21/8/2019
أبعاد الصراع على الغاز بين لبنان وإسرائيل
بمنطق القوة المتغطرسة، وليس الحق القانوني، وكما استلبت حقوق دول عربية في أراضيها وضمتها إليها، بسطت إسرائيل هيمنتها المنفردة على عدد من حقول الغاز المكتشفة حديثًا في شرق المتوسط، غير عابئة بحقوق الدول الأخرى المشاطئة لهذا البحر في هذه المنطقة، والتي يمكن أن يدخل بعض من هذه الحقول ضمن مناطقها الاقتصادية الخالصة، وقد استغلت إسرائيل أزمات هذه الدول، وعدم ترسيم الحدود القائم بينها وبين هذه الدول في تحقيق انفرادها بالسيطرة على هذه الحقول، وعلى المتضرر كما يقول التعبير الشائع أن يلجأ إلى القضاء، ومن بين الدول المتضررة في ذلك الوضع لبنان، الذي أشغلته أوضاعه الداخلية غير المستقرة فترة طويلة من الزمن عن قضية بالغة الأهمية ليس فقط لأنها قضية سيادة، ولكن لما تعنيه بالنسبة إلى الاقتصاد اللبناني المتأزم، وهي قضية استثمار موارده من الطاقة في المنطقة الاقتصادية الخالصة التي تتبعه.
وبمناسبة زيارته لبيروت في 23 مارس، تعهد وزير الخارجية الأمريكي «مايك بومبيو»، بحل النزاع الحدودي البحري بين لبنان وإسرائيل، بعد أن رفضت لبنان مقترحًا سابقًا لحل هذا النزاع، يقضي بتخليها عن منطقة من مياهها الاقتصادية تبلغ مساحتها أكثر من 800 كم2، وتمسَّك لبنان بأن يكون الحل عن طريق الأمم المتحدة، وبحضور الطرفين المتنازعين لبنان وإسرائيل، وبوساطة أمريكية، شاملاً ترسيم الحدود، فيما تستغل إسرائيل علاقة حزب الله اللبناني بإيران لاستمالة الموقف الأمريكي لصالحها، وللضغط على لبنان لقبول تنازلها عن المنطقة، التي تعد واعدة بثروة نفطية وغازية.
وكان لبنان على لسان وزير الطاقة في حكومته قد عرض في عام 2017 خمس مناطق بحرية من أصل عشر حددها على الشركات النفطية الدولية للتنقيب عن النفط والغاز بها، وقد كان من المفترض أن تبدأ شركات روسية وفرنسية وإيطالية عمليات التنقيب في مناطق قبالة شمال بيروت وأخرى قبالة الحدود الجنوبية مع فلسطين المحتلة، وسط تقديرات غير رسمية بأن لبنان لديه في المناطق المعروضة للتنقيب نحو 25 تريليون قدم مكعبة من الغاز، ونحو 500 مليون برميل نفط خام، تحويها مساحة تقارب 22 ألف كم2.
وقبل أيام من الاحتفال الرسمي يوم 9 فبراير الماضي لتوقيع اتفاقيتي منح تراخيص الاستشكاف والإنتاج، تعرض لبنان للتهديد المباشر من قِبَل إسرائيل، ووصف وزير خارجيتها هذا الإجراء اللبناني بأنه استفزازي لإسرائيل، وطالب الشركات السالفة الذكر بالتوقف عن عملياتها، زاعمًا أن هذه المناطق هي ملك لإسرائيل.
وأثار هذا الموقف الإسرائيلي ردود فعل لبنانية أجمعت على حق لبنان السيادي في هذه المناطق التي تقع ضمن مياهها الاقتصادية الخالصة، والموقف القانوني في صالح لبنان؛ لأن حدودها البحرية مرسومة وفقًا للقانون الدولي للبحار، وعلى أساس قاعدة المسافة المتساوية، والقانون الدولي لا يشترط وجود اعتراف أو علاقات متبادلة لممارسة أي دولة حقوقها السيادية.
