16/10/2020
دروس في القيادة.. نظرة على السيرة الذاتية لجيمس بيكر
في مناخ عالمي غير مستقر يفتقر فيه الغرب إلى القادة السياسيين الأكفاء، يجب تذكر إرث وزير الخارجية الأمريكي السابق بين عامي 1989 و1992، «جيمس بيكر»، والالتزام به بشدة أكثر من ذي قبل، والذي اشتهر بدبلوماسيته، وشغل منصب رئيس موظفي البيت الأبيض، ووزير الخزانة. وباعتباره عملاقًا سياسيًا لواشنطن لعدة عقود، فإن نجاحاته الدبلوماسية في فترة ذروة المكانة العالمية لأمريكا تتناقض مع التراجع النسبي وضعف نفوذها دوليًا في الوقت الحاضر.
وللكشف عن تأثيرات بيكر والدروس التي يمكن تعلمها في الوقت الحاضر من نجاحاته؛ عقدت مؤسسة «كارنيجي للسلام الدولي»، بواشنطن، ندوة عبر الإنترنت، بعنوان «دروس في القيادة.. نظرة على السيرة الذاتية لجيمس بيكر»، بهدف مناقشة نجاحاته الدبلوماسية، وعلاقته بجورج بوش الأب وكيف يتناقض إرثه مع فترة رئاسة دونالد ترامب، ترأسها «وليام بيرنز»، رئيس المؤسسة، ونائب وزير الخارجية الأمريكي السابق أثناء إدارة أوباما، وحضرتها «سوزان جلاسر»، الكاتبة في مجلة «ذا نيويوركر»، و«بيتر بيكر»، كبير مراسلي البيت الأبيض لصحيفة «نيويورك تايمز»، واللذان قاما مؤخرا بإصدار كتاب عن سيرة بيكر بعنوان «الرجل الذي أدار واشنطن.. قصة حياة وفترة جيمس بيكر».
في البداية، وصف «بيرنز»، «بيكر»، بأنه «رجل الدولة الأمريكي والاستراتيجي السياسي الأكثر نفوذا وفعالية في نصف القرن الماضي»، وذلك مقارنة بـ«الخلل السياسي والاستقطاب» الحاليين في واشنطن، و«الفوضى العميقة» على الصعيد الدولي، موضحًا أنه من خلال تجربته الخاصة في العمل بالحكومة الأمريكية، كان «بيكر»، بالفعل «أسطورة واشنطن»، قبل توليه دور الدبلوماسي الأمريكي الأعلى، نظرًا إلى دوره في إدارة الحملات الانتخابية، والقيام بأدوار مختلفة في الحكومات الجمهورية.
وفيما يتعلق بالكتاب الجديد، أشار إلى أنه يعد «السيرة الذاتية الأمريكية في أفضل حالاتها». أما عن سبب إصداره في هذا الوقت «الزخم»، فقد أوضح «بيتر»، أن العمل به قد بدأ عام 2013، حيث كان هناك «اختلال بشكل متزايد» حتى قبل وصول ترامب إلى الساحة، وكان الهدف منه عرض الدروس والوقائع المنظورة الأكبر حول مسيرة بيكر المهنية، وخاصة أنه لم تكن هناك سيرة ذاتية مماثلة له موجودة مسبقًا.
ومن جانبها، وصفت «جلاسر»، وزير الخارجية الأسبق، بأنه «كريم بشكل لا يصدق، ورجل من الطراز القديم»، و«ذو مهارة دبلوماسية». في حين أشار «بيرنز» إلى قدرته على التنازل وقبول أن «مبدأ التفكير الصفري -كل ما هو جيد لروسيا سيئ لأمريكا والعكس صحيح- ليس بشكل عام أفضل طريقة لكسب نتائج دائمة كمفتاح لنجاحاته في المفاوضات. بينما أضاف «بيتر»، أنه بينما كان «محافظًا بشكل أساسي» في غرائزه السياسية، إلا أنه كان أيضًا براجماتيًا في نهجه، الأمر الذي سمح له «بالاستفادة من لحظة» نهاية الحرب الباردة.
وحول علاقة بيكر الشخصية الوثيقة بجورج بوش الأب، ذكر «بيتر»، أن قضية مواطني تكساس أظهرت كيف «كان من الممكن أن يكون التاريخ مختلفًا»، وكيف «تنتهي اللحظات الصغيرة بنتائج كبيرة»، وأن أول فرصة للقاء بينهما كانت في هيوستن. في حين أوضحت «جلاسر»، أن علاقة بيكر وبوش كانت «علاقة أشقاء» تقريبًا، وهو ما كان ذا فائدة كبيرة لسيرتهما السياسية. وظلت هذه العلاقة قوية خلال السبعينيات والثمانينيات، بينما طرأ عليها التوتر بشكل كبير فقط في الفترة التي سبقت الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 1992، والتي خسرها بوش أمام بيل كلينتون. وبالنسبة إلى «بيتر»، فإن «الصعود السريع» لوزير الخارجية، من خلال التسلسل السياسي للحزب الجمهوري في أعقاب «فضيحة ووتر غيت» عام 1968، ساعده في أن يكون منتصرًا، كما وصفه «بيرنز»، بأنه بمثابة «الغطاء الذهبي» بصفته رئيس موظفي البيت الأبيض، وأيضًا بأنه وزير الخزانة «الفعال بشكل ملحوظ».
