديره السابق، فيما توقع أيضا أن يبلغ معدل نمو الاقتصاد الأمريكي 3.7%، والصيني 4.4%، والبريطاني 3.7%، ودول منطقة اليورو 2.8%، وألمانيا 2.1%، وتوقع انكماش الاقتصاد الروسي بنسبة 8.5% والأوكراني بنسبة 35%.
هذا التباطؤ في معدلات النمو الاقتصادي في ظل وجود معدلات تضخم مرتفعة، يقود إلى حالة من الكساد التضخمي، وهي حالة ينخفض فيها الميل للاستثمار. ويؤدي انخفاض المبيعات إلى تراكم المخزون وإغلاق المصانع، والاستغناء عن العمالة، ومن ثم ارتفاع معدلات البطالة، وانخفاض مستوى المعيشة، وانخفاض الإنفاق على الشراء، فضلاً عما يؤدي إليه من تراجع معدلات التجارة الدولية، ذلك لأن العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، ليست مجرد أزمة في إقليم، لكنها تطول موردين رئيسيين للطاقة والمعادن والأغذية، ومن ثمّ، فإن أثارها تمتد إلى كل دول العالم، الذي يلجأ كل منها إلى الحفاظ على ما ينتجه من سلع لمصلحة مواطنيه أولاً، ما يؤثر على المعروض الدولي المتاح للتجارة.
وقبل الحرب، كان هناك خلل في سلاسل الإمداد بسبب جائحة كورونا، والذي رفع من أسعار النفط إلى ما فوق 100 دولار للبرميل، ما أثر على أسعار الشحن والنقل، وأطلق موجة أولى من ارتفاع الأسعار. ومع تواتر الحديث عن فرض عقوبات على النفط والغاز الروسي -فيما تعد روسيا ثالث أكبر مصدري النفط في العالم، تزود الاتحاد الأوروبي بـ40% من غازه و27% من نفطه- فإن هذا يقود إلى موجة ثانية من ارتفاع أسعار النفط إلى ما فوق 115 دولارا للبرميل.
ومع ارتفاع أسعار الوقود، سجلت «الولايات المتحدة» أعلى معدلات تضخمها منذ 40 عامًا في الشهر الأول لاندلاع الحرب في أوكرانيا، وزادت أسعار السلع بنسبة 8.5% في أكبر زيادة سنوية منذ ديسمبر 1981. وفيما أدت الحرب إلى حجب صادرات أوكرانيا من القمح والذرة وزيت عباد الشمس، فقد حققت أسعار هذه السلع قفزة هائلة، في الوقت الذي تستورد فيه منطقة الشرق الأوسط نحو50% من استهلاكها من هذه السلع من أوكرانيا وروسيا، كما أن الدولتين تسهمان بنسبة 29% من صادرات القمح العالمية، و19% من صادرات الذرة، و80% من صادرات زيت عباد الشمس.
وفي إدراك لذلك، وبسبب ارتفاع التضخم، قام «مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي»، برفع سعر الفائدة القياسي، ما أدى بالتبعية إلى قيام كل الاقتصادات التي ترتبط عملاتها بالدولار إلى رفع سعر الفائدة، بل امتد رفع الفائدة إلى عديد من الدول الأخرى، كإنجلترا، والهند، واستراليا، الأمر الذي رفع كلفة التمويل، وجعل عملية الاقتراض أكثر كلفة على الأفراد والشركات والحكومات، وشجع على إيداع الأموال في المصارف للاستفادة من الفائدة المرتفعة، وتهدئة الطلب على السلع والخدمات.
وانعكاسًا لهذا، دفع هذا الإجراء في اتجاه زيادة التباطؤ الاقتصادي، وخاصة مع استمرار تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، وعمليات الإغلاق التي تلجأ إليها الصين؛ بسبب تفشي جائحة كورونا، فضلا عن أن قرار «الفيدرالي الأمريكي»، ترتب عليه هجرة الأموال المستثمرة في الأسواق المالية الناشئة إلى «واشنطن»، ما أدى إلى أزمة المعروض في العملات الصعبة، ومن ثمّ، ارتفاع سعرها إزاء العملات المحلية، وانخفاض قيمة هذه العملات المحلية، ما أثر بدوره في زيادة الأعباء الحكومية، سواء لخدمة الدين، أو تعويض المواطنين بحزم حماية اجتماعية نتيجة انخفاض دخولها.
