top of page

17/7/2021

الأمن المائي والعمل العربي المشترك

يعد الأمن المائي لأي دولة، أو تجمع سكاني، أحد أهم مكونات الأمن القومي، باعتبار المياه أهم مقومات الحياة والوجود للكائنات الحية وليس للإنسان فقط، ويختلف إدراك مدى خطورة الأمن المائي بين دولة وأخرى بحسب توافر الموارد المائية، فالدول التي توجد في المناطق المطيرة، أو تتوافر لديها العديد من المياه السطحية التي تقع منابعها لديها، لا تدرك هذه الخطورة مثلما تدركها الدول التي توجد في مناطق شحيحة الأمطار أو أن المياه السطحية التي تتدفق فيها تقع منابعها خارج حدودها، ولهذا حينما كان موضوع سد النهضة الإثيوبي يتم تداوله داخل قاعة مجلس الأمن الدولي، لم تكن كلمات رؤساء الوفود المتحدثة بنفس سخونة وحرارة كلمات مصر والسودان وتونس.

 

وقد أعادت مسألة سد النهضة في سياق العمل العربي المشترك، قضية الأمن المائي العربي إلى الصدارة، حيث اجتمعت الجامعة العربية أكثر من مرة، وأصدرت العديد من التصريحات، وتوجهت إلى مجلس الأمن الدولي، كما صدر عن مجلس التعاون الخليجي وقادة الدول العربية التصريحات التي تظاهر الحقوق المائية لمصر والسودان، وعرض كثير منهم الوساطة لدى إثيوبيا لحل هذه الإشكالية بما يضمن الأمن المائي لهاتين الدولتين العربيتين، ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي تُثار فيها قضية الأمن المائي في سياق العمل العربي المشترك، ففي ستينيات القرن الماضي، بمناسبة تحويل مياه نهر الأردن، المصدر الوحيد الدائم للمياه السطحية للضفة الغربية، وفلسطين بشكل عام، وتتشارك في مياهه خمس دول: فلسطين والأردن وسوريا ولبنان وإسرائيل، وارتبط إنشاء إسرائيل بمحاولتها الاستحواذ على مياه هذا النهر، وفي منتصف مايو 1964 أعلنت تدفق مياهه إلى منطقة النقب بواسطة مضخات ضخمة، كان ذلك من أهم أسباب العمليات العسكرية الإسرائيلية في 1964 و1965 ومن أهم أسباب حرب 1967، وبمناسبة هذه القضية نشطت في العمل العربي المشترك مؤسسة القمة العربية كأهم آليات هذا العمل، أيضًا كان من أهم أهداف إسرائيل في الحرب على لبنان في 1982 الاستيلاء على مياه نهر الليطاني.

 

ولقد أنبرى العمل العربي المشترك لتناول هذا الموضوع في ذلك الوقت، ففي أواخر ثمانينيات القرن الماضي وفي تسعينياته تناول هذا العمل المشروعات التركية على نهر الفرات، أبرزها مشروع سد أتاتورك، الذي يعد واحدًا من أكبر السدود الركامية في العالم بارتفاع 184 مترًا وبحيرة تخزن 48 مليار متر مكعب، ويؤدي إلى حرمان سوريا والعراق من ثلثي المياه التي تتدفق إليهما من هذا النهر، وكما فعلت تركيا ذلك، تقوم إيران بتجفيف مياه شط العرب والأهواز شرق وجنوب العراق، وتخفيض منسوب المياه المشتركة بينهما بما يؤثر سلبًا على ما يصل محافظات ديالي وكركوك العراقية من مياه.

 

ولما كانت مصادر المياه العابرة للحدود السياسية تغطي قرابة نصف مساحة الكرة الأرضية، وتمثل نحو 60% من تدفق المياه العذبة في العالم، وتدعم دخل أكثر من 3 مليارات نسمة وسبل كسب عيشهم، فقد عُد التعاون بشأن موارد المياه المشتركة أمرًا حيويًّا لكفالة السلام والاستقرار والتنمية الاقتصادية، بل وحماية الموارد الطبيعية وتحقيق التنمية المستدامة، ولهذا فقد عُني القانون الدولي بوضع قواعد ومبادئ عامة لتنظيم استخدام المجاري المائية الدولية في الزراعة والصناعة وتوليد الكهرباء والملاحة، بدءًا من اتفاقية برشلونة 1921، ثم اتفاقية جنيف 1923، إلى قواعد هلسنكي 1966 واتفاقية هلسنكي 1992، ووصولاً إلى اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1997 حول استخدامات المجاري المائية الدولية في الأغراض غير الملاحية، فضلا عن الاتفاقات الخاصة الثنائية والمتعددة الأطراف في مناطق العالم المختلفة، وكلها تهدف إلى تفادي تصاعد النزاع حول موارد المياه إلى صراعات مسلحة تهدد السلم والأمن الدوليين.

