28/5/2021
تأثير جائحة فيروس كورونا على الاقتصاد العالمي
تعد جائحة فيروس كورونا لعام 2020-2021 من أكثر الأحداث كارثية في القرن من الناحية الاقتصادية؛ ففي ظل تسجيل 167 مليون إصابة حتى مايو 2021، وما يقرب من ثلاثة ملايين ونصف المليون حالة وفاة؛ تعرضت صناعات عالمية بأكملها للانهيار، إلى جانب ملايين الوظائف التي تضمنتها والاقتصادات الوطنية التي تدعمها، حيث تأثرت صناعة التكنولوجيا في اليابان، وصناعة النفط في الخليج العربي، وقطاع الضيافة في المملكة المتحدة، وهو ما يعد صدمة كبيرة للاقتصاد العالمي. وعلى عكس انهيار بورصة «وول ستريت» عام 1929، أو الأزمة المالية العالمية «الركود العظيم» في 2007-2009، فإن هذه الكارثة الاقتصادية لم تكن ناجمة عن المضاربة في السوق العالمية أو سوء التقدير.
وعلى الرغم من أن الاقتصاد العالمي بدأ بالفعل في تعاف طويل الأجل، وهي عملية أخذت في التسارع من خلال توزيع اللقاحات وما يصاحبها من تخفيف للقيود على الصحة العامة، فإنه لا يزال هناك إجماع على أن هناك طريقًا طويلاً لإعادة البناء في المستقبل. وبالمثل، فإن تأثير الجائحة على الأعراف الاجتماعية والممارسات التجارية والبنى التحتية والخدمات اللوجستية يعطي أيضًا احتمالية أن يكون الاقتصاد العالمي بعد الجائحة مختلفًا تمامًا عن الأشهر الأولى من عام 2020، وكانت «ريما شريتا» من «مركز طب المناطق الحارة والصحة العالمية»، قد حذرت أوائل أبريل 2020، من أن «التداعيات الاقتصادية لهذه الجائحة من المرجح أن تعيق حتى أكثر الأسواق قدرة على الصمود، مما يهدد النمو الوطني والعالمي». وعلى الرغم من أنه لم يكن معروفًا في ذلك الوقت إلى متى ستستمر الجائحة وما هي آثارها الاقتصادية، إلا أنه من المؤكد أن هذا التحذير قد تحقق بطريقة لم يكن بالإمكان فهمها في ذلك الوقت.
وبشكل عام، كان عام 2020 هو ذروة التراجع الاقتصادي العالمي بسبب انتشار الجائحة. ووفقًا لتقرير «الآفاق الاقتصادية العالمية» الصادر عن «البنك الدولي» في يناير 2021، «انكمش الاقتصاد العالمي بنسبة 4.3%، ولم يقابل هذا المستوى من التراجع في القرن الماضي سوى الكساد الكبير والركود العظيم والحرب العالمية الثانية». ومع ذلك، فإن هذا التقييم للاقتصاد العالمي لم يوضح الصورة بشكل كامل. وكما أشارت مجلة «ذي إيكونوميست»، فإنه «لم يأخذ في الحسبان النمو المستقبلي الذي كان سيحدث لو لم تحدث الجائحة، كما أن مقياس البنك الدولي يقيس سقوط الاقتصاد العالمي مما كان عليه قبل الجائحة، وليس ما كان سيصبح عليه في حالة عدم انتشارها»، لذلك باستخدام نموذج حسابي جديد، قدّرت المجلة خسائر الاقتصاد العالمي بـ 5.6 تريليونات دولار في عام 2020، وانكماشه بنسبة تصل إلى 6.6%.
ووفق هذا المعنى، كان من بين أكبر التداعيات الاقتصادية للجائحة انهيار أسعار النفط في أمريكا إلى 40 دولارًا تحت الصفر للبرميل في أواخر أبريل 2020، والأرقام المرتفعة للبطالة بها، حيث طالب 20% من القوة العاملة بدعم الحكومة أي ما يعادل 26.5 مليون شخص، فيما تأثرت العديد من الصناعات، أبرزها الطيران، والتشغيل الآلي للجمارك والضيافة والسياحة. وخلال الأشهر الأولى من الإصابات المؤكدة بكوفيد-19 في الغرب، تم تعليق قطاعات مؤثرة وكبيرة من الاقتصاد العالمي.
