2/5/2022
إفريقيا.. هل ستكون بوابة الأمن الغذائي الخليجي؟
يعد الأمن الغذائي أحد أهم مكونات الأمن القومي لأي دولة، ويعني قدرتها على تأمين احتياجاتها الغذائية بموارد تحت السيطرة. وفي وقت سابق كان الاتجاه السائد لتحقيق هذا الأمن في كثير من دول العالم، هو تحقيق الاكتفاء الذاتي أو أكبر درجة منه، خاصة في المحاصيل الأساسية مثل الحبوب، باعتبارها المصدر الأول لاحتياجات الإنسان الغذائية - وقد حاولت السعودية ذلك في القمح ونجحت فيه، ولكنه كان عالي التكلفة فضلاً عن استنزاف الموارد المائية المحدودة- غير أنه مع سيادة حرية التجارة وطول فترة السلام بعد الحرب العالمية الثانية، أصبح الاتجاه هو استغلال الميزة النسبية لكل دولة، وتحقيق الاعتماد المتبادل بينها.
ورغم ذلك، ففي نفس الوقت، ظهر أكثر من مرة استخدام الدول المصدرة الكبرى للحبوب، التوظيف السياسي لها، فمثلا دعت روسيا عام 2009، إلى إنشاء منظمة الدول المصدرة للحبوب على غرار «أوبك»، بل اتجهت بعض الدول المصدرة أحيانًا إلى حجب صادراتها عن السوق الدولية، متعللة بأولوية السوق المحلي، وهو ما رأيناه أثناء جائحة كورونا في روسيا كواحدة من أكبر مصدري القمح، وفيتنام أكبر مصدري الأرز. ومع هذا الاستخدام السياسي، شهدت الألفية الجديدة عدة صدمات في أسعار الغذاء في أعوام 2007/2008 و2010/2011، ثم في الآونة الأخيرة. ومن الجدير بالذكر، أن الدول الخليجية من أكثر دول العالم انكشافًا لصدمات الغذاء، بسبب الطبيعة الصحراوية لهذه الدول، وافتقارها إلى الموارد الزراعية، وعلى رأسها المياه، فكلها دول فقر مائي، تعتمد أساسًا على تحلية مياه البحر، بل إنها تحتضن نحو 60% من مشاريع تحلية المياه في العالم، فضلا عن قلة الأراضي الصالحة للزراعة، ما أسفر عن تدني نسبة الزراعة في الناتج المحلي الإجمالي الخليجي إلى 1.4%، أضف إلى ذلك أن معدلات النمو السكاني هي الأعلى عالميًا، وبين عامي «2010–2016»، ارتفع عدد سكان دول مجلس التعاون الخليجي من 443 مليون نسمة، إلى 5350 مليون نسمة، ومن المتوقع أن يبلغ هذا العدد أكثر من 106 ملايين نسمة في 2033.
وكنتيجة لهذا الوضع، يواجه الأمن الغذائي الخليجي احتمالية خضوع المواد الغذائية، وخاصة الحبوب التي يتم استيرادها، لفترة تقلبات أسعار مستدامة، نتيجة صعوبات الإمداد المتكررة الناجمة عن المناخ، وانخفاض معدلات المخزون/ الاستهلاك، وسبل الاستجابة للسياسات التجارية، ويمكن أن يؤدي اختلال الإمدادات إلى تهديد الأمن الغذائي، بما يشير إلى ضرورة أن تكون سلاسل الإمدادات ذات فاعلية، ويمكن الوثوق بها، ويعد انتظامها شديد الأهمية في الحد من تعرض دول مجلس التعاون الخليجي لمخاطر انقطاع هذه الإمدادات ومن ثم،ّ ارتفاع الأسعار.