 

لكن أغلب المعاهدات والاتفاقيات الدولية للأنهار العابرة الحدود قد افتقرت إلى آلية محددة للتحكيم، فضلاً عن غياب صفة الإلزام في القوانين والمعاهدات الدولية بشأن المياه، ولهذا فقد أُقرّت آليات لفض النزاع من خلال تشكيل لجان لدراسة الأسباب وإحالتها إلى هيئة التحكيم التي تتشكل بناءً على طلب الطرفين، كما جاء في اتفاقية الأمم المتحدة السابق الإشارة إليها، وكما أن أغلب المعاهدات لم توضح الآلية المتبعة في حالة رفض أو امتناع أحد الأطراف عن المشاركة في رفع موضوع الخلاف إلى هيئة التحكيم، وأغلبها لم يوضح الإجراءات الإلزامية لقراراتها، أو إمكانية فرض عقوبات على الطرف الذي لا يلتزم ببنود المعاهدات، أو الذي ينتهك قرارات التحكيم الصادرة عن هيئة التحكيم، فإن ذلك يعني أن القانون الدولي لتنظيم استخدام الموارد المائية المشتركة مازال غير مكتمل، وهو ما أتاح التغول في إعمال الحقوق السيادية لدول المنبع، من دون خشية عقاب دولي أو إقليمي، وهو ما فعلته إسرائيل وتركيا وإيران وتفعله إثيوبيا الآن، فما هو إذن المطلوب من العمل العربي المشترك في هذه الحالة؟

 

المسألة المثارة في قضية سد النهضة حاليًا، هي حاجة مصر والسودان إلى اتفاق قانوني ملزم لقواعد ملء وتشغيل السد، لا ينتقص من كمية المياه المتدفقة من النيل الأزرق للسودان ومصر، خاصة في حالات الجفاف والجفاف الممتد، حيث يجري تعويضها لمصر والسودان بالسحب من بحيرة السد العالي، كما يتعين على إثيوبيا مراعاة قواعد الأمان والسلامة الهندسية لسد النهضة، حيث إن انهياره يُلحق أضرارًا بليغة بمصر والسودان، ووضع هذا الاتفاق القانوني الملزم في إطار علاقات التعاون العربية الإثيوبية هو من أولى الجوانب التي تحرص إثيوبيا على الالتزام به، والاتفاق على نظام للعقوبات الاقتصادية في حالة عدم الالتزام يكفل أيضًا هذا الالتزام، ويصبح مطلوبًا من العمل العربي المشترك إذن مع عرض الوساطة من أكثر من دولة عربية، مساعدة الأطراف على صياغة مشروع هذا الاتفاق المطلوب، فقد أثير أن كثيرًا من بنود هذا الاتفاق قد تم التوافق عليها ولكن بقيت بعض النقاط الخلافية المهمة دون حسم.

 

ولا تحجب مسألة سد النهضة خطورة وضع الأمن المائي عربيًّا، فالمياه في المنطقة العربية مهددة أيضًا بالجفاف الطبيعي، ويؤدي التغير المناخي والاحتباس الحراري، وهو تهديد عالمي قائم على التأثير على معدل المياه ونشر التصحر أخذًا في الاعتبار أن المنطقة العربية التي يعيش فيها 5% من سكان العالم، نصيبها من المياه أقل من 1% من المياه فهي تعد من أكثر مناطق العالم جفافًا.

 

وبسبب تهديد الأمن المائي عمدت دول عربية إلى تغييرات جذرية في أنماط التنمية فيها، ففيما كانت السعودية تسعى إلى تحقيق أمنها الغذائي عن طريق تحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح، وأمكنها ذلك بالفعل، فقد أصبحت الزراعة خارج الحدود أحد التوجهات الرئيسية للحفاظ على الموارد المائية وعدم استنزافها، وعلى هذا الدرب سارت كل دول مجلس التعاون الخليجي، وهو أمر مطلوب أن يتوسع فيه العمل العربي المشترك.