وفي الواقع، سجلت معظم الاقتصادات المتوسطة والمتقدمة في عام 2020 انخفاضًا في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة تتراوح بين 5% و15%. وكانت الصين الاقتصاد الرئيسي الوحيد الذي سجل نموًا، وإن كان بنسبة 2.3% فقط. وكما قال «جون شارمان» في صحيفة «ذي اندبندنت»، فإن «كوفيد-19 تسبب في حدوث أكبر انخفاض في إنتاج المملكة المتحدة منذ 300 عام في العام الماضي عندما انخفض بنسبة 9.8%». وحتى الدول التي فرضت ضوابط مُحكمة للحد من انتشار الفيروس تراجعت اقتصادياتها. وعلى سبيل المثال، تراجع اقتصاد اليابان بنسبة 5.1% من يناير 2020 إلى مارس 2021 وسط انخفاض حاد في الطلب على صادراتها من السيارات والتكنولوجيا.
وبالنسبة لدول الخليج، فإن الانخفاضات الحادة في أسعار النفط لعام 2020، سلطت الضوء على حساسية الاعتماد المفرط على الصادرات النفطية لتحقيق نمو الإيرادات المالية. وتوقع «صندوق النقد الدولي»، «انكماشًا اقتصاديًا إقليميًا بنسبة 4.1% في نوفمبر 2020». وبالنسبة لمستقبل اقتصاد الخليج في أعقاب الجائحة، أوضح «نادر قباني»، من «معهد بروكينجز»، أن «جائحة الفيروس التاجي وانخفاض أسعار النفط العالمي تسببا في زيادة الضغط على دول الخليج للمضي قدمًا في جهود التنويع الاقتصادي، وتطوير القطاعات غير الهيدروكربونية التي يمكن لاقتصاداتها أن تنافس فيها»، ولكن مع ذلك «هذا سؤال يصعب الإجابة عليه من دون تجربة وتدارك الأخطاء».
من ناحية أخرى، فإن قلة الطلب الناجم عن إغلاق الشركات وحث المواطنين على البقاء في منازلهم قد أثر أيضًا على التجارة الدولية. ووفقًا لتقرير «مركز خدمة أبحاث الكونجرس»، الذي نُشر في مايو 2021، فقد «انخفضت التجارة العالمية بنسبة تصل إلى 5.3% في عام 2020، مع انخفاض الصادرات الدولية بنسبة 7.8% في الربع الأول، وبنسبة 11.6% في الربع الثاني. وعلى الرغم من الانتعاش بنسبة 15.7% في الربع الثالث، ظل النمط العام للتجارة العالمية يشهد انخفاضًا كبيرًا منذ عام 2019». كما خلصت «منظمة التجارة العالمية»، إلى أن «تجارة الوقود والمعادن انخفضت بنسبة 38%، وتجارة المنتجات الزراعية بنسبة 5% على الأقل».
وفي المقابل، كان من بين الرابحين القلائل اقتصاديا من الجائحة عمالقة الأدوية الذين كانت لقاحاتهم وعلاجاتهم مطلوبة لإنقاذ ملايين الأرواح. وسجلت شركة الأدوية الأمريكية «موديرنا» وحدها زيادة في قيمة الأسهم بنسبة 715%. وفتح ظهور مثل هذه العلاجات واللقاحات في النصف الثاني من عام 2020 الباب أمام تعاف اقتصادي عالمي طويل.
وفي خضم ذلك، تم تقديم تنبؤات للنمو الاقتصادي المستقبلي في عام 2021 وما بعده. وتوقعت مؤسسة الخدمات المالية «جولدمان ساكس»، نموًا اقتصاديًا ضخمًا في الولايات المتحدة لعام 2021 بنسبة 6.8%، أعلى بكثير من الـ4.5% التي توقعها الاقتصاديون الذين شملهم الاستطلاع الذي أجراه «بنك الاحتياطي الفيدرالي» بفرجينيا في فبراير 2021، حيث أشار «جان هاتزيوس»، كبير الاقتصاديين بها إلى أنه «من المرجح للغاية أن نشهد معدل نمو مرتفعا للغاية».
