3/10/2020
تأثيرات جائحة كورونا على استراتيجية الدفاع والأمن الأمريكية
من المؤكد أن جائحة كورونا أثرت على كافة جوانب المجتمع تقريبًا، فمع اقتراض الدول مليارات الدولارات أو إعادة تخصيصها للإنفاق على تكاليف الصحة العامة، وتدابير الاستجابة الاقتصادية للفيروس؛ فقد تأثرت سلبا مجالات أخرى، من بينها مجال الأمن والدفاع. ففي الولايات المتحدة، التي تمتلك أكبر ميزانية دفاعية سنوية، تم تقليل ميزانية الدفاع؛ بسبب الآثار الاقتصادية الهائلة للجائحة، فيما نشأت تحديات استراتيجية جديدة، تتعلق بالصين والتداعيات المستقبلية لعمليات تحديث القوة.
ومع وضع هذه التحديات في الاعتبار، عقد «المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية»، بلندن، ندوة عبر الإنترنت بعنوان «تأثيرات كوفيد-19 على استراتيجية الدفاع والأمن الأمريكية»؛ بهدف مناقشة تداعيات الجائحة على القدرات الدفاعية والأمنية في الولايات المتحدة؛ رأسها «ديفيد جوردون»، من «معهد الأبحاث»، بواشنطن، وشاركت فيها «ماكنزي إيجلن» الزميلة في «معهد المشروع الأمريكي لأبحاث السياسة العامة»، و«مايكل أوهانلون»، من معهد «بروكنجز»، و«فرانز جادي»، من «المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية».
في البداية، حدد «جوردون» محاور المناقشة في أربع أفكار رئيسية، هي «تأثير فيروس كورونا على بيئة المخاطر في الولايات المتحدة»، و«ميزانيات الدفاع المستقبلية الناتجة عن الضغوط المالية»، و«العواقب على استراتيجية الدفاع الأمريكية»، و«تأثير الفيروس على المنافسة الأوسع على السلطة والنفوذ في العالم»، والتي أشار إليها بأنها «قضية استراتيجية كبرى» للمستقبل القريب.
ومن جانبها، قدمت «إيجلن»، تحليلا لاستجابة الجيش الأمريكي للجائحة، حيث أشارت إلى أن وزارة الدفاع «لم تكن مستعدة» لتفشي الوباء وتداعياته الاقتصادية، بسبب أن الخطط السابقة للجيش، لسيناريو شبيه بالوباء، كانت تستند إلى فيروسات وأمراض مختلفة، مثل انفلونزا الخنازير، وكذلك على نطاق أصغر. ومع تقليل القوات المسلحة والحكومة من آثار الفيروس أدى ذلك إلى صعوبات تتعلق بالإمدادات واللوجستيات في جهود مكافحته.
ومن خلال دراستي حالة، سلطت «إيجلن» الضوء على الاختلافات الشاسعة داخل الجيش الأمريكي في كيفية مكافحة الفيروس، حيث وصفت استجابة «المعيار الذهبي»، بأنها الاستجابة التي استخدمتها القوات الأمريكية في كوريا الجنوبية، والتي تضمنت استخدام «استراتيجية فقاعات الأمان»، التي تتيح للأفراد انتقاء مجموعات صغيرة للتواصل فيما بينهم، ووضع خطط وتعليمات اتصال واضحة. وهذا مقارنة بكارثة حاملة الطائرات التابعة للبحرية الأمريكية «يو إس إس ثيودور روزفلت»، والتي وصفتها بأنها «أسوأ حالة»؛ حيث لم تتم مكافحة تفشي الفيروس داخلها بشكل فعال، مما أدى إلى إصابة المئات ووفاة أحد الموجودين على متنها، ومما زاد الأمر سوءا إصابة قبطانها، الذي طرد، لأنه عبر علنًا عن مخاوفه بشأن الوضع الصحي على متن السفينة.
