2/10/2019
البرلمان البريطاني وأزمة «البريكست»..ومستقبل حكومة «جونسون»
بعد قرار رئيس الوزراء، «بوريس جونسون» تعليق عمل البرلمان مدة خمسة أسابيع قبل الموعد المقرر للخروج من الاتحاد الأوروبي يوم31 أكتوبر القادم؛ قضت «المحكمة العليا» البريطانية يوم 24 سبتمبر بإلغاء قراره، معتبرة إياه «لاغٍيا، وغير قانوني ولا تأثير له»، حيث شكل القرار صفعة كبيرة له، تبعتها نداءات بالاستقالة. وعليه، دعا رئيس البرلمان «جون بيركو» إلى عودة البرلمان يوم 25 سبتمبر، مؤكدًا أن التعليق كان عملاً غير قانوني وباطل، فواجب البرلمان في هذا الوقت هو التدقيق في أعمال السلطة التنفيذية.
وكان «جونسون» يتعلل بأن تعليق عمل البرلمان حتى 14 أكتوبر هو لإفساح المجال أمام حكومته لوضع برنامج تشريعي جديد، لكن منتقديه اتهموه بمحاولة إسكات البرلمان قبل الموعد المحدد للخروج وفق شروط لا تزال غير واضحة.
من جانبه، اعترض رئيس الوزراء على القرار قائلا: «لا أوافق، ولا أعتقد أن هذا صحيح، لكننا سنمضي قدما وبالطبع سيعود البرلمان»، ملمحا إلى السعي لتجديد تعليقه في المستقبل القريب، بقوله: «أعتقد أن هناك مبررا جيدا لمواصلة خطاب الملكة على أي حال وسنفعل ذلك». وجادلت الحكومة بأن سلطة رئيس الوزراء في تعليق البرلمان كانت مسألة تتعلق بالسياسة العليا للدولة وليست مسألة قانونية. وقال المدعي العام، «ريتشارد كين» إن الحكم ضد الحكومة سيدخل المحكمة في «حقل ألغام».
وفي بروكسل، رحّب نواب أوروبيون بهذا القرار. وقال «غي فيرهوفشتات»، رئيس كتلة الليبراليين في البرلمان الأوروبي، «أمر واحد في الأقل يبعث على الارتياح في ملف بريكست الذي لا ينتهي، حكم القانون في بريطانيا لا يزال قائما»، مؤكدا أنه «يجب عدم إسكات البرلمانات أبدا في ديمقراطية فعلية».
وفي الوقت الحالي، يبدو أن قرار المحكمة قد أضر بمكانة وسمعة «جونسون» السياسية وقدرته على ضمان تنفيذ الخروج من الاتحاد مع أو بدون اتفاق. ومن ثمّ، اعتبر خصومه أنه يمثل نهاية لفترة ولايته وإنهاء لمسألة البريكست.. فبعد أن فقد أغلبيته في مجلس العموم أولا، ثم خسر أربع عمليات تصويت حاسمة متتالية في البرلمان فيما يتعلق بجدول أعماله المتعلق بـالخروج؛ ضاعفت هذه الانتكاسة من الصورة العامة والسياسية لحكومته كصورة يغلب عليها الضعف وعدم اليقين والتقلب، في الوقت الذي يواجه فيه رئيس الوزراء، تحقيقا بـ«شبهة فساد»، إبان توليه منصب عمدة العاصمة لندن (2008- 2016)، حيث أحالته «سلطة لندن الكبرى» إلى هيئة شكاوى الشرطة، يوم 28 سبتمبر؛ للتحقيق بشأن «سوء استخدام منصبه، حول ما أسمته «قضية سلوك» بسبب صلته بسيدة أعمال أمريكية تدعى «جينيفر أركوري»، بزعم تلقيها معاملة مفضلة بسبب صداقتها معه خلال رئاسته بلدية لندن.
وبالنسبة للكثيرين، تضفي هذه الإخفاقات غير المسبوقة؛ الشرعية على دعوات العديد من المعارضة له بالاستقالة، حيث دعا زعيم حزب العمال، «جيرمي كوربين»، رئيس الوزراء إلى «إعادة النظر في عمله». وقال «جو سوينسون»، زعيم حزب الديمقراطيين الأحرار: «ليس من المناسب أن يكون جونسون رئيسا للوزراء بالنظر إلى أنه ضلل الملكة والدولة وأسكت ممثلي الشعب بشكل غير قانوني». وقالت «جوانا شيري»، من «الحزب الوطني الاسكتلندي»: «موقفه لا يمكن الدفاع عنه ويجب أن يتمتع بالشجاعة مرة واحدة لفعل الشيء اللائق والتقدم بالاستقالة».
