top of page
8/1/2019

تداعيات الانسحاب الأمريكي من سوريا على حلفائها

على خلاف توقعات العديد من المحللين والأكاديميين والمعلقين، صرَّح الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب في الثاني من يناير2019 بأن «إيران يمكنها أن تفعل ما يحلو لها في سوريا»، بعد انسحاب القوات الأمريكية من هناك في وقت لاحق من عام 2019. ويتناقض هذا التصريح مع نهج ترامب المعتاد تجاه إيران، والذي يؤكد تحدي نفوذها المتنامي في الشرق الأوسط، وبغض النظر عن دوافعه من الواضح أن قرار الانسحاب، سيكون له تداعيات على تشكيل نطاق الوجود الإيراني في سوريا مستقبلا، وكذلك على السياسات الإقليمية للولايات المتحدة وحلفائها في الشرق الأوسط. 
وكان الرئيس الأمريكي قد أعلن في ديسمبر 2018 أن القوات الأمريكية ستغادر سوريا في غضون 30 يومًا، معللا ذلك بهزيمة تنظيم داعش. وبالنسبة إلى العديد من المراقبين، لم يكن القرار مفاجئا، لعدة أسباب منها؛ أولا: أن ترامب يعتبر تدخل الولايات المتحدة في كل من سوريا والعراق وأفغانستان بمثابة استنزاف للموارد في ظل مبادئ أجندته «أمريكا أولا». ثانيا: أنه طالب بدخول قوات عربية إلى الشمال السوري وهو ما لم يتحقق. ثالثا: أن ما يقارب من 2300 جندي لن يغيروا المعادلة على الأرض، ولا سيما أن مهامهم لوجستية وليست قتالية. رابعا: أن واشنطن لديها قوات قريبة من المنطقة في كل من البحرين المتوسط والأحمر والخليج العربي وتركيا والعراق. خامسا: أن دعم واشنطن لقوات سوريا الديمقراطية، كان مؤقتًا للضغط على تركيا وعلى الجيشين السوري والروسي للحصول على تنازلات. سادسا: خلق فراغ في منطقة شمال وشرق سوريا بين العراق وتركيا لتهيئة مناخ سياسي لمحاثات سورية-سورية أو لنشر فوضى خلاقة تستغلها تركيا للتوغل في سوريا لمنع الأكراد من التوسع باتجاه أراضيها ومنع تشكيل كيان كردي وفق توافق أمريكي تركي. سابعا: اعتقاد ترامب بأن العقوبات التي فُرضت مؤخرًا على طهران سوف تجبرها على الانسحاب من سوريا في السنوات القادمة.
غير أنه، وفقا لمعظم المحللين، فإن جميع الأدلة تشير إلى أن إيران لا تسعى إلى الانسحاب من سوريا؛ بل إلى تعزيز وجودها العسكري والاقتصادي والسياسي والثقافي في البلاد، في ضوء الرغبة في تحقيق الأهداف الاستراتيجية والأيديولوجية التي تخدم نظامها.
وعلى مدى عقود، اعتبرت إيران، سوريا حليفا محوريا في المنطقة؛ بهدف تحقيق العديد من الأهداف، بما في ذلك «مقاومة التأثير الغربي، والتصدي للتطرف السني الإسلامي». وفي ظل تهديد نظام بشار الأسد منذ عام 2011. وسط اندلاع ثورات ما سُمي بالربيع العربي؛ سرعان ما عرضت إيران دعمًا لوجستيا وعسكريا للقضاء على المتمردين. وفي هذا الصدد، يقول «سام داغر»، في صحيفة «ذي أتلانتيك» الأمريكية، إن «إيران تريد إنهاء الحرب الأهلية السورية بما ييسر إعادة تأهيل الأسد بصفته الرئيس الشرعي الوحيد لسوريا موحدة، وتعترف بوجودها ونفوذها من بيروت إلى بغداد عبر دمشق».
وفي الواقع، لم تخدم هذه الخطوة، فقط مسألة الحفاظ على نظام الحكم في سوريا، ولكنها خدمت أيضًا عددًا من الأهداف الإيرانية المباشرة، منها مبادرتها لإقامة «الهلال الشيعي»، الذي وصفها العاهل الأردني، الملك عبدالله الثاني، لأول مرة في عام 2004. على أنها «محاولة من طهران لفرض سيطرتها من خلال الربط الإقليمي بين دول متشابهة من الناحية الدينية والأيديولوجية». وكما أوضح «كيهان برزكر»، من مركز «بيلفر للعلوم والشؤون الدولية»، فإن إيران تهدف إلى، أولا: «استقطاب الحشود الشيعية العربية في المنطقة»، ثانيًا: «خلق تكتل من الحكومات الشيعية المتعاطفة والفصائل السياسية من شأنه ترسيخ الأيديولوجية الإيرانية في كل من العراق وسوريا ولبنان ومنطقة الخليج العربي. ثالثًا: توسيع نفوذها وقوتها الإقليمية».