وإزاء التهديدات الإسرائيلية وجَّه لبنان رسائل إلى كل من الأمين العام للأمم المتحدة والممثلة العليا للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية ووزراء خارجية قبرص واليونان وإيطاليا، وكان ذلك بخصوص مشروع مد خط أنابيب غاز بين إسرائيل وقبرص واليونان، ومن ثم إلى إيطاليا، فهذا الغاز الذي ستنقله إسرائيل جزء كبير منه حق لبناني، وخاصة بعد أن بدأت إسرائيل أعمال الحفر والتنقيب في حقل «كاريش» البحري الإسرائيلي، الذي يبعد نحو 5كم فقط من الحدود البحرية اللبنانية، وأعمال استكشاف حدودية بحقول نفط وغاز في شرق المتوسط وآبار إنتاجية مشتركة بين البلدين، وهو ما يُخشى معه أن تسحب إسرائيل من حقوق لبنان النفطية والغازية في هذه المنطقة.
وقد أكد لبنان على لسان رئيس الجمهورية «ميشال عون» أن لبنان سوف يستخدم كل السبل المتاحة لتأكيد حقه في سيادته وسلامة أراضيه، وهو الموقف نفسه الذي أجمعت عليه القوى اللبنانية، فيما ينذر بتصاعد هذه الأزمة، وخاصة أنها ليست الوحيدة في ملف غاز المتوسط المليء بالمشاكل.
والجدير بالذكر أن إسرائيل هي أول من وضع يده على غاز المتوسط منذ عام 2009، من دون أي اتفاق مع الدول التي يمكن أن يكون هذا الغاز ضمن منطقتها الاقتصادية أو قريبا منها، وكان تقرير هيئة المساحة الجيولوجية الأمريكية في عام 2010 قد كشف عن وجود ثروة كبيرة محتملة من الغاز والنفط قدرها بـ122 مليار قدم مكعبة من الغاز و1.7 مليار برميل نفط خام قبالة سواحل إسرائيل وقطاع غزة وقبرص وسوريا ولبنان ومصر، وهي كلها حين إعلان هذا التقرير تفتقر إلى النفط والغاز، وتعتمد على الاستيراد في توفير احتياجاتها من الطاقة، ويشكل حصول كل منها على حقه في هذه الثروة تحولا اقتصاديا كبيرا، قد يحررها من فاتورة هذا الاستيراد، بل قد يجعلها مصدرة.
وقد سبقت إسرائيل كل هؤلاء، بل أخذت في التحول من الاستيراد إلى التصدير، واستغلت وضعها كدولة احتلال في حرمان قطاع غزة من ثروته النفطية والغازية، وأصبح وضع سوريا معلقًا؛ بسبب أزمتها الداخلية الممتدة، وحينما أقدم لبنان على ممارسة حقوقه السيادية، بادرته إسرائيل بالتهديد، ووصفت هذه الممارسة بأنها استفزاز لها.
وفيما يدل على تعنت إسرائيل، فإن المنطقة المتنازع عليها، التي تدّعي إسرائيل ملكيتها لها، لم تُدخِلها لبنان ضمن المناطق التي تم الاتفاق بشأنها مع الشركات النفطية للتنقيب فيها، فقد قسّم لبنان رقعة التنقيب إلى عشر مناطق، ويتم التنقيب بمحازاة الجزء المتنازع عليه، ولهذا نجد أن إسرائيل تمارس على لبنان سياسة الترهيب، مستغلة أنهما رسميًّا في حالة حرب، معيدة إلى الأذهان الحرب الإسرائيلية على لبنان في 2006، والتي استمرت 33 يومًا. ودلالة على نوايا إسرائيل العدوانية فقد اتفقت مع ألمانيا لبناء سفن حربية تخصصها البحرية الإسرائيلية لحماية منصات الغاز والمنشآت الاقتصادية في المياه الإسرائيلية، وأحاطت مواقع استخراج الغاز بتجهيزات مضادة للصواريخ، بل إن رئيس الأركان الإسرائيلي هدد باستخدام القوة للسيطرة على المناطق البحرية قبالة قطاع غزة ولبنان، وهذا التوتر دفع الشركات النفطية التي تعاقد معها لبنان إلى وقف عملياتها ريثما يتم حل الأزمة، ما يزيد من معاناة الاقتصاد اللبناني.