ومع وضع ذلك في الاعتبار شددت على الحاجة المستقبلية لـ«تعليمات خدمة مُحددة» في حالات مماثلة، لاسيما في حالة سفن البحرية التي يعيش فيها الطاقم بالفعل في ظروف مُقيدة. وعلى الرغم من إقرارها بأن استجابة الجيش كانت «بطيئة في مواكبة الأمور الصحية والوقاية من الفيروسات»؛ فقد أقرت بأن استجابته «قد تحسنت بشكل كبير» مع استمرار الأزمة. من ناحية أخرى تطرقت إلى تأثير الوباء على العلاقات الأمريكية الصينية، حيث وسع الوباء من وجهات نظر الأمريكيين تجاه الصين وضاعف من التصورات السلبية والعدائية للحكومة الصينية، كما لاحظت أيضا أن معظم الأمريكيين يدركون الآن أن الولايات المتحدة متورطة في منافسة طويلة الأمد مع الصين.
وفي معرض تلخيصه لـ«مشهد التهديد» الذي يتعرض له «البنتاجون» حاليا أشار «أوهانلون» إلى «الصين، وروسيا، وكوريا الشمالية، وإيران، والمنظمات الإرهابية»، باعتبارها التهديدات الرئيسية للأمن القومي للولايات المتحدة، موضحا أن الجائحة لم تشهد انخفاضًا كبيرًا في أي من هذه التهديدات، وأن البعض قد «تحور» و«تحول» لتقديم تحديات استراتيجية جديدة.
وفي حديثه عن التهديد الأمني من روسيا أوضح بأن «بوتين» «لا يحتاج إلى الكثير من المال»، لمواصلة تنفيذ أجندته للسياسة الخارجية التي أثارت مخاوف كبيرة بالنسبة للغرب. وفي نفس الوقت، فإن التأثير الاقتصادي للوباء «قد يعيق طموحاته العظيمة» للمنطقة، مؤكدا أن «تأجيج» المنافسة مع الغرب لا يزال خيارًا «مقنعًا» في المستقبل بالنسبة للرئيس الروسي كوسيلة لترسيخ شعبيته بين قاعدة دعمه المحلية المتعثرة.
وفيما يتعلق بالتهديد من إيران أشار إلى تلقيها «ضربة خطيرة جدًا» جراء الوباء. ومن المرجح أكثر من ذي قبل بالنسبة للمتشددين فيها أن يذعنوا لبعض القضايا دبلوماسيا، مقابل تخفيض العقوبات الاقتصادية. وبالتالي، فإن الفرصة الجيوسياسية الحالية ستمثل فرصة للإدارة الأمريكية بايدن المستقبلية في حال انتخابه لإعادة فتح قنوات الدبلوماسية للولايات المتحدة تجاه طهران. ومع ذلك، حذر من عودة واشنطن إلى الاتفاق النووي لعام 2015، مشيرًا إلى أن العودة التي قد يقودها بايدن ليست سياسة «مناسبة» تجاه إيران لتحقيق مصالح أمريكا في الشرق الأوسط.
وفي ملاحظاته الأخيرة، نوه إلى مستقبل الإنفاق الدفاعي الأمريكي في أعقاب الجائحة. وأوضح أن ميزانية الدفاع والتوقعات الاستراتيجية يجب أن تظل «قوية» في المستقبل القريب؛ نظرًا لاستمرار تهديدات الأمن القومي الرئيسية. كما أصر على أن التخفيضات الدفاعية المحتملة «ليست الطريقة الصحيحة غير المُكلفة» لحل العجز الاقتصادي المتضخم، حيث من غير المرجح أن تحدث «فرقًا ملحوظًا» في الميزانية الوطنية. وبدلاً من ذلك، أعرب عن دعمه لـ«ميزانية دفاع ثابتة»، من شأنها الحفاظ على المستويات الحالية للإنفاق الدفاعي.