من ناحية أخرى، فإن النظام النقدي العالمي، يشهد «تغيرًا جديدًا»، نحو عالم متعدد العملات. فبعد العقوبات الاقتصادية الضخمة المفروضة على روسيا، أعلنت الأخيرة سداد قيمة مبيعاتها من النفط والغاز بالروبل. وأصدر الرئيس «بوتين»، في 31 مارس 2022، مرسومًا يحدد نظاما جديدا لدفع ثمن إمدادات الغاز من قبل المشترين من الدول غير الصديقة لموسكو. وذكرت وسائل الإعلام أن «المفوضية الأوروبية»، قد أوضحت أن شركات الاتحاد الأوروبي ستكون قادرة على دفع ثمن الغاز الروسي بالروبل من دون انتهاك العقوبات المفروضة على «موسكو». وبالفعل، قام مشترون أوروبيون بالدفع بالروبل مقابل إمدادات الغاز.
وإذا كان هذا التحول قد جاء بعد تجميد حسابات روسيا بالدولار، واليورو، فإنه عزز سيادتها وقوى عملتها. وبالفعل، أدى القرار إلى تعويض الخسارة التي تعرض لها الاقتصاد الروسي، منذ بدء العقوبات الغربية عليه. وقد يدفع هذا التحول -مع أزمة العملات الصعبة في الاقتصادات الناشئة- إلى توسيع التعاملات بين روسيا وهذه الاقتصادات بالعملات الوطنية لها، ما يعزز من وضع روسيا ونفوذها في هذه الاقتصادات، وخاصة مع التنوع الذي ينعم به اقتصادها. علاوة على ذلك، قد يدفع هذا الإجراء دولا أخرى، مهددة بالعقوبات الأمريكية والغربية، مثل «الصين»، إلى «نظام مماثل». ولطالما سعت «بكين» إلى ذلك، لجعل عملتها عملة دولية في التعامل، شأنها شأن الدولار، والين، واليورو، والاسترليني، أخذًا في الاعتبار أن احتياطيات الصين الدولارية هي الأكبر عالميًا، وتبلغ نحو 3.11 تريليونات دولار.
غير أن أهم الدروس المستفادة من المشهد الاقتصادي العالمي الراهن للدول العربية، هو إعادة الاعتبار للقطاع الزراعي، ودوره في تلبية احتياجات السكان الغذائية، بعيدًا عن الاعتماد على الخارج، وتعزيز التعاون العربي في هذا الشأن، والعمل على حل المشكلات السياسية المعرقلة لهذا التعاون، حيث كشفت الأحداث الأخيرة، مخاطر الاعتماد على مصدر واحد، بعيد عن السيطرة لتأمين الغذاء. وعلى سبيل المثال، كانت «الهند»، قبل «أنديرا غاندي»، مستوردًا أساسيا للقمح، لكنها بالإرادة استطاعت تحقيق الاكتفاء الذاتي، وصارت مُصدرًا لهذه السلعة الاستراتيجية.
وفي العالم العربي تبلغ فجوة القمح الحالية نحو 50 مليون طن. وأحدثت الحرب الروسية الأوكرانية، أزمة خاصة لدى كبار الدول العربية المستوردة للحبوب من روسيا وأوكرانيا، وفي مقدمتها «مصر، والمغرب، والجزائر، واليمن، والسودان»، بعد أن قفزت أسعار القمح لأعلى مستوياتها منذ 9 سنوات، وإلى ما فوق ضعف سعر موازنات هذه الدول المستوردة. وتستحوذ الدول العربية مجتمعة على 25% من صادرات القمح العالمية، وتستورد نحو 60% من احتياجاتها من روسيا وأوكرانيا لانخفاض أسعارها. وقبل بداية الحرب، كان من المتوقع أن تزود الدولتان، السوق العالمي بـ60 مليون طن من القمح في عام 2021/2022، لكن بمجرد بدء الحرب تم تخفيض توقعات تصدير القمح الروسي بأكثر من 30%، مقارنة بعام 2021، فيما كانت «مصر»، تحصل على 54.5% من احتياجاتها من القمح الروسي، و14.7% من القمح الأوكراني، وبعدها تأتي «الجزائر»، ثم «المغرب»، بينما يستورد «السودان» 46% من احتياجاته من روسيا. وتعتمد «تونس» على القمح الأوكراني بنسبة 48%.