وإذا ما وضع لبنان يده على ثروته الغازية المحتملة، المقدرة بـ25 تريليون قدم مكعبة من الغاز، استنادًا إلى الدراسة العلمية التي قامت بها شركة «بي جي إس» النرويجية، التي أفادت بأن هذه الثروة تصل إلى 80 تريليون قدم مكعبة، فإنه يكون قد وضع يده على ثروة تتراوح قيمتها ما بين 300 و960 مليار دولار، وإذا كان كل تريليون قدم مكعبة من الغاز يعطي 5000 ميجاوات كهرباء، فإن لبنان بسبب موقعه في المتوسط قد يصبح أحد مصدري الكهرباء من خلال شبكات الربط الإقليمية والدولية، فضلاً عن توفير الطاقة لكل الاستخدامات المنزلية والإنتاجية من موارد محلية، والتحول إلى استخدام الغاز بدلاً من المشتقات النفطية في إنتاج الكهرباء وفي وسائل النقل، ما يقلل من حدة التلوث، ويؤدي توفير الطاقة بأثمان معقولة للشركات إلى فتح الباب لتدفق الاستثمارات الأجنبية على لبنان، كما يخفض من الإنفاق الحكومي، ومن ثَمّ عجز الميزانية ولجوء الحكومة إلى القروض، بل إن توافر الغاز يشكل حافزًا للمشروعات الكثيفة الاستخدام للطاقة، كإنتاج البتروكيماويات.
عموما إذا كان وضع لبنان يده على ثروته من النفط والغاز، وهو أمر سيادي، يحدث هذه النقلة النوعية للاقتصاد اللبناني، فإن إسرائيل التي بادرت بالتهديد والتلويح باستخدام القوة لا تريد لهذا القطر العربي ولا لغيره من الأقطار العربية أن ينتعش ويقف على قدميه، وتريد أن تستثمر وضعها في غاز شرق المتوسط، بعد أن أصبحت مصدرة لهذا الغاز، وأن تمارس دبلوماسية الطاقة، وأن تكون قوتها في الطاقة أحد أهم عناصر نفوذها السياسي والأمني، بل ونفوذها الاقتصادي والمالي أيضا، فملف غاز شرق المتوسط ليس ملفًا اقتصاديا فقط، ولكنه بالأساس ملف جيوسياسي، فإذا ما تعطل إنتاج لبنان من هذا الغاز؛ بسبب إشكالية المنطقة المتنازع عليها، التي قد يستغرق حلها زمنًا، فلن يكون أمام لبنان إلا الاستمرار في الاعتماد على الاستيراد، والمعاناة الاقتصادية والافتقار إلى أمن الطاقة، وهذه هي نقطة الابتزاز التي تسعى إسرائيل إلى استثمارها.
وختاما إذا كان لبنان قد دفع دائمًا ثمن موقعه العروبي الملتزم في الصراع العربي الإسرائيلي، ولم يرضخ لضغوط إسرائيل المستمرة التي حاولت إخراجه من الصف العربي، وكان بعض هذا الثمن تأخره في استثمار موارده، فلماذا لا يكون ملف الغاز -كما تسعى إسرائيل- هو مفتاحها في ممارسة ضغوطها على لبنان، للحصول على المكاسب السياسية التي تبتغيها، التي أخفقت فيها من قبل؟ وإلى هذه النقطة لا تعد إشكالية المنطقة المتنازع عليها وتمكين لبنان من حقه من استثمار موارده قضية لبنانية بحتة، ولكنها تصبح قضية عربية لا ينبغي أن يتوارى الاهتمام بها.