بالإضافة إلى ذلك سلط الضوء أيضًا على كيفية حدوث «انخفاض طفيف» في النمط العام لميزانيات الدفاع في السنوات الأخيرة حتى قبل الجائحة. وفي حديثه إلى شبكة «بي بي سي»، في أوائل سبتمبر، أشار «أوهانلون» إلى أن «ترامب» يمكن أن «يدعي الفضل في زيادة كبيرة للميزانية في زمن السلم من ولاية كانت بالفعل جيدة إلى حد ما في عهد أوباما، الذي كانت ميزانياته الدفاعية قوية بالمعايير التاريخية أيضًا. وأقر كذلك أنه، بعد تعديلها وفقًا للتضخم، كانت ميزانية الدفاع لإدارة أوباما تزيد باستمرار على 100 مليار دولار عن متوسط ميزانية الولايات المتحدة خلال الحرب الباردة».
على الجانب الآخر تناول «جادي» التحديات الاستراتيجية المستقبلية، خاصة تلك المتعلقة بحلفاء الولايات المتحدة، ومستقبل جهود تحديث القوات. ومثل «أوهانلون» جادل بأن الجائحة قد أدت إلى تصعيد ما أسماه بـ«التحديات الموجودة مسبقًا»، بدلاً من خلق «تحديات جديدة». وفيما يتعلق بالتداعيات الاستراتيجية على حلفاء واشنطن وشركائها العالميين، قال: إن الوباء أثر «سلبًا» على هذه العلاقة بالفعل، وأرجع ذلك إلى ما أسماه «اختلال وظيفي مؤسسي»، وعدم التوافق بين المسؤولين والناخبين الأمريكيين حول دور واشنطن في الخارج.
ودعمًا لهذا التقييم أكد استطلاع للرأي أجري في يونيو 2020 أن 2% فقط من الأوروبيين ينظرون إلى الولايات المتحدة على أنها حليف «مساعد» في مكافحة كورونا. وكان تقرير حول النتائج التي جمعها «المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية» قد خلص إلى أنه: «في هذا العالم المخيف، ينظر المرء حوله بحثًا عن أصدقاء؛ لكن الأوروبيين غير متأكدين ممن يمكنهم الاعتماد عليه.. فقد ضاعت ثقتهم في واشنطن في عهد ترامب».
وحول مستقبل جهود تحديث قوة الجيش الأمريكي قال «جادي» إن الضغوط الاقتصادية الناتجة عن انتشار الوباء «ستزيد الضغط» لتسريع وتيرة تطوير القدرات التكنولوجية العسكرية. كما أوضح أنه في حين أن هذا التطوير يمكن أن يكون فرصة عظيمة» للوصول إلى ثقة كافة الدوائر الانتخابية، إلا أنه قد يكون أيضًا مخاطرة بحد ذاتها في حال فشل في مواجهة التحديات الكارثية الراهنة. وفي مثل هذه الظروف، سيكون لدى النقاد مبررًا لإمكانية تأخير المخططات المعنية بتحديث القدرات العسكرية لعدة سنوات قادمة.
وردا على سؤال حول مدى الاختلاف الذي ستحدثه نتيجة الانتخابات الرئاسية القادمة على مستقبل الإنفاق الدفاعي واستراتيجية الأمن القومي الأمريكي؛ كان هناك إجماع من المشاركين على أن الاختلافات بين «ترامب» و«بايدن»، ضئيلة بشكل عام عندما يتعلق الأمر بملف الإنفاق الدفاعي، وأن الاختلافات المحتملة التي قد تطرأ على هذه الاستراتيجية مبالغ فيها أيضًا.
ومن جانبه أكدت «إيجلن» أن هناك «استمرارية لبقاء معدل الإنفاق أكثر من تغييره» لدى كلا المرشحين، خاصة أن كلاهما قد التزم بسحب المزيد من القوات الأمريكية من الخارج، وإن كان «بايدن» يختلف في تفضيله إبقاء هذه القوات في مواقعها الاستراتيجية الحالية. ووافق «أوهانلون»، على هذا التقييم، واصفًا هذه الاختلافات بأنها «فروق دقيقة»، وذلك مع وجود أوجه تشابه أكثر بكثير من الاختلافات بينهما. ومع ذلك كان أحد جوانب الاختلاف التي شدد عليها هو الاختلافات الشخصية بينهما، حيث وصف «ترامب» بأنه «أكثر شخصية لا يمكن التنبؤ بها»، وأن ما يتسم به من اندفاع من المرجح أن يؤدي إلى تدخل محتمل في معدل الإنفاق الدفاعي، واستراتيجية الأمن القومي خلال فترة رئاسية ثانية.
