10/8/2021
الرئيس الإيراني الجديد وسلوك إيران الإقليمي
في خطابه أمام مجمع الهيئات المرتبطة بمكتب المرشد في وسط طهران، حيث كانت تقام مراسم تنصيبه رئيسًا جديدًا لإيران، شدد "إبراهيم رئيسي"، على أن تحسين الظروف الاقتصادية لبلاده لن يرتبط بإرادة الأجانب، وعلى حد قوله: «لن نربط ظروف حياة الأمة بإرادة الأجانب».
من جهة أخرى في باكورة تصريحاته حول السياسة الخارجية، وجه خطابًا لينًا إلى المملكة العربية السعودية يفصح فيه عن رغبته في الحوار معها ومع دول الخليج العربية الأخرى التي لا تختلف سياسات إيران تجاهها كثيرًا عن سياساتها تجاه المملكة، وكأنه بذلك يريد أن يحدث انفراجة في قضية سلوك إيران الإقليمي، وهي إحدى القضايا الكبرى في «محادثات فيينا»، بشأن عودة الاتفاق النووي. هذا الخطاب اللين كان على خلاف خطابه المتشدد الموجه للولايات المتحدة، فهل يعني هذا أن إيران لديها رغبة في تعديل سلوكها الإقليمي، بما يسمح بخروجها من عزلتها، وأن يكون التعاون مع دول الجوار مقدمة لمعالجتها الأوضاع الاقتصادية المتردية في البلاد، ومن ثم التقليل من تأثير العقوبات الأمريكية التي يرتبط رفعها بعودة واشنطن إلى الاتفاق النووي.
يقابل هذا تساؤل وهو: هل يمكن لدول الجوار الإيراني ألا تطبق العقوبات الأمريكية أو أن تأخذ استثناءً منها؟ وإن فعلت، فإن هذه العقوبات تفقد مصداقيتها ولا يكون لها تأثير كبير كما هو قائم حاليًا. ولهذا، يمكن القول بداية إن خطاب الرئيس الإيراني الجديد هو لتلطيف الأجواء غداة توليه الرئاسة وسط اضطرابات محلية ومظاهرات وشعارات داعية لإسقاط النظام. وإذا كانت المصاعب الاقتصادية هي منطلق هذه الاضطرابات، وإذا كان أحد الأسباب الرئيسية لهذه المصاعب الكلفة العالية لسلوك إيران الإقليمي، فإن الرئيس الجديد حين يعد في خطابه بتحسين الظروف الاقتصادية دون انتظار لرفع العقوبات، فإن عليه أن يجد موارد أو يخفض تكلفة سلوك إيران الإقليمي.
ومن المعلوم، أن العقوبات الأمريكية أثرت بشكل مباشر على تقليص موارد إيران. وبينت تطورات النصف الأول من العام المنصرم تقليص الإمدادات الإيرانية للمليشيات الموالية لها في بلدان المنطقة، وأكدت مصادر ميدانية من قادة المليشيات الموالية لطهران لوكالات أنباء عالمية أن هذه المساعدات قد شهدت تقليصًا منذ بداية 2020. وزادت أزمة كورونا، وتفاقم الأزمة الاقتصادية، وإغلاق الحدود الإيرانية العراقية من هذه التقليصات، وبالطبع فإن انخفاض موارد هذه المليشيات يدفعها إلى البحث عن بديل آخر تأخذ منه الدعم، كما تتراجع وتيرة عملها، أو تنخرط في عمليات سلام بتنسيق أو بدون تنسيق مع إيران.
وبحسب وكالة «بلومبرج»، الأمريكية، فإن طهران تنفق حوالي ستة مليارات دولار سنويًا داخل سوريا، وفي بعض الأحيان تصل هذه المساعدات إلى نحو 15 مليار دولار سنويًا، ووفقًا للخارجية الأمريكية في 2019، فإن النظام الإيراني يدفع نحو 700 مليون دولار سنويًا إلى حزب الله في لبنان، وأشار أمين عام حزب الله، «حسن نصر الله»، إلى أثر هذه العقوبات في تخفيض الدعم الإيراني المقدم لتنظيمه.
وكشفت تصريحات قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، «إسماعيل قائني» عن الدعم الكبير الذي تقدمه إيران للحوثيين، وتحديدًا ما يتصل بالهجمات التي يقومون بها ضد الأهداف السعودية، وعزز هذا التصريح ما قاله المبعوث الأمريكي الخاص باليمن «تيم لاندر كينج» في إبريل الماضي، من أن دعم إيران لمليشيات الحوثي في اليمن كبير جدًا وفتاك. وفي نفس الشهر، صرح مساعد قائد فيلق القدس للشؤون الاقتصادية، «رستم قاسمي» في مقابلة تليفزيونية في 21 إبريل الماضي، بأن كل ما يملكه الحوثيون من أسلحة ومعدات عسكرية هو بفضل مساعدات إيران، وأن الحرس الثوري قدم تدريبات عسكرية للمليشيات الحوثية.