 

وإذا كانت مصر في إطار سياسة التعامل مع حالة الفقر المائي تعيد النظر في أساليب الري، لتجعل الري بالتنقيط أو الرش بديلا عن الري بالغمر، كما تقوم بتبطين الترع لمنع تسرب المياه، ورفع أسعار المياه لترشيد استخدامها، وتغير النمط المحصولي باستبدال المحاصيل الشرهة للمياه بمحاصيل أقل استخدامًا لها، إلا أن كل هذا مع زيادة السكان وثبات حصتها من المياه لا يغنيها عن الزراعة خارج الحدود كتوجه استراتيجي تشترك فيه مع الدول العربية من خلال العمل العربي المشترك، وإلى هذا يمكن للزراعة العربية حول بحيرة سد النهضة أن تكون أحد أوجه التعاون الكبرى العربية الإثيوبية التي تحقق هدفًا مزدوجًا: الأمن المائي العربي، وإلزامية ارتباط إثيوبيا بالاتفاق القانوني الملزم لقواعد ملء وتشغيل سد النهضة.

 

ولتعزيز العمل العربي المشترك في مجال الأمن المائي، تم إطلاق المجلس العربي للمياه في أبريل 2004 كمنظمة إقليمية مستقلة غير هادفة للربح تتخذ من القاهرة مقرًّا لها، وفي مارس الماضي أطلق هذا المجلس التقرير الإقليمي عن رسم الطريق لتحقيق التنمية المستدامة في المنطقة العربية، بالتعاون مع برنامج الأغذية العالمي، ومبادرة رابطة الدول العربية لمخاطر المناخ، ويرأس هذا المجلس حاليًا د. محمود أبو زيد وزير الموارد المائية الأسبق لجمهورية مصر العربية، وفي سبتمبر المقبل يعقد هذا المجلس النسخة الخامسة للمنتدى العربي للمياه في أبو ظبي؛ لمناقشة تعظيم استخدام الموارد المائية في العالم العربية، وتم اختيار أبوظبي لريادتها في استخدام موارد المياه غير التقليدية؛ كالمياه الجوفية ومياه الصرف الصحي والصناعي والزراعي وتحلية مياه البحر وكيفية تعاملها مع زيادة الملوحة، مما يبرز الحاجة إلى ضرورة الإسراع بتنفيذ مخطط شامل للتحرك على المستويين القطري والقومي وفق استراتيجيات تضمن مواجهة العجز المائي العربي، وتلبية كل الاحتياجات من المياه في المستقبل مع تحقيق إدارة سليمة للموارد المائية العربية المتاحة، وضمان تنمية مستدامة.

 

إلى جانب هذا المجلس نشأ في إطار جامعة الدول العربية في 2009 المجلس الوزاري العربي للمياه يتبنى تنفيذ الاستراتيجية العربية للأمن المائي 2010 – 2030 لمواجهة التحديات المرتبطة بهذا الأمن، وفي 2014 أعلنت جامعة الدول العربية إطلاق جائزة هذا المجلس حول موضوع إدارة الطلب على المياه للأغراض الزراعية، وفي نوفمبر الماضي عقد هذا المجلس دورته الـ12 التي ترأسها وزير الدولة القطري لشؤون الطاقة.

 

بشكل عام لم يفتقر العمل العربي المشترك في مجال الأمن المائي إلى مؤسساته، ففي يوليو 2009 أصبحت له استراتيجية، فضلاً عن خطة لترشيد استهلاك المياه أقرها وزراء المياه العرب في اجتماعهم في الجزائر في الشهر المذكور، وترتكز هذه الاستراتيجية على محاور إنشاء قاعدة معلومات الموارد المائية العربية، وحماية الحقوق المائية العربية، ومواجهة التغيرات المناخية في المنطقة العربية، وتقوم على رفع القدرات التفاوضية مع الدول غير العربية بشأن الاستغلال والاستفادة المشتركة من المياه، إلى جانب بناء القدرات في مجال تعبئة وتخزين وتوزيع الموارد المائية، ومن هذا الاجتماع المشار إليه أصبح يوم 3 مارس من كل عام يومًا عربيًّا للمياه.

 

في النهاية يمكننا القول بأن العمل العربي المشترك في مجال الأمن المائي الذي تجسد بوضوح في اجتماع المجلس الوزاري للجامعة العربية في يونيو الماضي، والتصريحات الواضحة للقادة العرب في اعتبار أمن مصر والسودان المائي جزء لا يتجزأ من الأمن القومي العربي، يشير بشكل كبير إلى أن الجامعة العربية قد تتخذ إجراءات تدريجية لدعم موقف مصر والسودان في خلافهما مع إثيوبيا بشأن السد.

{ انتهى  }
bottom of page