19/7/2019
التنافس الدولي والإقليمي والحروب الأهلية في الشرق الأوسط
الحروب التي اندلعت منذ ما سُمي الربيع العربي خلقت أرضية جديدة يتبارى فيها حلفاء الولايات المتحدة وحلفاء إيران في بسط الهيمنة الإقليمية
غالبًا ما يؤكد التاريخ الحديث أن ديناميكيات التطورات السياسية في منطقة الشرق الأوسط تتشكل جزئيا من خلال تدخل القوى الخارجية. ففي معظم القرن العشرين، وضح هذا التنافس بين القوى العظمى؛ «فرنسا وبريطانيا»، ثم بين «الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة». ومع نهاية الحرب الباردة وانهيار الكتلة الشيوعية؛ حظيت أمريكا بالهيمنة على الشرق الأوسط كقوة خارجية. ومؤخرا، تورطت كل من روسيا، وتركيا، وأمريكا وإسرائيل في تشكيل وترسيخ الصراعات الإقليمية سعيا لتحقيق أهدافها الخاصة؛ وفي هذا الإطار، صدر تقرير يوم 4/2/2019 عن «معهد الشرق الأوسط»، بواشنطن، بعنوان «الجيوسياسية العالمية والإقليمية للحرب الأهلية في الشرق الأوسط»، أعده «روس هاريسون» من جامعة «جورجتاون» بهدف تقديم تحليل لنشأة المنافسة الدولية في الشرق الأوسط المعاصر، من خلال إبراز العلاقة بين فترة الحرب الباردة، والصراع الإقليمي الحديث وما نتج عنه من حروب أهلية.
يؤكد «هاريسون» أن التنافس بين أمريكا والاتحاد السوفيتي الذي هيمن على الشرق الأوسط خلال فترة الحرب الباردة، قد أوجد انقسامًا بين الدول العربية، والذي لا يزال من دون حل -إلى حد ما- حتى اليوم. وحظيت بعض الدول، مثل اليمن الجنوبي (جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية)، والأنظمة الجمهورية في مصر، والعراق، وسوريا وليبيا، بعلاقات وثيقة مع الاتحاد السوفيتي. في حين، حظيت دول عربية مثل؛ السعودية وبقية دول الخليج في مرحلة ما بعد الاستعمار، واليمن الشمالي (الجمهورية العربية اليمنية)، والأردن، والمغرب،... إلخ، بدعم الولايات المتحدة الأمريكية. وكان لدخول العديد من دول الشرق الأوسط في حروب أهلية، مثل التي حدثت في فترة الحرب الباردة -من الصراعات اللبنانية في الخمسينيات والسبعينيات إلى الحروب الأهلية في اليمن- بمثابة المسارح التي استطاع من خلالها الاتحاد السوفيتي وأمريكا التنافس من أجل إحكام السيطرة الجيوسياسية على منطقة الشرق الأوسط. وفي هذا الصدد، يقول «جوليان أوبرياكو» في مجلة «هارفرد إنترناشونال ريفيو» إن «الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي أثبتا للعالم أن الحرب الباردة يمكنها أن تُشكل بسهولة أكبر عبء على الدول الإقليمية».
بمعنى آخر، أصبحت الحروب الأهلية في الشرق الأوسط، إحدى الأدوات التي استغلتها القوى العظمى للتوسع الجيوسياسي. واستمر هذا القالب المتمثل في التنافس الإقليمي والانقسامات التي خلفتها بين الدول العربية حتى بعد انتهاء فترة الحرب الباردة؛ حيث أدى انهيار الاتحاد السوفيتي وبزوغ نجم الهيمنة الأمريكية أحادية القطب إلى حدوث حالة من الاضطراب الاقتصادي والسياسي في الدول التي كانت متحالفة في السابق مع الكتلة الشيوعية، إذ فقدت هذه الدول الدعم الذي كان يتم توفيره لها من مساعدات عسكرية، وظروف تجارية مواتية وضمانات أمنية، في الوقت الذي وجدت فيه نفسها في مواجهة مع أمريكا وحلفائها المحليين بما في ذلك الدول ذات النفوذ مثل تركيا، وإسرائيل.
ويوضح «هاريسون» أن «الحرب الباردة لم تتسبب في خلق حالة من عدم التوازن فحسب، بل أدت إلى حدوث تحول في توزيع السلطات في الشرق الأوسط؛ حيث أصبح النفوذ مواليًا لحلفاء أمريكا المحليين، على حساب الحلفاء السابقين للاتحاد السوفيتي. وبدوره، أسهم الغزو الذي قادته أمريكا واحتلالها للعراق في هذا التحول وتغيير موازين القوى. وشجعت حالة عدم التوازن السائدة في التوزيع الجيوسياسي الإقليمي قادة بعض الدول مثل بشار الأسد في سوريا، والقذافي في ليبيا على اتباع نهج فعال في مواجهة ما اعتبروه حصارًا من قبل الكتلة التي تقودها الولايات المتحدة التي يزداد نفوذها. ومن المتعارف عليه في نظرية العلاقات الدولية أن حالة عدم التوازن من شأنها أن تؤدي إلى حدوث رد فعل تلقائي؛ والذي تجسد في لجوء تلك الدول إلى سلطة إقليمية كبرى غير عربية متمثلة في إيران».