وبعد حصولها على ولاء «حزب الله» اللبناني، و«مليشيات الحشد الشعبي» العراقي، ونجاحها في دمج نفسها في سوريا؛ سمح ذلك لها بشكل أساسي بتحقيق طموحاتها فيما يخص ما يسمى بـ«الهلال الشيعي» فيما مكنها ذلك من تحقيق اثنين من أهم مآربها الاستراتيجية، الأول: زيادة قدرتها على تحدي إسرائيل، والثاني: السماح لها بتقويض الوجود الإقليمي لأمريكا في المنطقة. وعليه رأى «بورزو داراجاهي»، في مجلة «فورين بوليسي»؛ أن «وجود إيران في سوريا منحها سيطرة موسعة، فضلاً عن نقل موقع معركتها العدائية مع إسرائيل بالقرب من حدود منافستها». 
وفي سعيها لتحقيق هذه الأهداف، استثمرت إيران ما يقرب من 105 مليارات دولار في سوريا منذ عام 2011؛ لبناء شبكة من القواعد العسكرية المعروفة والسرية وتلك الخاصة بوكلائها، حيث عملت في سوريا من خلال 11 قاعدة، فضلا عن 9 قواعد أخرى لوكلائها من المليشيات الشيعية في جنوب حلب، وحمص، ودير الزور، بالإضافة إلى 15 قاعدة لحزب الله، معظمها على طول الحدود اللبنانية.
وبناء عليه، خلص معظم المحللين إلى أن حجم هذه القواعد سيضمن وجودا إيرانيا دائما داخل البلاد في المستقبل المنظور، ما يسمح بإبراز قوتها داخل الأراضي السورية، وخاصة في ظل نواياها الواضحة للبقاء هناك حتى بعد انتهاء الحرب الأهلية. وفي هذا الصدد، كتب «أليكس فاتانكا»، في مجلة «ناشيونال إنترست»، الأمريكية أن «انسحاب واشنطن من سوريا لن يؤدي إلا إلى مزيد من المغامرات الإيرانية فيما يخص خططها الإقليمية».
وفوق كل ذلك، فإن عملية سحب القوات الأمريكية من مواقعها في الجيب الشمالي الشرقي المتاخم لإسرائيل سيكون لها الأثر الأكبر على وجود إيران في سوريا. فضلا عن أن انسحاب تلك القوات يؤثر بشكل فعلي على وجود الولايات المتحدة، في حين سيخلق أيضًا فراغا إقليميا يُمَكِّن النظام السوري، وراعيه الإيراني، من فرض سيطرة أكبر على سوريا. ويؤكد «مايكل نايتس» من «معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى» على هذا بقوله: «ستتحرك كل من إيران وروسيا والأسد بسرعة للدخول إلى شرق سوريا، ولكن ليس للقضاء على تنظيم «داعش»، ولكن للسيطرة على حقول النفط ودفع «داعش» إلى العراق أو تركيا أو أجزاء أخرى من المنطقة، بحيث يظل مصدر تهديد». 
وعلى نطاق واسع، سيكون تأثير هذا النفوذ متناميا، على سوريا وعلى الولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين. وهنا يقول «رانج علاء الدين»، من مركز «بروكنجز»، «سيكون لدى إيران في سوريا قدرة على تشكيل المشهد السياسي نتيجة لانسحاب الدور الأمريكي، ما قد يقوي شوكتها للتأثير أكثر في دمشق، فضلاً عن عملية إعادة الإعمار التي قد تشترك فيها في مرحلة مقبلة». وهنا، يقول «رياض قهوجي» في صحيفة «واشنطن بوست»، إن «الوضع السوري يمكن وصفه الآن بأن حلما أضحى حقيقة بالنسبة إلى الإيرانيين»، حيث «لم تعد إيران تنظر إلى إدارة ترامب على أنها تشكل تهديدًا بعد الآن، وسوف تصبح إيران أكثر جرأة لأنها تعرف أن هذه الإدارة تنبح أكثر مما تعض».