وكدليل على الشعور بالتفاؤل بشأن مستقبل الاقتصاد الأمريكي، تم تمرير حزمة 1.9 تريليون دولار من إغاثة كوفيد-19 للمواطنين والشركات في مارس 2021، كما تم وضع خطة بقيمة 2 تريليون دولار لتحديث البنية التحتية، وخطة إضافية بقيمة 1.8 تريليون دولار للإغاثة المالية للأسر ذات الدخل المنخفض.
ومنذ مطلع العام، حظيت المملكة المتحدة أيضًا بما وصفه «كريس وليامسون»، من مؤسسة «آي اتش إس ماركت»، بـ«طفرة نمو غير مسبوقة، ومستوى قياسي من التفاؤل التجاري». وكما توقع «فيليب شو» من مجموعة «إنفيستك»، فإن الاقتصاد البريطاني سينمو بإجمالي 7.5% في عام 2021. وهناك أيضًا فرصة واقعية بأن يتجاوز النمو 8%»، بالإضافة إلى هذا التفاؤل، قام «صندوق النقد الدولي» في أبريل 2021، بتغيير توقعاته بشأن الانكماش الاقتصادي العالمي لعام 2021 ليكون أقل بنسبة 3% فقط مما كان عليه في يناير2020، وهو ما يمكن وصفه بالتغييرات الصارخة عن نسبة الانكماش 6.5% التي كانت متوقعة في وقت سابق.
ومع ذلك، كان العديد من المعلقين أكثر حذرا في تقييماتهم المستقبلية فيما يتعلق بكيفية استمرار تأثير الصدمة الاقتصادية لكوفيد-19 على مدار سنوات عديدة قادمة. واستنادًا إلى ما كتبه في صحيفة «وول ستريت جورنال» في أكتوبر 2020، توقع «نيكولاس كريستاكيس»، من جامعة «ييل»، أن الآثار الاقتصادية ستستمر في الظهور حتى عام 2024 على أقصى تقدير، حيث ستظل العديد من الأعراف الاجتماعية التي أورثها الوباء، مثل العمل من المنزل وتوصيل العديد من السلع ممارسة معتادة قد تغير ملامح الاقتصاد العالمي برمته.
بالإضافة إلى ذلك، هناك مخاوف بين الخبراء الاقتصاديين من أن عمليات التعافي المذكورة أعلاه تخفي الحجم الحقيقي للأضرار الاقتصادية الذي أحدثها الوباء. وكتب «مارتن وولغ» في صحيفة «ذا فاينانشيال تايمز»، أن «الانتعاش في إجمالي الاقتصاد العالمي يخفي ما يواجه شعوب العالم من تحديات، ولا سيما في ظل وجود مناطق أنهكها بطء حالات التعافي بها». ولهذا السبب، أشار «وولف» إلى أنه «على الرغم من تنفس صانعي السياسات في البلدان الغنية الصعداء فلا يزالون يديرون أعينهم بعيدًا عن التحديات العالمية التي يواجهونها، ولا سيما في ظل حالة التجاهل لضمان التوزيع العادل للتطعيمات واللقاحات على دول العالم بأسرها وعدم حلحلة أزمات الديون الطاحنة التي تعاني منها كثير من الدول جراء تلك الأزمة الصحية».
علاوة على ذلك، يبدو أنه كان هناك طفرة اقتصادية لدى الدول الغربية خلال الأشهر الأولى من عام 2021 والتي أظهرت بالفعل علامات على تراجع تداعيات أزمة كورونا. ففي حين تم إتاحة أكثر من 770 ألف وظيفة جديدة في الولايات المتحدة خلال مارس 2021، تم توفير 266 ألفا فقط في أبريل.
على العموم، لا تزال حالة عدم اليقين بشأن مستقبل الاقتصاد العالمي قائمة رغم الجهود الكبيرة التي بذلتها بعض الحكومات من أجل الحفاظ على الشركات من الانهيار، مثل الحزم المالية ومخططات الدعم المالي، والتي فتحت الباب أمام أمل متجدد في التعافي الاقتصادي على الأقل للوصول إلى معدلات النمو التي كانت أوائل عام 2020 بحلول نهاية عام 2021، ومع ذلك، فإنه يجب أن تكون أحداث العام الماضي دائمًا بمثابة تحذير بأنه لا يمكن أن نكون بمأمن الآن، وأن الاقتصاد العالمي لا يزال عرضة للتذبذب، وخاصة أن جائحة الفيروس التاجي وآثارها غير المباشرة من المتوقع أن تظل باقية لسنوات قادمة.