وفي اتجاه الحلول قامت الدول العربية بتكثيف المشتريات المحلية لتضييق الفجوة بين العرض والطلب، والبحث عن مصادر أخرى، وبرزت مصادر كالهند، والصين، والأرجنتين، لكنها حلول قصيرة الأجل، وقد لا تكون مضمونة. ويظل الحل الاستراتيجي في زيادة الاعتماد على الذات، سواء بتغيير السياسات الزراعية في اتجاه الأولوية للسلع الاستراتيجية، أو تعزيز سياسة التعاون العربي، والتعاون الإفريقي، أخذًا في الاعتبار، تعزيز القدرة على التكيف والمرونة مع التغيرات المناخية، بما يحافظ على الموارد الزراعية، مع إعطاء الدول العربية أولوية قصوى للأمن الغذائي، بزيادة الإنتاج المحلي والتخزين الاستراتيجي، وتأمين مصادر الاستيراد، مع الحرص على أسعار مناسبة في متناول مواطنيها.
وتأخذ الدول العربية بجدية، مسار التعاون العربي الإفريقي، الذي تعود مؤسساته إلى بداية سبعينيات القرن الماضي، وخاصة بعد انعقاد «مؤتمر القمة العربي الإفريقي»، الأول في 1977 بالقاهرة، وإنشاء عدد من مؤسسات التعاون في شتى المجالات، من بينها «المصرف العربي للتنمية الاقتصادية»، في إفريقيا. وإلى جانب «القمة العربية الإفريقية»، نشأت مؤسسات: («المجلس الوزاري العربي الإفريقي»، و«اللجنة الدائمة للتعاون العربي الإفريقي»، و«لجنة تنسيق التعاون العربي الإفريقي»، و«الصندوق العربي للمعونة الفنية للدول الإفريقية»، و«المعرض التجاري العربي الإفريقي»، و«المعهد العربي الإفريقي للثقافة والدراسات الاستراتيجية»، و«وحدة تيسير تنفيذ خطة العمل المشتركة العربية الإفريقية للتنمية الزراعية والأمن الغذائي»، و«الاجتماع الوزاري المشترك العربي الإفريقي للتنمية الزراعية والأمن الغذائي»).
وفي إطار هذا التعاون، ضخ «صندوق الاستثمارات العامة السعودي»، استثمارات في إفريقيا تقارب 4 مليارات دولار، بخلاف استثماراته في الدول العربية الإفريقية، كما يشارك الصندوق مع «وكالة التنمية الفرنسية»، لتطوير دول الساحل الإفريقي، بمبادرة تبلغ قيمتها 200 مليون يورو. ويستهدف في 2022 استثمار مليار دولار أخرى في مشروعات وقروض ومنح في دول إفريقية، كما أنشأت السعودية وزارة معنية بالشؤون الإفريقية.
وبالمثل، تستحوذ الشركات الإماراتية على 88% من الاستثمارات الخليجية في إفريقيا، فيما استضافت «غرفة تجارة دبي»، في أكتوبر 2021، “المنتدى الدولي الإفريقي للتعاون». وبيّن تقريرها لدى الإعداد لهذا المنتدى أن إجمالي استثمارات الشركات الخليجية في إفريقيا جنوب الصحراء في الفترة من (2016 – 2021)، بلغ أكثر من 12 مليار دولار؛ 88% منها استثمارات إماراتية، فيما يعد الاستثمار الخليجي في الزراعة الإفريقية، مع غنى الدول الإفريقية بالموارد الزراعية، «مفتاحًا استراتيجيًا» لتحقيق الأمن الغذائي الخليجي والعربي، وتجنيب الدول العربية عامة، والخليجية خاصة، صدمات كتلك التي صدرتها الحرب الروسية الأوكرانية.
على العموم، تتواصل فصول الأزمة الأوكرانية بتعقيداتها وانعكاساتها على الوضع الاقتصادي العالمي، حيث أثرت بصورة حادة على أسواق السلع الأساسية مع آثار بعيدة المدى للتوقعات بالنسبة للدول النامية، خاصة مع إساءة صانعي السياسات لدى كل أنحاء العالم تقدير عمق واتساع الأزمة في البداية، ونتيجة لذلك ظلت ردود أفعالهم أقل من المطلوب في المراحل الأولية.
وعليه، تحظى عملية استعادة الثقة في أسواق المال من أجل أن يعود تدفق الائتمان إلى طبيعته بأولوية قصوى، إلا أنه طالما بقيت المخاوف السائدة من ركود اقتصادي عميق، فإن المستهلك والمستثمر سيظلان يفضلان تفادي المخاطرة