ومع وضع هذا في الاعتبار، تمت أيضًا الإشارة إلى الأفراد البارزين الذين عملوا مع بيكر وبوش، مثل «ديك تشيني»، و«كولين باول»، و«برنت سكوكروفت»، حيث اعتبرهم «بيتر»، «فريق الأمن القومي الأكثر ترابطا وفاعلية في التاريخ الأمريكي»، حيث عمل العديد منهم في إدارة «جيرالد فورد»، وتعاونوا مرة أخرى في الثمانينيات والتسعينيات. وحافظ «بيكر» على ضمان خطوط اتصال قوية معهم من خلال التأكد من حضور مساعد واحد من كل شخصية رئيسية في الحكومة معه في زياراته الخارجية من أجل ضمان نهج موحد إزاء القضايا الدولية، وهو ما وصفه «بيتر»، بأنه «درس في القيادة» في تجنب المعارك عندما تكون غير ضرورية.
وحول الصفات الرئيسية في السياسة الخارجية لبيكر كوزير للخارجية؛ لاحظ «بيرنز»، أنه في حين أن أحداثا، مثل إعادة «توحيد ألمانيا»، تبدو حتى الآن «أمرًا حتميًا»، فإن ذلك كله اعتمد بشدة على قدرات بيكر «غير المسبوقة»، وسمعته كشخص يمكنه «إنجاز الأمور». في حين أضافت «جلاسر»، أن «الإنجاز الدبلوماسي الكبير له هو قيامه بدور «العراب» في اتفاقية 2+4 بشأن إعادة توحيد ألمانيا، وأن هذا «المشروع المعقد»، يبلور «إرث بيكر»، حيث يعتمد حلفاء أمريكا كثيرًا على نفوذه ودبلوماسيته لحل الكثير من القضايا الدبلوماسية.
وفيما يتعلق بعمله في الشرق الأوسط، وصف «بيرنز» التحالف الذي قادته الولايات المتحدة في عملية «عاصفة الصحراء» ضد نظام صدام حسين، بأنه «خيار جريء». وأوضحت «جلاسر»، أن حرب الخليج كانت مثالاً على «إصرار بوش على نهجه»، وأنها لم تكن حربًا من اختيار بيكر. وفي حين أن الأخير أظهر تحفظًا حقيقيًا على استخدام القوة العسكرية الأمريكية في الخارج، مفضلاً استخدام الدبلوماسية، إلا أنه بمجرد أن قرر بوش استخدام القوة ضد العراق، كان بيكر داعمًا بالكامل، وموفقًا للغاية في تكوين التحالف بقيادة الولايات المتحدة، بل وذهبت إلى حد القول بأنها كادت تصبح الحرب الأمريكية الأولى «لجني الأرباح»، بناءً على المهارات الدبلوماسية لوزير الخارجية في إقناع الدول الأخرى بالفوائد المالية، مقابل المشاركة في العمل العسكري.
ومن وجهة نظرها، فإنه مع نهاية الحرب وهزيمة الجيش العراقي كان من الأسهل مواصلة الهجوم على بغداد والإطاحة بصدام، إلا أن بيكر وآخرين داخل إدارة بوش قرروا عدم القيام بذلك خوفًا من العواقب غير المحمودة، وأكدت جلاسر هذا الرأي، وأضافت أن بيكر كان معارضا بشدة الغزو الذي قادته الولايات المتحدة للعراق عام 2003، وأنه لم يتراجع أبدًا عن رأيه بشأن هذه القضية.
وفيما يتعلق بمؤتمر مدريد للسلام لعام1991، أشار «بيرنز»، إلى أن وزير الخارجية و«بوعي تام» لم يكن يهدف إلى «تغيير ساحق»، بل بداية «عملية دبلوماسية جادة»، من شأنها فتح الباب أمام اتفاقيات مستقبلية، واصفا هذا النهج بأنه إدارة «فن الممكن». واتفقت جلاسر مع هذا الرأي، قائلة: إن «بيكر تناول كلا من القضايا المحلية والدولية بهذه العقلية الاستراتيجية، وهو ما مثل مفتاح نجاحاته». ومع ذلك، وصفت عملية السلام في الشرق الأوسط، بأنها «أكبر خيبة أمل» إبان توليه الخارجية، وإن كان ذلك إلى حد كبير لأسباب خارجة عن إرادته، موضحة أنه اعتبرها خطوة أولى في تشكيل سلام أوسع ومستدام بين الفلسطينيين وإسرائيل، باستخدام النفوذ الأمريكي النابع من النصر في حرب الخليج، غير أن هزيمة جورج بوش الأب في انتخابات 1992، جعلت هذا الأمر مستحيلاً، وبالتالي ضاعت فرصة دبلوماسية لإيجاد السلام بين كلا الطرفين.