وتشير الإحصاءات إلى أن واردات دول مجلس التعاون من الغذاء، قد ارتفعت من 258 مليار دولار في 2010 إلى 531 مليار دولار في 2020، وأثناء جائحة كورونا، حذرت عدة منظمات عالمية، على رأسها «منظمة الأغذية والزراعة»، و«منظمة الصحة العالمية»، و«منظمة التجارة العالمية»، من تداعيات تأثير جائحة كورونا في توافر السلع الغذائية في الأسواق العالمية، نتيجة احتمال قيام الدول المصدرة الأساسية بحجب صادراتها عن هذه الأسواق، فضلا عن أن الجائحة قد أربكت سلاسل الإمدادات العالمية، بسبب الإجراءات الاحترازية، وفرض القيود على تنقل الأفراد، والإغلاق الجزئي للطرق والموانئ والمطارات والمصانع والمصارف.
ومن جهتها، اعتمدت دول الخليج على الوفرة المالية لديها لتأمين احتياجاتها الغذائية، وهو ما أدى إلى ارتفاع مؤشر الأمن الغذائي لديها، وحصولها على ترتيب متقدم عالميًا في هذا المؤشر ضمن الخمسين دولة الأولى فيه. وفي أثناء جائحة كورونا، لجأت المنظومة الخليجية إلى عدة إجراءات لتوفير أمنها الغذائي، من بينها التنسيق المشترك بين دولها، والذي أخذ عدة مظاهر، كالاجتماع الاستثنائي لوكلاء وزارة التجارة في أبريل2020، الذي ركز على اتخاذ الإجراءات الكفيلة بضمان تدفق السلع الغذائية والأساسية، وتقديم الكويت مقترحًا في نفس الشهر؛ لإنشاء «شبكة الأمن الغذائي الخليجي»، وسعي دول المجلس إلى إقرار «قانون المخزون الاستراتيجي» على المستوى الخليجي، وعمل كل دولة من الدول الأعضاء على تأمين مخزون استراتيجي في كل منها، يكفي 6 أشهر، وتوفير الاستثمارات للبنية التحتية اللازمة لتحقيق هذا الغرض، وتبني العديد من حزم الدعم الاقتصادية للقطاع الزراعي.
ويعد «الاستثمار الخارجي» في المجال الزراعي، و«التصنيع الغذائي»، و«سلاسل إمدادات الغذاء» في المناطق الواعدة في مقدمة هذه السياسات، ويصبح الخيار الاستراتيجي الأمثل لتحقيق الأمن الغذائي الخليجي. وحيث يعد الأرز سلعة استهلاكية أساسية في الغذاء الخليجي، نشير هنا إلى قيام الشركة السعودية للاستثمار الزراعي والإنتاج الحيواني (سالك)، التابعة لصندوق الاستثمارات العامة السعودي مؤخرًا بالاستحواذ على نسبة نحو30% في شركة «دعوات للأغذية المحدودة»، التابعة لصندوق الأعمال الزراعية في الهند، والرائدة في إنتاج الأرز البسمتي، تماشيًا مع استراتيجيتها للاستثمار في الأرز، بعد ما حدث من تهديد في سلسلة الإمداد به أكثر من مرة.
ولأن إفريقيا يمكن النظر إليها على أنها «بوابة الأمن الغذائي الخليجي»، فقد اهتمت دول الخليج بتفعيل التعاون العربي الإفريقي، وقامت المملكة العربية السعودية في 2018، بإنشاء وزارة للشؤون الإفريقية، وسبق ذلك قيام اتحاد غرف مجلس التعاون الخليجي، و«البنك الإسلامي للتنمية»، بزيارات استكشافية لمعرفة الفرص والإمكانات الاستثمارية في عدد من الدول الإفريقية، كدول القرن الإفريقي وأوغندا، وإثيوبيا، وجزر القمر.
