26/2/2021
التضامن العالمي هو الحل بشأن توزيع لقاحات كورونا
اتسمت عمليات توزيع لقاحات فيروس كورونا في الغرب حتى الآن بنجاحات متباينة بين الدول المختلفة، ومع ذلك يظل هناك أمل في المستقبل، خاصة بعد أن كافحت هذه الدول لشهور دون أي وسيلة لعلاج أو منع انتشار الفيروس، بصرف النظر عن تدابير التباعد الاجتماعي وعمليات الإغلاق. وقد أُنتجت أول لقاحات أمريكية وأوروبية للاستخدام في نهاية عام 2020، وبعد ذلك تم تبنيها على نطاق واسع. وفي المملكة المتحدة، تلقى أكثر من 16.4 مليون شخص جرعة اللقاح الأولى، فيما تلقى أكثر من 41 مليونا في الولايات المتحدة جرعة واحدة على الأقل، وتم تلقيح 16 مليونًا آخرين بشكل كامل.
لكن بالنسبة للبلدان الأقل نموًا والأكثر فقرًا في آسيا وإفريقيا، كانت هناك نجاحات قليلة في تلقيح مواطنيها؛ خاصة أنها لا تمتلك وسائل لتطوير لقاحاتها، واضطرت إلى دفع مبالغ أكبر بكثير من الدول الغربية للحصول على اللقاحات من شركات الأدوية الغربية، وبالتالي كانت النتيجة تباينًا كبيرًا في توزيع اللقاحات. ووصف الأمين العام للأمم المتحدة «أنطونيو غوتيريش» هذه النتيجة بأنها «غير متكافئة وغير عادلة إلى حد كبير»، حيث تمتلك عشر دول فقط حاليًا 75% من لقاحات كوفيد-19 في العالم، بينما لم تتلق حتى الآن ما يصل إلى 130 دولة جرعة واحدة من اللقاح، وتعتبر هذه الأزمة الآن «أكبر اختبار أخلاقي أمام المجتمع العالمي».
علاوة على ذلك، فقد زاد من تعقيد هذه الأزمة تواجد آلية جيوسياسية؛ فبينما كان الغرب يكافح لتطوير اللقاحات ويتنازع حول مخصصاتها اغتنمت كل من روسيا والصين الفرصة لإبرام اتفاقيات مع دول متوسطة القوة لاستخدام اللقاحات الخاصة بهما. وبداية من الشرق الأوسط إلى أمريكا الجنوبية، جذبت جهود موسكو وبكين في «دبلوماسية اللقاحات» انتباه القادة الغربيين بقوة، وحفزتهم على اتخاذ إجراءات قبل قمة مجموعة السبع.
وفي الآونة الأخيرة، أعاد الرئيس الفرنسي «إيمانويل ماكرون» ورئيس الوزراء البريطاني «بوريس جونسون»، والرئيس الأمريكي «جو بايدن» التأكيد على التزاماتهم بتخصيص لقاحات مطورة غربيًا للدول الفقيرة في أسرع وقت ممكن. ومع ذلك تمثل الموازنة الصعبة للسياسيين بين ضمان المخزونات المحلية والسماح بالمخصصات الدولية معضلة، في ظل تقدير حكومات الغرب لحاجة مواطنيها لتلقي جرعات اللقاح في أقرب وقت ممكن حتى تتحقق استفادة اقتصادات بلدانهم ومجتمعاتهم.
وفي واقع الأمر، لن ترضي هذه الضغوط المحلية الدول غير الغربية التي ليس لديها لقاحات كوفيد-19 لإعطائها لشعوبها. وكتب «لورانس جوستين»، و«إريك فريدمان»، و«سويري مون»، في مجلة «فورين أفيرز»، أن «العالم على وشك الفشل في اختبار حاسم في التعاون الدولي، حيث جلبت الدول الغنية إمدادات ضخمة من اللقاحات، تاركة البلدان الأفقر لمواجهة الندرة الشديدة»، مضيفين أن «الدول الغنية عليها واجب أخلاقي للمساعدة في توزيع اللقاحات، وأنه من مصلحتها الاقتصادية بذل المزيد من الجهد على الصعيد العالمي».
علاوة على ذلك، كان للجائحة تأثير كبير على البلدان الفقيرة ومعاناتها في مجال الصحة العامة. ووفقًا للبنك الدولي دفعت الجائحة 100 مليون شخص نحو الفقر المدقع، بينما تضاعف الجوع الحاد في جميع أنحاء العالم منذ بداية عام 2020، بالإضافة إلى ذلك، تُرك 463 مليون طفل في جميع أنحاء العالم من دون إمكانية الوصول إلى التعليم النظامي. وكتب «جوستين»، و«فريدمان»، و«مون»، ردًا على هذه الأرقام، أنه «فقط من خلال تطعيم سكان العالم يمكن عكس مسار هذه الاتجاهات المزعزعة للاستقرار والمثيرة للجدل أو التخلص منها».