وبالفعل، انعكس بوضوح أثر هذا الاختلاف خلال الحملة الانتخابية والميل إلى دعم «بايدن»، بدلاً من «ترامب»، حيث أعرب ما يقرب من 500 مسؤول عسكري سابق عن دعمهم له، مؤكدين أنه يتمتع «بالشخصية والمبادئ والحكمة والقيادة اللازمة لمواجهة عالم متوتر». وعلى الرغم من مزاعم ترامب بأنه يتمتع بمستوى كبير من الدعم داخل الجيش، فقد أفاد استطلاع للرأي أجري في أغسطس 2020 أن 41% من الأمريكيين في الخدمة العسكرية يفضلون «بايدن» في البيت الأبيض، مقارنة بـ37% لصالح ترامب.
ومع تسليط الضوء على منظور «حلفاء واشنطن» أضاف «جادي» أن الانتخابات ستكون «مهمة للغاية» بالنسبة لهم، حيث سيمثل تقلد ترامب لولاية ثانية مصدر قلق هائل للدول الأوروبية. وفيما يتعلق بالسياسات الدفاعية لكلا المرشحين؛ وصف عدم وجود خلافات سياسية رئيسية بينهما بأنه «أمر مقلق»، بالنظر إلى تدهور الأوضاع الأمنية في كل دول العالم، بما يبدو معه أن واشنطن غير قادرة على التعامل مع كافة الأوضاع بالسرعة المطلوبة.
وردا على سؤال حول ما إذا كانت هناك «خيارات بديلة» يمكن بموجبها منح تمويل متزايد لميزانية الدفاع السنوية, وفي حين أشار المشاركون إلى دعمهم المستمر لزيادة معدل الإنفاق الدفاعي، وافق «أوهانلون» على أن هناك حاجة إلى تفكير «أوسع ورؤية يجب أن يعاد تصورها»، بشأن الأمن القومي الأمريكي، مع مراعاة حجم التهديدات البيولوجية والنووية والمناخية والرقمية.
وفيما يتعلق بالتهديدات الأمنية الصينية المتصاعدة حيال الولايات المتحدة وإمكانية ظهور بكين أقوى مما كانت عليه بعد الوباء أكدت «إيجلن» أن هذه هي وجهة النظر الراهنة لكبار القادة العسكريين في واشنطن، وكذلك وجهة نظر الجيش الصيني نفسه. وفي غضون ذلك اختار «أوهانلون» إبراز دور الهند باعتباره «مهمًا» في مواجهة الاعتداءات الصينية في منطقة جنوب آسيا، مؤكدا أن تحالفاتها مع دول أخرى في هذه المنطقة «لها أهمية كبرى» مستقبلاً، وأن الصين تخسر حاليًا المنافسة الجيوسياسية الشرسة معها في تلك المنطقة.
وفي الأخير، قدمت الندوة عرضًا شاملاً للتحديات الحالية والمستقبلية التي تواجه القوات الأمريكية، من خلال طرح آراء المحللين حول إخفاقات واشنطن بشأن مواجهة كوفيد-19، وتحديات الأمن القومي الطارئة ومخاوف حلفائها، إلى جانب القلق الناجم عن الخفض المحتمل في ميزانية الدفاع من أجل تعويض معدلات اقتراض الحكومة بسبب الجائحة.
وفي النهاية، اتفق المشاركون على الاعتراف بأن فوز «بايدن» أو «ترامب» في الانتخابات الرئاسية (نوفمبر القادم)، من شأنه أن يحدث فرقًا بسيطًا فقط في الإنفاق الدفاعي، وكشفوا أن هذه القضية ترتبط بنواح كثيرة قد تتجاوز نطاق البيت الأبيض لما سيكون لها تأثير أطول بكثير من السنوات الأربع المقبلة.