وحول الوضع الحالي للدبلوماسية الأمريكية، أوضح «بيتر»، أنه على الرغم من أن بيكر، لا يشبه ترامب في أي حال من الأحوال، وأن الاثنين «متناقضان تمامًا» في السلوك والمزاج والآيديولوجية، إلا أن بيكر البالغ من العمر 90 عامًا لا يزال ملتزمًا بانتمائه للحزب الجمهوري ولم يصل بعد إلى «تشتيت نفسه» ليختار بايدن «الديمقراطي»، كما أنه من الواضح أنه ليس لديه أي صلة بترامب أو بسياساته. وفي مقابلة سابقة مع مجلة «واشنطنيان»، وصف بيتر الاختلافات بين الاثنين على النحو التالي: «بيكر ليس فوضويا ومصدرا للتوترات والاضطرابات، مثل ترامب المفعم بزعزعة الأمور وإثارة الجدل وإحداث الصراع، وبينما يحاول الأول تقليص دائرة أي صراع، نرى الثاني يبحث عنها». وفي بيان صادر عن ترامب في مارس2020، وصف رئيس موظفي البيت الأبيض الجديد «مارك ميدوز»، هذه المقارنة بأنها «سخيفة».
ومع مناقشة قضية ترشح ترامب، سأل بيرنز المؤلفين عن النصيحة المحتملة التي يمكن أن يقدمها بيكر لـ«بايدن» إذا فاز بالرئاسة في نوفمبر القادم. وصرح بيتر بأنه يعتقد أن وزير الخارجية السابق سيقول «لقد حان الوقت لتوحيد البلاد»، وبالتالي سيحث بايدن على العمل مع الجمهوريين في مسائل، مثل تغير المناخ، والهجرة. وأضافت «جلاسر» أنها تعتقد أن بيكر كان سيؤكد الحاجة إلى استعادة التحالفات والمصداقية الدولية للولايات المتحدة الأمريكية، والتي قالت إنها كانت «عاملاً مهمًّا للغاية» بالنسبة له.
وردا على سؤال عما إذا كان المناخ السياسي في واشنطن الذي سمح لـ بيكر «بازدهار دوره» قد انتهى، وما إذا كان سيعود في يوم من الأيام، قال بيتر: إنه «على الرغم من أن التاريخ يظهر أن هناك مدا وجزرا بين لحظات الاستقطاب السياسي الشديدة، والفترات الأكثر هدوءًا، فإن هيكل ومركزية الدور الذي تمارسه واشنطن قد تغير، وهذا هو التحدي الحقيقي للمستقبل». وبالنسبة إليه، فإن هذه التحديات الملحة تشمل «تجزئة توجهات وسائل الإعلام» على أسس وتيارات سياسية لاختيار مرشح بعينه دون غيره، وحقيقة فإن السياسة الحقيقية المتعلقة بالانتخابات الرئاسية باتت تبدو وكأنها تدور حول تعظيم نسبة الإقبال الانتخابي، بدلاً من الاعتماد فقط على جذب الأصوات المستقلة.
وردا على سؤال يتعلق بنظرة بيكر إلى الوضع الحالي للسياسة الخارجية الأمريكية؛ صرحت «جلاسر»، بأنه «لا يقبل هذا الوضع»، خاصة أنه أصبح من الصعب التحكم فيه حاليًا، وأن بيكر كان سيتبع نهجًا مختلفًا تمامًا عن صانعي القرار الحاليين خاصة فيما يتعلق بالسياسة الخارجية بشأن الصين، وربما كان سيركز أكثر على التعاون مع حلفاء واشنطن وشركائها الأوروبيين في منطقة شرق آسيا لصياغة «نهج جديد» ضد بكين. بالإضافة إلى ذلك، وعلى الرغم من عدم ذكر وزير الخارجية الحالي «مايك بومبيو» بالاسم، لاحظ المؤلفان أنه نظرًا إلى افتقار ترامب إلى الرؤية والاستراتيجية الواضحة لا يوجد مسؤول حكومي قادر على إدارة اندفاعه.
على العموم، قدمت هذه الندوة تحليلا دقيقا عن الدروس التي يمكن تعلمها من «جيمس بيكر» في ظل صفاته الشخصية ونجاحاته في الحكومة والدبلوماسية. وعلى الرغم من أنه كان من الممكن إجراء المزيد من التحليل لدوره في منطقة الشرق الأوسط، إلا أن التعليقات حول إدارة ترامب قدمت ثروة من المحتوى للنقاش والتحليل حول مسار الأحداث الجارية.
وفي الأخير، فإن حياة وخبرة بيكر تمثل درسًا قويًا في القدرة على إدارة دفة الشؤون السياسية الاحترافية دون إحداث أي توترات أو قلاقل، وهو ما يجعل قيام القادة بتشكيل الأحداث بشكل إيجابي عملا عظيما، بدلاً من أن يكونوا عاملاً مساعدًا في اضطرابها واستغلالها في النهاية.