top of page

12/2/2021

قراءة في الخطاب الأول لبايدن حول سياسة أمريكا الخارجية

خلال الأسابيع الثلاثة الأولى في البيت الأبيض، اتخذت الإدارة الديمقراطية الجديدة بقيادة «جو بايدن»، نهجًا مُتأنيًا بشأن سياستها الخارجية، وهو ما ظهر في خطابه الأول بعد أسابيع من توليه المنصب على الرغم من وجود العديد من الأزمات الدولية الجارية حاليًا. وفي مقابل ذلك، جذبت القضايا المحلية، مثل جائحة كورونا، وتداعيات أعمال الشغب في مبنى الكابيتول، غالبية الاهتمام للحكومة الجديدة.

 

وفي حديثه، من مقر وزارة الخارجية في الرابع من فبراير2021؛ عزز «بايدن» مبادئ السياسة الخارجية لإدارته، وحدد بشكل كبير المسار الدبلوماسي الذي ستتخذه في معالجة القضايا العالمية الرئيسية؛ ومنها التأكيد على التزام واشنطن تجاه حلفائها الغربيين الرئيسيين ضد تهديدات روسيا والصين، وهو ما أشار إليه «بروس جونز»، من معهد «بروكنجز»، بقوله: إن «الخطاب تناول جميع الموضوعات المتوقعة للسياسة الخارجية، وهي مواجهة تهديدات الصين وروسيا، ودعم الديمقراطية وتعزيز التحالفات والتعددية». ومن وجهة نظره يعد مكان إلقاء الخطاب مناسبًا؛ نظرًا إلى أن وزير الخارجية الجديد، «أنتوني بلينكن»، هو المفسر والمعلق الأبرز والأكثر نشاطًا بشأن هذه السياسات في الإدارة الجديدة.

 

ووفقا للعديد من المحللين فإن الخطاب يعد علامة على تحول سياسة أمريكا الخارجية بعيدًا عن سياسة دونالد ترامب الصدامية، وبالتالي، يمثل عودة للدبلوماسية الأمريكية المعهودة. وكتب «إيمي ماكينون»، و«روبي جرامر»، و«جاك ديتش»، في مجلة «فورين بوليسي»، أنه يشير إلى «تحول جذري عن لهجة ترامب، حيث تعهد بالعمل مع الحلفاء، ومواجهة تقدم الاستبداد خاصة الصين وروسيا، ومكافحة تغير المناخ». كما وصفته صحيفة «الأوبزرفر» بأنه «مؤشر جيد، وبمثابة تحول واسع النطاق في السياسة الأمريكية، بصرف النظر عن الإجراءات المتعلقة بالشرق الأوسط وروسيا». وعلق «ويليام وشسلر»، من «المجلس الأطلسي»، أنه «بعد أربع سنوات من دبلوماسية إدارة ترامب التي هيمنت عليها التغريدات والتهديد والإهانة، من الجيد أن نرى عودة اللهجة الاحترافية للخطابات».

 

وفيما يتعلق بادعاء «بايدن» أن الولايات المتحدة ستواجه التدخل الروسي في الشؤون الغربية علق «جون هيربست»، من «المجلس الأطلسي»، بأن «نهج الإدارة الجديدة المتوازن يمهد الطريق بشكل مناسب للتعامل مع الكرملين». غير أنه أشار إلى أن هناك قضية تم التغاضي عنها، وهي مراجعة بايدن وضع القوة الأمريكية العالمية للتأكد من أن «الوجود العسكري للولايات المتحدة يتماشى بشكل مناسب مع سياستها الخارجية وأولويات الأمن القومي»، فضلاً عن التراجع عن انسحاب القوات الأمريكية من ألمانيا، والإبقاء على 12 ألف جندي.

 

وبصرف النظر عن التركيز المستمر على بناء تحالف ومواجهة العدوان من روسيا والصين، كانت هناك نقطة أخرى مهمة، وهي قرار الانسحاب من مشاركة الولايات المتحدة في الحرب باليمن على الرغم من تأكيد «بايدن» على استمرار دعم واشنطن للسعودية في مواجهة تهديدات إيران ووكلائها الحوثيين. وفي هذا الصدد، أشارت «كيرستين فونتينروز»، من «المجلس الأطلسي»، إلى أن الخطاب احتوى على «رسالة تم صياغتها بعناية تشير إلى أن واشنطن ستبقى لاعبا فاعلا في اللعبة، لكنها، ستستبدل المساعدة العسكرية بالجهود الدبلوماسية». وعلى هذا المنوال، تساءلت مجلة «بوليتيكو»، أيضًا عما إذا كان الإعلان يمثل «أكثر بكثير من مجرد خطوة رمزية؛ كون الجيش الأمريكي يلعب بالفعل حاليًا دورًا محدودًا للغاية في الصراع».