بشكل جوهري، فإن سيطرة إيران العسكرية الفعلية على البلاد التي يعززها عدد كبير من القوات التي تعمل بالوكالة، تقوض السيادة السورية وتحد من مدى إمكانية إعادة تطبيع العلاقات مع الدول العربية. وبالنسبة إلى معظم الباحثين، فإن الرابح الوحيد من قرار ترامب سحب قواته؛ هي «إيران وروسيا وتركيا»؛ لأن الداعم الرئيسي لأكراد سوريا قد تخلى عنهم.
وعلى المستوى الإقليمي، يمثل الوجود الإيراني المستمر في سوريا تحديا جغرافيا لحلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وخاصة إسرائيل. وخلال الحرب الأهلية، كان وجود القوات الأمريكية في الجنوب السوري بمثابة حاجز بين الخصمين القديمين، طهران وتل أبيب، وسط الاشتباكات التي تسببت فيها الهجمات الإسرائيلية على القواعد الإيرانية داخل سوريا، واختراقات الطائرات الإيرانية من دون طيار إلى إسرائيل.
ومع مغادرة القوات الأمريكية، وانسحاب واشنطن على ما يبدو من جهود الحد من النشاط الإيراني في سوريا، فمن المحتمل أن تستخدم إيران قربها الجديد من إسرائيل لتوسيع نفوذها أو تهديداتها. وفي هذا الشأن يقول «عوفر زالزبيرج»، من «مجموعة الأزمات الدولية»، إن «لدى إسرائيل إحساسا الآن أنها وحدها بصدد تولي مهمة إعادة تشكيل الوجود العسكري الإيراني في سوريا»، ما يعني أن أي من الجانبين قد يشرع في تصعيد التوتر نحو صراع مفتوح خلال الأشهر القادمة. ويتفق كل من «ريويل مارك غريشت»، و«مارك دوبويتز» من «مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات» مع هذه النقطة؛ حيث ذكرا أن «انسحاب ترامب قد أضعف سياسته المناهضة لإيران، الأمر الذي سيؤدي إلى إرباك وإغضاب حلفاء مثل إسرائيل التي تعتقد أنه يمكنها الاعتماد على الإدارة لدعم عقيدتها المعادية لإيران».
وهناك حليف آخر سيتأثر بانسحاب واشنطن من سوريا، وهي دول الخليج. وفي الغالب، ينبع ذلك من حالة القوة الممنوحة لحزب الله من قبل الوجود الإيراني في سوريا وهو ما قد يسمح له بتوسيع وتدريب قواته التي يمكن نشرها يومًا ما لتهديد دول الخليج إذا لزم الأمر.
ومع ذلك، فإن الولايات المتحدة لا تريد ترك الساحة من دون تمثيل، والذي هو هنا في هذه الحالة التقارب «الأمريكي-التركي» على حساب الجانب الروسي، حيث تريد واشنطن الضغط بورقة الأكراد، كما تفعل ذلك في كل من العراق وإيران. 
وعلى الرغم من أن ترامب ربما لم يكن ينوي السماح بحدوث كل تلك التداعيات مع تسهيل انسحاب قواته بشكل مباشر من سوريا؛ فإن هذا الانسحاب يحمل إشارة إلى كونه ما عاد لواشنطن تفكير في تغيير الحكم في سوريا، كما أنها لم تعد مهتمة ببقاء أو رحيل القوات الإيرانية طالما أن إسرائيل تقوم بمهمة مراقبة توزع تلك القوات والتعامل معها؛ لكن ما يخشاه المراقبون هو أن تقوم إسرائيل بعمليات عسكرية ضد إيران في سوريا أو إلى حد ما عملية عسكرية محدودة على مواقع نووية إيرانية، كما حدث بقصف إسرائيل لمفاعل دير الزور السوري ومفاعل تموز في العراق.
على العموم، إن صمت الإدارة الأمريكية على ما تمارسه إيران داخل سوريا، يثبت عدم الاتساق والتوافق في سياستها الخارجية، التي يفترض أنها تركز على الحد من النفوذ الإيراني، ويعكس تحولاً في نهجها تجاه سوريا والذي من المرجح أن يكون تحولا في الديناميكيات السياسية في المنطقة برمتها. وهذا السيناريو له آثار متعددة، والتي يمكن اعتبارها ذات تداعيات سلبية على الاستقرار الإقليمي في الشرق الأوسط. 

{ انتهى  }
bottom of page