وكشف تقرير أصدرته «غرفة دبي»، في أكتوبر الماضي، بالتعاون مع «الإيكونومست»، بشأن فرص الأعمال المتاحة بين دول إفريقيا جنوب الصحراء، ودول مجلس التعاون الخليجي، فيما بعد كوفيد-19، وآفاق التعاون الاستثماري والتجاري؛ أن الشركات الخليجية، استثمرت أكثر من 1.2 مليار دولار في إفريقيا جنوب الصحراء، خلال الفترة من يناير 2016، حتى يونيو 2021، وجزء كبير من هذه الاستثمارات في قطاعات الأغذية والمشروبات والخدمات اللوجستية، كان نحو 88% من هذه الاستثمارات مصدرها شركات إماراتية. وعدد التقرير مجموعة من القطاعات ستكون ضرورية للنمو الإفريقي، وتحقق في نفس الوقت إسهامًا كبيرًا في تحقيق الأمن الغذائي الخليجي، على رأسها قطاع الأغذية والزراعة.
وفيما تمثل إفريقيا بوابة واعدة للأمن الغذائي الخليجي، كونها تمتلك نحو 24% من الأراضي الزراعية الخصبة حول العالم، وتمثل لهذا السبب «نمرًا واعدًا» في طور التشكيل، فقد كانت الرؤية الثاقبة للسعودية في تأمين احتياجاتها الغذائية أن تمضي بخطى حثيثة في تعزيز استثماراتها ومشروعاتها التنموية في إفريقيا، فضلاً عما تقدمه من مساعدات قوية لها، في إطار استراتيجيتها لتحقيق الأمن الغذائي على المدى البعيد. وفي تصريحات لولي العهد السعودي، «محمد بن سلمان»، أمام قمة «مواجهة تحدي نقص تمويل إفريقيا»، التي احتضنتها العاصمة الفرنسية، باريس يونيو 2021، نوه إلى الدور الكبير الذي لعبه «الصندوق السعودي للتنمية»، في القارة السمراء على مدار أربعة عقود، حيث قدم نحو 450 قرضا ومنحة لأكثر من 45 دولة إفريقية بقيمة تتجاوز 50 مليار ريال.
وفي الوقت الحالي، يعتبر القطاع الزراعي في إفريقيا الأكثر جذبًا للمستثمرين السعوديين. وتشير الدراسات إلى أنه بحلول 2030، يمكن أن يشكل قطاع الزراعة الإفريقية، سوقًا بقيمة تريليون دولار، حال استغلال الموارد المائية المتجددة، التي لم يتم استغلال سوى 2% منها. وتستثمر السعودية حاليًا في نحو مليوني هكتار في عدد من بلدان إفريقيا، الأمر الذي حقق لها الأمن الغذائي في خضم جائحة كورونا، فلم يكن لديها أي مخاوف فيما يتعلق بهذا الأمر، كما حدث في كثير من دول العالم، خاصة أن قدرا كبيرا من هذه الاستثمارات يقع في شرق القارة، التي لا يفصلها عن المملكة سوى البحر الأحمر فقط، مما سهل قدوم شحنات الغذاء في أي وقت، حيث أصبحت جيبوتي الواقعة على باب المندب «مركزًا لوجستيًا»؛ لاستقبال وإرسال المنتجات الزراعية بين السعودية وشرق إفريقيا. وفي نفس الإطار، استثمرت السعودية أيضًا نحو 800 ألف هكتار في جنوب إفريقيا، في إطار سياستها في الحفاظ على المياه الجوفية، وعدم استنزافها في زراعة المحاصيل والتركيز على الاستثمار الزراعي في الخارج.
وفي السودان، فإن المشروعات الاستثمارية المصادق عليها مع السعودية، خلال آخر عقدين، بلغت قيمتها نحو 357 مليار دولار، نفذت منها مشروعات بقيمة 15 مليار دولار، وفي مارس الماضي تعهدت المملكة العربية السعودية، بثلاثة مليارات دولار في صندوق مشترك للاستثمار في السودان، فيما تقوم بتطوير نحو مليون فدان، وتجهيز البنية التحتية لها، ومن ثم تأجيرها للشركات الزراعية السعودية، وتمتد المشروعات السعودية إلى قطاع التصنيع الغذائي، ومن أبرز مشروعاتها في هذا المجال مشروع مصنع سكر كنانة.