وتشير استطلاعات الرأى إلى أن الناخبين يتفقون مع هذا الشعور أيضا. ووفقًا لاستطلاع أجرته شركة (يوجوف) للأبحاث، يرى 43% أنه يجب على رئيس الوزراء التنحي، مقارنة بـ39% مازالوا يرونه رئيسا للوزراء صالحا. وفي الواقع، هذا التصور مُنقسم بعمق على أسس أيديولوجية، حيث يقول 18% فقط من مؤيدي الخروج البريطاني إن عليه أن يستقيل، مقابل70% من الناخبين المؤيدين للاتحاد الأوروبي. ومع ذلك، فهذا يشير إلى أنه في حالة إجراء انتخابات عامة، فإنه سوف يناضل ضد اتهامه بعدم الكفاءة.
لكن بالنسبة الى بعض المحللين؛ فإن تأثير هذه الانتكاسات وغيرها على جونسون مبالغ فيها. وفي الواقع، فقد «صرح علانية بعدم نيته التقدم بالاستقالة»، كما يبدو أنه لا أحد يستطيع أو مُستعد لإجباره عليها. وعلى الرغم من إخفاقاته، إلا أنه من غير المرجح إقدام نوابه بالبرلمان على عزله في المستقبل القريب. يقول «أناند مينون»، في موقع «هافنجتون بوست»: «مع اقتراب موعد الانتخابات، قد لا يكون من مصلحة حزب المحافظين زعزعة استقرار رئيس الوزراء؛ نظرا الى خوفهم من إتاحة الفرصة لحزب العمال بالسيطرة على الحكومة». ويقول «جيمس فورسيث»، في صحيفة «ذا سبيكتاتور»، البريطانية، «ليس هناك الكثير من أعضاء حزب المحافظين ممن يرغب في رؤية «كوربين» داخل مبنى رئاسة مجلس الوزراء، لاسيما أنه ومساعديه لا يوجد بينهم وبين حزب الديمقراطيين الأحرار أي توافق في الآراء، كما أنه ليس من مصلحة كوربين السماح لأي شخص آخر بأن يصبح رئيسًا للوزراء»، وهو ما يعني أن الاتفاق على مرشح بعينه ليحل محل جونسون غير موجود، وهو بالمناسبة لا يشعر بالقلق من جهة المعارضة التي لم تُحرز أي تقدم في هذا الصدد في ضوء أن هناك الكثير من الانقسامات فيما بينهم للاتفاق على خطة. ويسعى «الديمقراطيون الأحرار» على سبيل المثال -رابع أكبر حزب برلماني- إلى وقف خروج بريطانيا من الاتحاد، ولا يؤيدون «كوربين». في الوقت الذي يريد «حزب العمال» فقط تعليق العملية حتى يتم صياغة صفقة جيدة. علاوة على ذلك، لا أحد يستطيع الجزم بتواصل التصويت بحجب الثقة عن الحكومة؛ وهو ما سيقود إلى إجراء انتخابات عامة. هذا يعني أنهم حتى الآن، قد فشلوا جميعًا، -برغم التصريحات- في تدشين طريقة فعالة يمكن من خلالها إخراج جونسون من السلطة.
ويشير العديد من المراقبين إلى أنه من غير المرجح أن يُسقطه الناخبون في الوقت الحالي. ولا تزال استطلاعات الرأي تضع المحافظين في مقدمة الأحزاب الأخرى؛ بهامش لا يقل عن10%. يقول «ديفيد هينج»، من مركز «الأبحاث الأوروبي للاقتصاد السياسي الدولي»، في «حال الدعوة إلى إجراء انتخابات عامة يستطيع المحافظون تعزيز موقفهم ولا يوجد مانع يحول دون ذلك». من منطلق أن جونسون، على الرغم من عدم شعبيته الواسعة، لا يزال محبوبًا من قبل مؤيدي الخروج من الاتحاد، بالمقارنة بكوربين الذي يفتقر الى الشعبية ويعاني الانقسام. حتى ان بعضهم رأى أن حكم المحكمة العليا، بدلاً من أن يقوض منصب رئيس الوزراء، يعزز من صورته العامة. تقول «كاتي بولز»، في صحيفة «الجارديان»: «في الانتخابات البرلمانية، سيطرح المحافظون حزبهم على أنه هو الذي يُنصت لما يُريده الناخبون، وتصوير حزب كوربين -إلى جانب الديمقراطيين الأحرار والقومي الاسكتلندي- على أنهم مُتجاهلون لإرادة الشعب، ومن هنا، يُمكن لحكم المحكمة العليا أن يلعب دروا في هذا الشأن». فضلا عن أن جونسون لا يزال هو رئيس الوزراء الملتزم بتنفيذ خروج بريطانيا من الاتحاد، وهي الورقة التي يُمكن لحزبه استخدامها لصالحه بين الجمهور الذي مازال مُتشككا في نجاح أي مشروع لتشكيل اتحادات بين الدول الأوروبية.