ومن جانبها، سعت طهران في خضم النزاعات بعد عام 2011. كما فعلت في العراق بعد عام 2003. إلى تعزيز مكانتها كقوة إقليمية من خلال استخدام قوات بالوكالة مثل؛ (الحوثيين في اليمن، وحزب الله اللبناني في سوريا، وقوات الحشد الشعبي في العراق)، من أجل تنفيذ أجندتها الطائفية، وكما تقول «سوزان مالوني»، من معهد «بروكينجز»، بواشنطن، فقد «نجحت طهران من خلال استغلال الصراعات الطائفية في تعزيز هيمنتها، وقدرتها في إعادة توجيه النظام الإقليمي لصالحها بشكل مبدئي». وظهر ذلك جليا في الحرب الأهلية العراقية بين عامي 2006-2008.
ومنذ «الربيع العربي»، ظل هذا الإطار الجيوسياسي الثنائي القطبية في الشرق الأوسط جزءا لا يتجزأ من طبيعة الوضع على الأرض. وخلقت الحروب الأهلية التي اندلعت في ليبيا والعراق وسوريا واليمن أرضية جديدة يتبارى فيها حلفاء الولايات المتحدة وحلفاء إيران في بسط الهيمنة الإقليمية. ومن هنا، رأى «هاريسون» أن النتيجة الجيوسياسية هي الأكثر أهمية للحروب الأهلية في الشرق الأوسط. وعلى الرغم من أنه لا يقف وراء اندلاعها قوة عظمى أو تنافس بين قوى خارجية، لأنها مدفوعة في الغالب بعوامل محلية؛ إلا أنها قد تستمر في كثير من الأحيان متأثرة بالمنافسة الإقليمية والعالمية.
وفي هذه البيئة من المنافسة بين قطبين أو عدة أقطاب، ترفض القوى الخارجية التوصل إلى حلول توافقية لإنهاء الحروب الأهلية الإقليمية، مثل ما حدث في سوريا. وبدلاً من ذلك تعمل على رعاية الجهات المحلية الفاعلة أو إشراك شركاء إقليميين. ويقول «بروس جونز»، من «معهد بروكينجز»: «لقد ابتعدنا عن مرحلة الوضع الجيوسياسي، حيث يتدخل عدد من الجهات الفاعلة بالمنطقة عن طريق وكلائها، وهو ما يغذي ويؤجج فعليا من ديناميكية العنف».
ونتيجة لهذا التدخل الخارجي في الحروب الأهلية بالمنطقة، يمكن للصراعات الداخلية المعاصرة، وأهمها على الإطلاق الحرب الأهلية السورية، أن تنشر عدم الاستقرار في أرجاء المنطقة. ويصف «هاريسون» هذه الحقيقة بقوله: إنها «عدوى مُنتقلة عموديا»؛ بمعنى أن «ظاهرة الحروب الأهلية تتحول على المستوى القُطري إلى صراعات على المستوى الإقليمي، فيما يُفسح شرق أوسط مستقر المجال أمام قوى للاستفادة من المنافسة على بسط الهيمنة الإقليمية». ويُشجع قادة الكتلة، أي الولايات المتحدة من جانب، وإيران إلى جانب روسيا منذ عام 2015 الحلفاء المحليين على الانضمام إلى الحروب الأهلية من أجل الحفاظ على مصالحهم والسعي لتحقيق الهيمنة، ونشر الصراع عن طريق وضع ديناميكيات جديدة، مثل توغل تركيا في سوريا منذ عام 2016 من أجل الحيلولة دون نمو الحكم الذاتي الكردي.
على العموم، على الرغم من أن هذا التقرير، يُعد إسهاما مهما من الناحية الجيوسياسية، حيث ساعد في بناء فهم واسع للواقع الجيوسياسي في الشرق الأوسط اليوم، ونجح في إثبات حقائق جديدة للديناميكيات الداخلية والخارجية التي تشكل التطورات الإقليمية؛ فإن ما حد من فعاليته، هو عدم إسهامه في دراسة ماهية الحروب الأهلية وحالة الجيوسياسية الإقليمية في الشرق الأوسط. وفي كثير من الأحيان، تجاهل المؤلف العوامل الرئيسية التي أدت إلى ظهور المنافسة بين واشنطن وحلفائها من جهة، وبين دول دمشق وطهران وحزب الله من جهة أخرى، ولا سيما أنه قلل من خطورة هذا التنافس في مرحلة ما قبل ما سمي الربيع العربي، قائلا إنه «بلا ضحايا»؛ وبذلك يقلل أيضا من خطورة التأثيرات المحلية للتحديات التي مثلها المنافس للولايات المتحدة وحلفائها قبل عام 2011 المشار إليه ومنها على سبيل المثال، تورط «حزب الله» في حرب لبنان عام 2006.
وقد تكون هناك نقاط ضعف أخرى من بينها عدم إدراك «هاريسون» للكيفية التي سببت فيها المنافسة الدولية، في ضوء السيناريو السوري، في ظهور الحروب الأهلية. كما يؤكد «كريستوفر فيليبس» من معهد «تشاتام هاوس» البريطاني، فإن «الأجواء الدولية والإقليمية التي أحاطت بالانتفاضة السورية كانت هي مفتاح تحولها من مجرد مظاهرات سلمية إلى حرب أهلية».