وعلى الرغم من الأزمة الصحية العالمية -التي تقف جنبًا إلى جنب مع جائحة الفيروس التاجي- فإن الدافع الذي جعل الدول الغربية تروج للقاحاتها يرجع بشكل أساسي إلى التقدم الذي أحرزته كل من روسيا والصين في دبلوماسية اللقاحات وما حققته من مصالح سياسية. وأوضحت «آن شاساني»، في صحيفة «فاينانشيال تايمز»، أن كلا البلدين «استخدم الإمدادات الطبية لجني مكاسب السياسة الخارجية مع البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل، مثل البرازيل ونيجيريا، والجزائر، والتي تتطلع إليهما لمنحها اللقاح، وسط غياب القيادة والدعم الأمريكي أو الأوروبي». وبالفعل، أبرمت روسيا اتفاقيات لتوريد لقاح (سبوتنيك V) إلى أكثر من خمسين دولة، بما في ذلك المجر عضو الاتحاد الأوروبي.
وفي واقع الأمر، كانت هذه الجهود مفيدة للغاية للبلدين دوليا. وعلقت «شاساني»، أنه بينما تحاول الصين «مواجهة الادعاءات بأنها تسترت على الانتشار المبكر للمرض، فقد طرحت لقاحاتها في آسيا والشرق الأوسط وهو ما يتناقض مع السياسة الحمائية لواشنطن في عهد كل من «ترامب»، و«بايدن». وبالمثل، فإن الكرملين الذي يقدم لقاحات خاصة به للآخرين يقارن بشكل إيجابي بالنهج الخامل لبروكسل في هذا الصدد وسمعته في التناحر الداخلي بين أعضاء الاتحاد الأوروبي حول تخصيص جرعات اللقاح.
وبشكل عام، شكلت هذه الميزة الاستراتيجية لخصوم الغرب الرئيسيين الدافع لدعوة الرئيس الفرنسي «ماكرون» الأخيرة للولايات المتحدة والدول الأوروبية الأخرى لتخصيص ما يصل إلى 5% أو إمدادات اللقاح الخاصة بهم لإرسالها إلى البلدان النامية. وفي حديثه مع «المجلس الأطلسي» في أوائل فبراير، أقر «ماكرون» بأن «كفاءة» طرح اللقاح الصيني كانت «مهينة بعض الشيء للقادة الغربيين الذين قاموا بجهود قوية بالمقارنة». وفي مقابلة مع صحيفة «فاينانشيال تايمز»، شجب أيضًا اضطرار بعض الدول الإفريقية إلى شراء لقاحات أوروبية بأسعار فلكية، مما يجعل من السهل اتجاههم نحو البدائل الروسية والصينية، مشيرًا إلى أن «طرح اللقاحات لا ينبغي أن يكون لعبة قوة، بل مسألة تتعلق بالصحة العامة؛ وهي في مصلحة الفرنسيين والأوروبيين على حد سواء»، محذرا من أن «التسارع غير المسبوق في إقرار حالة من عدم المساواة العالمية سيخلق مناخا غير مستدام سياسيًا ويمهد الطريق لحرب نفوذ على اللقاحات بين الغرب وخصومه».
وعلى الرغم من النوايا الحسنة للاقتراح الفرنسي، فقد قوبل بمعارضة من حلفائه. وأبقت الولايات المتحدة على رفضها تصدير اللقاحات الخاصة بها إلى البلدان النامية حتى وقت تكون فيه راضية عن مستويات التطعيم الخاصة داخل أراضيها. وذكر مسؤول حكومي أمريكي أن بايدن طلب من موظفيه الاستعداد لتزويد اللقاحات الفائضة، ولكن فقط بمجرد توافر إمدادات كافية داخل الولايات المتحدة نفسها.
في غضون ذلك، جاءت انتقادات بريطانيا في شكل الخطة التي لم تكن جدية بما يكفي لضمان حصول جميع البلدان في العالم على اللقاحات. ويقترح حزب المحافظين، بدلاً من ذلك تخصيص ما يصل إلى 80% من اللقاحات الفائضة في الدول الغربية لآلية (كوفاكس)، المعنية بإتاحة لقاحات «كوفيد-19» على الصعيد العالمي، وهي مبادرة تدعمها الأمم المتحدة بقيادة «منظمة الصحة العالمية» (WHO)، و«التحالف العالمي للقاحات والتحصين» (GAVI)، و«التحالف من أجل ابتكارات التأهب للأوبئة» (CEPI). وادعت بريطانيا أن هذا النهج «سيكون أسرع وسيتجنب استخدام اللقاح في نفوذ دبلوماسي قصير المدى». علاوة على ذلك، دعا «جونسون»، أيضًا حلفاء المملكة المتحدة إلى الالتزام بهدف مدته 100 يوم لتطوير لقاحات جديدة لإرسالها إلى دول أخرى.