وفي العراق تحظى كتائب حزب الله العراقي، وعصائب أهل الحق، وسرايا الخراساني، ومنظمة بدر، وغيرها بدعم ضخم من إيران. ومثلت أذرعا لها في عمليات التهريب وإفشال الدولة العراقية، وإبقاء العراق ساحة خالصة للنفوذ الإيراني. وفيما تتعرض القوات الأمريكية الموجودة بالعراق -والتي تنسحب منها مع نهاية العام الحالي- لهجمات متكررة بالصواريخ والطائرات المسيرة من قبل المليشيات الممولة من إيران، فإن انسحابها النهائي غير المقترن بفرض الدولة العراقية سيادتها يعزز ارتهان الساحة العراقية بالنفوذ الإيراني.
وعليه، فإن النظام الإيراني -الذي يعتبر «رئيسي» أحد أعمدته- يرى أن ما حققه إقليميًا إنجاز كبير لمشروعه الاستراتيجي، سواء في نشر التشيع أو تصدير الثورة، ومن ثم فإنه لن يحيد عن سلوكه الإقليمي القائم على التوسع تحت ضغط التكلفة، إذ يرى في هذه التكلفة استثمارا يعود على إيران نفسها بالفائدة. ويقوم على صناعة هذا التواجد خارج إيران فيلق الحرس الثوري، الذي هو انعكاس لعسكرة النظام السياسي، وإضفاء الطابع الأمني عليه.
ويسيطر الحرس الثوري الإيراني على مفاصل الاقتصاد الإيراني العلني والسري، ليس هذا فقط، ولكن أروقة عمل الحكومة ومؤسساتها المختلفة، كما أن المنهج الأمني للنظام يجعله ينظر إلى جميع أشكال المظاهرات على أنها تهديد للأمن القومي، يقتضي استجابة فورية باستخدام أقصى طاقة أو قوة، ويرد على دعاوى ارتفاع التكلفة الاقتصادية لسلوكه الإقليمي بأن مناطق نفوذ إيران الخارجية أعانتها في التعامل مع العقوبات المفروضة عليها، إذ أصبح العراق ولبنان وسوريا بوابات لصادرات البلاد.
ومع استمرار العقوبات الأمريكية بالضغط على النفط الإيراني أصبحت سوريا أكبر مستورد لهذا النفط. ويبلغ متوسط وارداتها اليومية منه 84 ألف برميل منذ مايو 2019، كما تمثل صادرات إيران 25% من إجمالي الواردات العراقية بقيمة 10 مليارات دولار. وفوق ذلك تتطلع إيران إلى استرداد الأموال التي أنفقتها في سوريا مثلاً من خلال استثمارات اقتصادية طويلة الأجل بعد استقرار الأمور في هذا البلد، كما يصور النظام الإيراني مغامراته الخارجية على أنها ضرورة لحماية أمنه.
وفي المقابل، صرح «رئيسي» في 24 يوليو، بأن الحوار مع الجيران أولوية دبلوماسية للحكومة القادمة، وأشار إلى أن تطوير العلاقات مع سلطنة عُمان «في متناول اليد»، ووصف علاقات بلاده مع مسقط بأنها «متنامية باستمرار»، وأنه يجب إعداد خطة شاملة لتوسيع العلاقات الاقتصادية بين البلدين في أقرب فرصة بإشراف خبراء من الجانبين وتنفيذ يتابعه قادة البلدين.
علاوة على ذلك، قد يجد الطرفان؛ الخليجي والإيراني في هذا الحوار الدبلوماسي مخرجًا يحقق لكل منهما مصلحته. فإيران خاصة إذا ما اتفقت على أن تحقيق المرور الآمن في مياه الخليج يحقق هذه المصلحة ولا يضرها، وأنه لم يعد يجدي بالنسبة لها تهديد هذا الأمن كورقة ضغط على الولايات المتحدة، لأن الأخيرة قد صارت أقل اعتمادًا على نفط الخليج، وخاصة أيضًا إذا اتفق الجانبان على تسوية الأزمة اليمنية، وينهي الحرب الدائرة هناك من 2015.