 

وحول التداعيات الإقليمية، أضافت «فونتينروز»، أن «البيان الواضح للالتزام بأمن المملكة العربية السعودية يهدف إلى طمأنة الخليج، ومنع تشجيع الحوثيين وإيران». وأضاف «وشسلر»، أن الخطاب قدم «وجهات نظر متوازنة، بعيدة كل البعد عما سمعناه خلال الحملة الانتخابية حول السعودية؛ ومن ثم تُبشر بالخير للمراجعة الاستراتيجية المقبلة للعلاقات الأمريكية السعودية». علاوة على ذلك، كما أوضح «جيك سوليفان»، مستشار الأمن القومي في إدارة بايدن، فإن هذا الحد من الدعم لا يشمل الأعمال المشتركة التي يتم تنفيذها ضد جماعة القاعدة الإرهابية في شبه الجزيرة العربية.

 

وعلى الرغم من ترحيب العديد من المحللين والمعلقين الغربيين بملاحظات بايدن فيما يخص السياسة الخارجية، فمن المهم ملاحظة أنه لم ينجح في إقناع الجميع بالخطاب. وعلق «جيمس كارافانو»، في مجلة «ناشيونال انترست»، أنه لم يلق الإشادة «لأنه بدا فارغ المضمون مثل خطابات ترامب، وأن هناك الكثير من النقاط غير الواضحة، وهو ما من شأنه أن يجرد الخطاب من أي ثقة ويجعل تصرفات الإدارة تتجلى في صورة إسهاب من الرئيس دون جدوى».

 

وردا على ذلك، كتب «باري بافيل»، من «المجلس الأطلسي»، أن بايدن «نجح في إطلاق الملامح الأولى لسياسة خارجية متجددة لعقد العشرينيات من القرن الحالي مرتبطة بمصلحتين أمريكيتين أساسيتين، الأولى، تحمل مكسبا مباشرا للطبقة الوسطى في الولايات المتحدة من خلال توفير الوظائف لها. أما الثانية، فتتمثل في حماية الأمن القومي، من خلال عقد تحالفات أمريكا مرة أخرى كأولوية قصوى». وعلى الرغم من ذلك، انتقد «جيمس جولدجير» من معهد «بروكينجز»، ما يتعلق بقضايا السياسة الخارجية المحددة، مؤكدا أن «العلاقة بين السياسة الداخلية، والخارجية لواشنطن أصبحت أكثر ضبابية، مع فشل بايدن، بدلاً من ذلك، في توضيح كيف أن انقلاب ميانمار، والحرب في اليمن والقمع الذي شنته روسيا يهم مواطني الولايات المتحدة».

 

وبالمثل، كان هناك شك واضح أيضا داخل القاعدة الديمقراطية الليبرالية. وأشارت «لارا جيكس»، في صحيفة «نيويورك تايمز»، إلى أن الدبلوماسيين داخل الخارجية الأمريكية «ظلوا متشككين تجاه بايدن ووزير خارجيته، بلينكين، وأعربوا عن خيبة أملهم من خطابه، لأن الدبلوماسيين الذين ظلوا في مناصبهم أثناء إدارة ترامب تم تجاوزهم لصالح ترقية عدد من المعينين السياسيين. وفي هذا الصدد، ذكرت صحيفة «الأوبزرفر»، أنه «مثل كل رئيس، سيُحكم على بايدن بالأفعال وليس بالأقوال».

 

ومع وضع ذلك في الاعتبار، ذهب بعض المعلقين إلى أن خطاب «بايدن» قدم فقط تفصيلاً محدودًا للسياسات الجديدة، في الوقت الذي ركز وزير خارجيته على تبني العديد من المواقف المعروفة بالفعل لدى إدارته. ومع حرص نائبة الرئيس، «كامالا هاريس»، على التحدث علنًا والاهتمام بالقضايا الداخلية، فإنها لم تقدم ملاحظاتها الخاصة حول ملامح السياسة الخارجية الجديدة للولايات المتحدة، وكان «بلينكن» المعلق الرئيسي والمحدد لهذه السياسات، وذلك من خلال الرد على الإحاطات الإعلامية لوزارة الخارجية، والظهور الإعلامي المتكرر، خاصة أنه كان يؤدي هذه الأدوار، حتى قبل أن يلقي خطاب السياسة الخارجية الخاص به.

 

وفي الواقع يشير نهج «بلينكن»، الأكثر مرونة، فضلا عن تحفظه وتواضعه الجم في أن يكون محط الأنظار والأضواء وداخل دائرة الاهتمام بصورة أكثر من بايدن ذاته، -وبالتأكيد أيضا أكثر من نظيره السابق بومبيو- إلى مدى التأثير الذي قد يمارسه في الأيام المقبلة مع اعتقاد العديد من الخبراء أنه سيكون وزيرًا للخارجية الأمريكية بمعنى الكلمة، وسيكون في المقام الأول مستشارًا وصانع سياسات ودبلوماسيا مخضرما، وليس مجرد وجه للسياسة الخارجية. وعلى الرغم من ذلك، فإنه -على عكس مستشار الأمن القومي، جيك سوليفان، هو من أفصح عن مواقف الإدارة الأمريكية إزاء العديد من الأحداث الدولية الأخيرة.