وكما هو الحال بالنسبة الى مستقبل «جونسون» السياسي، فإن قرار المحكمة العليا لن يؤثر كثيرا على تغيير مسار «البريكست»، وكما تصف صحيفة «الإندبندنت»: «بدلا من تجريد البرلمان من صلاحيات الرقابة على السلطة التنفيذية، فإن تعليق عمله جعل النواب أقوى مما كانوا عليه من مئات السنين». إن عودة البرلمان تعني أن مجلس العموم، الذي تتمتع فيه المعارضة بأغلبية، يمكنه محاسبة الحكومة على جميع الأعمال، بما في ذلك الخروج البريطاني من الاتحاد، ويُمكنه الوقوف أمام أي إجراء حكومي لمنع بريكست بدون صفقة، وانتقاد نهجها في هذا الصدد. يؤكد «سيفرين كاريل» في صحيفة «الجارديان»: «إن النتيجة التي توصلت إليها المحكمة هي دعم السيادة البرلمانية ووضع قيود على عمل السلطة التنفيذية والمساعدة في تمكين النواب».
ومع ذلك، وفي الوقت الذي ربما أعطى فيه الحكم تمكينا للبرلمان، نجد أنه لا توجد معارضة موحدة للاستفادة من هذه الديناميكية في السياسة البريطانية. وبدون وجود جبهة موحدة بين أحزاب مثل «العمل والديمقراطيين الأحرار والقومي الاسكتلندي والخضر وغيرها»؛ فإن كل ما يُمكن للبرلمان أن يفعله هو مواجهة خطط جونسون، واستبعاد الخروج بدون صفقة. وفي ظل عدم وجود أغلبية تؤيد طرق بديلة لبريكست، فإن هذا لن يتغير لمجرد عودة مجلس العموم للانعقاد.
غير أن الأهم من ذلك هو حقيقة أن جونسون لديه القدرة على تجاهل الجهود البرلمانية لوقف سعيه للحصول على خروج بريطانيا من الاتحاد. وكان مجلس العموم قد أقر تشريعات تقضي بتمديد الحكومة للمادة 50، التي يضمن بموجبها الخروج. وفي حالة عدم التوصل إلى اتفاق بحلول منتصف أكتوبر؛ ستكون خطوة جونسون قد رفضت بشكل قاطع.
ويبدو أن هناك من الآليات والسبل التي يمكن أن تجبره على الرضوخ لعدم الخروج بدون اتفاق، وذلك بالنظر إلى طبيعة ما يقره الدستور في هذا الشأن. يقول «ماثيو فليندرز»، في صحيفة «ذا كونفرزيشن»، الأمريكية: «ضعف الإطار الدستوري يجعل بريطانيا عرضة للوقوع بشكل خاص تحت سيطرة زعيم قوي». وفي الوقت الذي تتبنى فيه دول أخرى دستورًا مقننًا محتويًا على قواعد واضحة ودورًا واضحًا للقضاء وكبح السلطة التنفيذية، فإن الدستور البريطاني ينصاع وراء وثائق قانونية مختلفة واتفاقيات ومبادئ يمكن التلاعب بها وإساءة فهمها وتفسيرها بسهولة. وفي هذا السياق تقول، «جيل روتر»، من «معهد الحكومة»: «إن المحكمة العليا أطلقت تحذيرها للحكومة بعدم تعطيل أو تعليق عمل مجلس العموم خلال أي محاولات أخرى، وقامت بتغيير بعض الركائز الأساسية المتعلقة بتدابير الخروج، ولكن مع عدم وجود معارضة موحدة ودستور يتسم بالغموض والاختلاف في مواده، يبدو جونسون قادرًا تمامًا على اتباع نهجه المتشدد تجاه البريكست».
وبالنظر إلى أن جونسون ليس الرجل الذي قد يتلاعب بالقواعد، ولا سيما في ظل إيمانه بأفكاره الشعبوية، فمن المحتمل أن يتجاهل محاولات مجلس العموم للسعي لتمديد الموعد النهائي للخروج من الاتحاد بموجب ما تقتضيه المادة 50 في الدستور؛ وهنا قد يواجه عواقب تجاهله إذا ما تمت إحالة الأمر برمته إلى القضاء، وهو ما قد يستغرق وقتًا للبت فيها يكون وقتها قد انسحبت بريطانيا بالفعل وبدون أدنى اتفاق.
على العموم، على الرغم من ادعاءات العديد من المحللين أن قرار المحكمة العليا يمثل ضربة قاصمة لبوريس جونسون؛ فإن هذا الإجراء قد لا يشكل تهديدًا أكيدًا له، فمازال حزب المحافظين مواليا له، والمعارضة منقسمة وغير حاسمة بحيث لا تستطيع حتى أن تدعو إلى التصويت بحجب الثقة، كما يبدو أن الناخبين يفضلون حكومته عن أي بدائل أخرى. وفي حين قد يكون تجاهل جونسون أمر التمديد إجراء كافيًا لإسقاط حكومته، فإنه في خضم الاضطرابات التي نشبت طيلة أكثر من 3 أعوام، جراء جهود الخروج من الاتحاد الأوروبي، يبدو أنه لن يلحق به أدنى ضرر.