وتتركز الجهود الدولية للحصول على اللقاحات داخل البلدان الفقيرة على مبادرة (كوفاكس)، والتي وافقت أكثر من 190 دولة على المشاركة فيها، على الرغم من أن إدارة ترامب رفضت في السابق أي مشاركة بسبب خلافه -آنذاك- مع منظمة الصحة العالمية. ووفقًا لكل من «لوسي فيشر»، و«سام مورجان» في صحيفة «ذا تليجراف»، فإنها «تهدف إلى توفير 1.8 مليار جرعة لقاح إلى 92 دولة بحلول نهاية عام 2021». ومع ذلك، ووفقًا لمنظمة الصحة العالمية، فقد فقدت المبادرة هدفها المتمثل في إتاحة اللقاحات في البلدان الفقيرة، وكذلك البلدان الغنية لكون الأمر يتطلب تمويلاً لا يقل عن 5 مليارات دولار لتحقيق أهدافها».
وبالفعل، تبرعت بريطانيا حتى الآن بمبلغ 548 مليون جنيه إسترليني لهذه المبادرة، في حين تعهدت واشنطن بتقديم تمويل قدره 4 مليارات دولار. ومن المقرر أن تتلقى المبادرة أيضا إمدادًا قدره 1.1 مليار لقاح مضاد لفيروس كورونا من الشركة الأمريكية «نوفافاكس»، التي تلقت بنفسها تمويلا بقيمة 1.6 مليار دولار من برنامج «عملية السرعة الفائقة»، وهو برنامج لقاح «كوفيد-19» التابع للحكومة الفيدرالية من أجل تطوير اللقاح ونشره. وقد أظهر هذا اللقاح معدل نجاح وفعالية بنسبة 89% في المرحلة الثالثة من التجارب السريرية، وبالتالي يمكن أن يمثل لقاح «نوفافاكس» أفضل لقاح مطور غربيًا يتم تقديمه في جميع أنحاء العالم للدول الأقل تقدمًا اقتصاديًا.
وعلى الرغم من هذه التعقيدات، فمن الواضح أنه ستكون هناك فوائد كبرى للدول الغربية من خلال توفير اللقاحات للدول الأقل تقدمًا. ولكي يتم تفسير ذلك، أشار «جوستين» و«فريدمان» و«مون»، إلى أنه «مع الاعتراف بأن كلفة هذه اللقاحات ستكون حوالي 24 مليار دولار في عام 2021، فإن صندوق النقد الدولي في الوقت ذاته يتوقع أن مثل هذه اللقاحات ستضيف 9 تريليونات دولار إلى الاقتصاد العالمي بحلول عام 2025». بالإضافة إلى ذلك، قدرت مؤسسة «راند» للأبحاث أنه في كل عام تُحرم فيه البلدان المنخفضة الدخل من التطعيمات الضرورية، فإن اكتناز لقاحات كورونا سيخفض الناتج المحلي الإجمالي للدول الأكثر تقدمًا بمقدار 100 مليار دولار».
ويوضح كل من «توماس بوليكي»، من «المجلس الأمريكي للعلاقات الخارجية»، و«تشاد باون»، من «معهد بيترسون للاقتصاد الدولي»، في مجلة «فورين آفيرز»، أنه «لم يفت الأوان بعد لأن يسود التعاون العالمي محل الخلل الوظيفي العالمي فيما يتعلق بتوزيع اللقاحات المنتظرة لمواجهة فيروس كورونا»، ولكن الأمر يتطلب إسهامات دول وقادة سياسيين لتغيير مسار هذا الخلل.
على العموم، يبدو أن النجاحات السريعة لكل من روسيا والصين في استغلال دبلوماسية اللقاحات لممارسة المزيد من التأثير والنفوذ السياسى على الدول الأقل تقدما اقتصاديا؛ تعتبر المحفزات الرئيسية لبزوغ تعهدات جديدة بشأن توفير المزيد من اللقاحات للدول الفقيرة والنامية من جانب حكومات الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وفرنسا.
ويبقى واضحًا، أن المعركة العالمية لإتاحة اللقاحات بشكل واسع تتطلب جهودًا دولية حقيقية، وأن الانقسامات بين الدول على الصعيد السياسي كفيلة بتشتيت انتباه المؤسسات المعنية عن هدفها، وهو ما يشير إلى ضرورة التضامن وتنحية الخلافات والمصالح جانبا، وضرورة التنسيق في مواجهة هذه الجائحة، فالتعاون الدولي لم يعد مجرد خيار، بل حتمية لا مفر منها.