 

وفي أول مقابلة له كوزير للخارجية الأمريكية في أوائل فبراير الجاري، أصدر «بلينكن»، تحذيرات بشأن برنامج إيران النووي، في الوقت ذاته كرر أن واشنطن ستنظر في أمر العودة إلى الاتفاق الإيراني، ولكن فقط إذا تصرفت طهران أولا وفقًا لبنوده المتفق عليها عام 2015. ولا يخفى أيضًا إدانته للقمع الروسي ضد المتظاهرين المناهضين لبوتين في مقابلة له مع شبكة «إن بي سي» الإخبارية. وفي نفس المقابلة تحدث أيضًا عن كيفية سعي إدارة بايدن إلى نزع الأسلحة النووية من كوريا الشمالية، وإمكانية تطبيق المزيد من العقوبات الاقتصادية ضد النظام في بيونج يانج لإجبارها على هذا الأمر.

 

علاوة على ذلك، ففي مقابلة أخرى مؤخرًا مع شبكة «سي إن إن»، ناقش إحدى قضايا منطقة الشرق الأوسط من خلال عدم تأييده اعتراف إدارة دونالد ترامب بسيادة إسرائيل على هضبة الجولان، واعتبارها أرضا إسرائيلية، مشيرًا رغم ذلك إلى أنه «بطريقة عملية، تظل السيطرة على الجولان تمثل أهمية لضمان أمن إسرائيل»، ولعل قانونية هذه السيطرة تبقى شيئا آخر، لكن بمرور الوقت إذا تغير الوضع في سوريا «ستكون هناك أمور ومستجدات» يجب النظر إليها مستقبلاً». وبالتالي، تعتبر تصريحات وزير الخارجية حتى الآن أكبر مؤشر على عدم الارتياح الحالي بين حكومتي الولايات المتحدة وإسرائيل بشأن هذه السياسة المتبناة، خاصة وأن بايدن ورئيس الوزراء الإسرائيلي، نتنياهو, لم يتبادلا المكالمات الهاتفية بعد ثلاثة أسابيع من توليه رئاسته.

 

وفي الجانب العملي من خطاباته، كان «بلينكن»، مؤثرًا أيضًا، حينما حذر رئيس مكتب الشؤون الخارجية بالحزب الصيني الحاكم، «يانغ جيتشي» من أن الولايات المتحدة لن تقف صامتة أمام انتهاكات الصين الحقوقية باختلافها في محادثته الهاتفية الأولى معه. بالإضافة إلى ذلك، في اليوم التالي لخطاب بايدن الأول حول السياسة الخارجية، التقى مع وزراء خارجية المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا، لمناقشة القضية الإيرانية والعلاقات عبر الأطلسي وانقلاب ميانمار، حيث أشاد بـ «المناقشات المثمرة» بين هذه الأطراف المعنية.

 

على العموم، لم ينتج عن أول خطاب رئيسي ألقاه «جو بايدن»، حول سياسته الخارجية أي اكتشافات أو تطورات حقيقية جديدة حول مستقبل هذه السياسة، بل أدى فقط إلى توضيح كيف سيتحدث البيت الأبيض في عهده ويتصرف بطريقة مختلفة تمامًا عن سابقه.

 

ومع عدم اهتمام «بايدن»، و«هاريس»، بالسياسة الخارجية، نظرًا إلى انشغالهما بالشؤون الداخلية، ستتمتع وزارة الخارجية الأمريكية في عهد «بلينكن» بالقوة بشكل عام، حيث لا يزال هو المسؤول الأنسب للتعليق على قضايا السياسة الخارجية، ومن المرجح أن يُلقي أول خطاب رسمي له في الأسابيع المقبلة.

 

ومع ذلك، وكما لوحظ سابقًا، سيظل حديث كل من «بايدن»، و«بلينكن»، في خطاباتهما أمرًا والعمل على أرض واقع المسرح الدولي أمرًا آخرًا تمامًا، وسيتعين على الإدارة الجديدة أن تسعى جاهدة للقيام بما هو أكثر من مجرد إطلاق التصريحات والخطابات حول الدبلوماسية الدولية لاستعادة الثقة لحلفاء واشنطن وجعل قوة ونفوذ الولايات المتحدة رادعًا مرة أخرى أمام أنظمة الدول التي تسعى لإلحاق الأذى بها أو بحلفائها.

{ انتهى  }
bottom of page