ومن الجدير بالذكر، أن «رئيسي»، قد ربط إمكانية معالجة الأزمة الاقتصادية لبلاده بنجاح الحوار مع دول الجوار. ويصبح تعهد إيران بأمن الملاحة في الخليج، وحل الأزمة اليمنية مقدمات لنجاح هذا الحوار، تبدأ في إرساء دعائم الثقة المفقودة في العلاقات الإيرانية الخليجية، ويفتح الباب لتطوير هذا الحوار ليشمل مجمل العلاقات الإيرانية العربية بما في ذلك مسألة المليشيات والتنظيمات التي تمولها وتستخدمها لبسط نفوذها الإقليمي، وهو جزء معقد يرتبط بباقي جدول محادثات فيينا، الذي يشمل أيضًا برامجها للصواريخ الباليستية ونشاطها النووي، الأمر الذي قد يستغرق وقتًا طويلاً.
ويصبح السؤال إذن.. هل يترتب على هذا النجاح الجزئي في الحوار إذا ما تحقق مساعدة رئيسي في حل مشكلة بلاده الاقتصادية؟.. من جهة، فإنه يخفض التكلفة التي يمثلها الدعم الإيراني للمليشيات الحوثية، ومن جهة أخرى يفتح الباب لعودة التجارة غير النفطية بين إيران ودول الخليج. ولكي تعتبر الولايات المتحدة هذا رفعا جزئيا للعقوبات يجب على إيران أن تقدم ما يقابله من تنازلات فيما يتعلق ببرنامج الصواريخ الباليستية ونشاطها النووي. وفي ضوء الضغوط التي تمارسها إسرائيل على واشنطن حتى لا تعود إلى الاتفاق النووي، واستخدامها حادثة السفينة الإسرائيلية الأخيرة للتنديد بالتصرفات الإيرانية، ودعوة العالم لاتخاذ موقف حيالها، وفي ظل المعاناة الشديدة للاقتصاد الإيراني من وطأة العقوبات الأمريكية؛ فإن الخطاب المتشدد للرئيس الإيراني الجديد، قد يكون مقدمة لتنازلات، خاصة مع تذكر المكاسب التي حققتها في سنوات الاتفاق النووي.
ومن نواحٍ عديدة، يتطلع «رئيسي» إلى تنفيذ وعوده الاقتصادية التي أعلنها للناخبين في خطابه الانتخابي يوم 27 مايو الماضي. وتتمثل في منح قروض مخفضة الفائدة للأسر الفقيرة، وزيادة الدعم الحكومي للرعاية الصحية، وبناء 4 ملايين منزل، وخلق 4 ملايين فرصة عمل، مع إعطاء الأولوية لذوي الدخول المنخفضة وخريجي الجامعات، وخفض الإيجارات من 30 إلى50%، ومكافحة التضخم، ومعالجة عجز الميزانية، هذه الوعود التي خاطب بها معاناة الإيرانيين الاقتصادية تتطلب موارد لن تتوافر له مع استمرار العقوبات بحالتها الراهنة، ولهذا تطلع إلى انفراجة من خلال الحوار الإقليمي.
على العموم، يبدو أن الرئيس الجديد ليس هو وحده صاحب القرار في طهران، ويبدو أن تصرفات مؤسسة الحرس الثوري تسير في عكس الاتجاه، خاصة أنه خلال الأسابيع الأخيرة تصاعدت وتيرة الهجمات في المنطقة على أهداف أمريكية وسفن في الخليج وبحر العرب، طبقًا لما ذكرته مجلة «فورين أفيرز». وحاولت مجموعة مسلحة تعمل لصالح إيران اختطاف سفينة ترفع علم بنما في خليج عُمان، بعد حادثة السفينة الإسرائيلية، وتعرض دبلوماسيون وأهداف أمريكية للاستهداف في العراق وسوريا بصواريخ. كل هذه عوامل تجعل العودة إلى الاتفاق النووي أكثر صعوبة، ناهيك عن أنه لم يعد بإمكان مفتشي الأمم المتحدة رؤية ما تفعله إيران داخل منشآتها النووية. وبحسب تقارير إسرائيلية، فإن إيران قد صارت على مدى 90 يومًا من امتلاك قنبلة نووية، وتبدو واثقة أن الوقت لصالحها، ولهذا فهي تطمح أن تقدم الولايات المتحدة تنازلات أكبر.
وإلى هذا فليس من المتوقع على الأقل في المدى القريب أن تسمح واشنطن بهذا الرفع الجزئي للعقوبات، أو أن يتمكن «رئيسي» من تنفيذ وعوده الاقتصادية. ويصبح الشيء الوحيد المتفق عليه، هو زيادة عزلة إيران، وتوحد العالم في مواجهتها.