وفي إثيوبيا، حصل 305 مستثمرين سعوديين على تراخيص استثمارية لـ«141» مشروعا في الإنتاج الحيواني والزراعي، واتجهت الاستثمارات في الصومال وجيبوتي نحو إنشاء المحاجر الصحية التي تتولى رعاية الماشية والكشف البيطري عليها قبل تصديرها. ولتأمين سلاسل الإمدادات ركز التمويل الخليجي وفي مقدمته السعودي على البنية التحتية، واتجه نحو نصف المساعدات الخليجية إلى مشاريع النقل، خاصة الطرق، واستحوذ قطاع الطاقة على نحو30%، فيما استحوذت مشروعات الاتصالات والمياه على نحو 15%، وبلغ إجمالي مشاريع البنية التحتية، التي مولتها دول مجلس التعاون الخليجي في إفريقيا خلال العقد الماضي نحو 30 مليار دولار.
وواصلت الدول الخليجية الأخرى، نفس النهج السعودي، فحتى أبريل 2021، بلغت الاستثمارات الكويتية في جنوب إفريقيا نحو 3 مليارات دولار. وفيما كانت السياسة الاقتصادية الكويتية تستهدف أن يأتي من الاستثمارات الخارجية دخلاً يوازي أو يعادل ما تحصل عليه من صادرات النفط، فقد كانت الكويت أول دولة خليجية راهنت على جدوى الاستثمار في إفريقيا، والذي أصبح ساحة تنافس ساخنة بين العديد من القوى العالمية والإقليمية، حين قررت الكويت بين عامي (1970–1980)، الاستثمار بكثافة في إفريقيا، وعلى الخصوص منطقة الساحل. وفي منتدى الاستثمار في إفريقيا الذي عقد في الكويت، متزامنًا مع القمة العربية الإفريقية الثالثة في 2018، صرح وزير التجارة والصناعة الكويتي، بأن الصندوق الكويتي للتنمية، أنفق نحو 64 مليار دولار في مشروعات تنموية في إفريقيا.
وفيما تشارك البحرين بشكل منتظم في فعاليات دعم التعاون العربي الإفريقي، فقد أصبحت استثماراتها الزراعية في السودان كافية لتحقيق أمنها الغذائي، حيث تقوم بالاستثمار في الأراضي التي حصلت عليها في الولاية الشمالية، مجاورة لتلك التي حصلت عليها كل من الإمارات، والسعودية، وسلطنة عمان، وقطر، وفضلاً عن هذه الأرض طلبت المزيد في ولاية النيل الأبيض لمساحة 40 ألف فدان، ليصبح إجمالي مساحة الأراضي التي تستثمر فيها في السودان نحو 588 كم مربع، لا تحتاج إلى أي استصلاح، وتروى أراضي المنطقة الأولى بمياه جوفية متجددة، بينما أراضي النيل الأبيض، تروى بالري الفيضي، وهي قريبة من مطارات تبعد عن مطار البحرين 2-3 ساعة ما يتيح نقل المنتجات جوًا من مناطق الإنتاج إلى مواقع التخزين والمستودعات في فترة قصيرة جدًا، كما أن هناك سهولة في النقل البري، حيث تقع على مقربة من الطريق القاري الرابط بين السودان ومصر، ويمتد إلى ميناء بورسودان، ومن ثمّ، إلى الأسواق الخليجية بالسفن، وتوفر هذه الأراضي محاصيل الأرز والقمح والذرة والشعير والأعلاف والخضراوات ومنتجات الألبان، وتتوفر الكهرباء للاستثمار في هذه الأراضي من سد مروى على بعد 100كم.
وهكذا، يمكننا القول أن البوابة الرئيسية لتحقيق الأمن الغذائي الخليجي هي الاستثمارات الزراعية الخليجية في إفريقيا القارة الواعدة في الاقتصاد العالمي.