top of page

مقالات رئيس المركز 

د. عمر الحسن

Picture No.3.JPG
2019/05/28

المجالس الرمضانية.. حوار وطني وتواصل إنساني

دائما ما يكون لأيام وليالي رمضان في بلادنا طابع خاص وطعم يميزها عن غيرها، ما يجعلنا نحِنّ إليها طوال العام بما تحمله من الذكريات التي لا تبارح الذاكرة، ومهما مرت السنوات، تظل طقوسها شاهدة على أجمل لحظات العمر، مع النفس والروح والعائلة والأصدقاء والأحبة.  
وقد تعودت في شهر رمضان المبارك من كل عام مغادرة لندن؛ لقضائه بين الأهل والأصدقاء في عمَّان والبحرين والقاهرة. قضيت بدايات الشهر في عمّان، حيث الأقرباء والأصدقاء والأرحام، ومنها ذهبت إلى البحرين الحبيبة، وقضيت فيها عشرة أيام هي من أجمل وأحلى الأيام، ففيها تجد المودة والمحبة والأصالة والانتماء للوطن وللأمة.
وكعادتي قمت بزيارة بعض المجالس الرمضانية لتقديم التهنئة بهذه المناسبة المباركة، ودعيت إلى أكثر من غبقة رمضانية "سحور"، أذكر منها دعوة معالي السفير عزام الصباح، عميد مجلس السفراء وسفير دولة الكويت، التي أقامها على شرف رئيس مجلس النواب فوزية زينل، وأخرى من الوجيه جواد الحواج، رجل الأعمال المعروف، على شرف مطرب العرب محمد عبده، حضرها عدد من الشيوخ والسفراء ورجال الأعمال والإعلام من البحرين والسعودية، ودعوة إفطار دعا إليها السفير الفلسطيني، طه عبد القادر، على شرف اللواء جبريل الرجوب، أمين سر اللجنة التنفيذية لحركة فتح، بحضور السفراء وأعضاء من الجالية الفلسطينية. وآخرها غبقة الموسم، أقامها د. ظافر العمران، وكيل وزارة الخارجية السابق، دعا إليها السفراء المعتمدين وزوجاتهم، ولفيفًا من وجهاء البحرين، من تجار ورجال أعمال وأساتذة جامعات وإعلاميين، وأعضاء من مجلسي النواب والشورى.
وقبل الحديث عن المجالس الرمضانية فى البحرين، لابد من الإشارة إلى أنه في وقتنا المعاصر اختلفت أشكال التواصل بين الحاكم والمحكوم عما كان سائدًا في الماضي، حيث أصبح هناك الآن شكل جديد للتواصل، من خلال المجالس النيابية أو من خلال الدواوين والمكاتب الحكومية.. بيد أن دول الخليج ومنها البحرين لها نظام خاص بها للتواصل بين المواطنين والقيادة السياسية، فإلى جانب المجالس التشريعية النيابية والشورية، هناك المجالس الأسبوعية التي تعقد على مدار العام، ويحضرها المواطنون وكبار المسؤولين تناقش فيها القضايا الوطنية بأنواعها المختلفة، ويتم خلالها تقديم الحلول لكثير من الأمور، وفيها تجد الصغير والكبير والوزير والمسؤول والتاجر والرياضي والمهندس والطالب والإعلامي والمحامي والطبيب، وهو النهج الذي أرسى دعائمه أمير الأمراء الراحل الشيخ "عيسى بن سلمان آل خليفة" -طيّب الله ثراه- الذي كان يجمع المواطنين في مجلسه الأسبوعي؛ للاطمئنان على أحوالهم، والتعرف على احتياجاتهم ويتبادل معهم وجهات النظر في كل ما يتعلق بمصالح الوطن والمواطن، إيمانا من سموه أنها ميراث الأجداد للأبناء، فهي تُعلّم معنى التواضع واحترام المهن والطبقات.
وبجانب المجالس الأسبوعية، هناك المجالس الرمضانية التي تعد أيضًا من السمات المميزة لأهل البحرين والخليج بشكل عام، والتي تستقطب أبناء المجتمع والمقيمين، وتقوم القيادة السياسية بزيارتها، وتتسم بالتنوع والشمول، فبعضها اقتصادي أو سياسي أو اجتماعي، كما أن هناك مجالس يقيمها المسؤولون (شيوخ ووزراء ونواب)، يستقبلون فيها المواطنين بشتى انتماءاتهم. 
وتحظى المجالس الرمضانية بأهمية بصفة خاصة للاهتمام الذي تلقاه من جانب القيادة السياسية، والذي يتجلى في اللقاءات التي يجريها الملك مع كافة أطياف الشعب والزيارات التي يقوم بها رئيس الوزراء وولي العهد، وكذلك نواب رئيس الوزراء لهذه المجالس، وحرصهم على الالتقاء بأصحابها، بما يدل دلالة واضحة على تشجيعهم لها كأحد الموروثات الثقافية والاجتماعية العريقة للآباء والأجداد، وحرصهم على أن تظل رمزًا لقيم المواطنة الصالحة، والتلاحم بين المواطنين، ولدورها المهم في تعريف المجتمع والرأي العام الداخلي والخارجي، بما تتخذه المملكة من إجراءات وخطوات في مسيرتها الإصلاحية، كأداة مهمة في رصد الحراك السياسي والاجتماعي والاقتصادي من خلال ما يصدر عن كبار المسؤولين من تصريحات خلال زياراتهم لها. 
وتزداد أهميتها في ظل اجتذابها لكافة شرائح المجتمع البحريني؛ سياسية واقتصادية واجتماعية وأكاديمية وإعلامية، ما يجعلها بمنزلة برلمانات مفتوحة على الأفكار والاقتراحات والتصوّرات المختلفة، ودورها في تحقيق الترابط الاجتماعي بين المواطنين ونقل العادات والقيم بين الأجيال المختلفة، خاصة أنه يحضرها كل الأعمار؛ ما يجعلها تؤدي دورًا يماثل دور المؤسسات التعليمية، فهي بمثابة مدارس لتعلم القيم والفضائل والاحترام.
ولا يقتصر حضور المجالس الرمضانية أو تنظيمها على المواطنين فقط، وإنما يحضرها أيضًا المقيمون والسفراء المعتمدون في المملكة، لذا فهي عادة ما تشهد نقاشات مهمة تشغل بقضايا وأحداث محلية وإقليمية ودولية، كما أنها لم تعد تقتصر على الرجال، وإنما أصبحت هناك مجالس خاصة بالنساء تناقش مختلف القضايا العامة وتحضرها عضوات مجلسي الشورى والنواب وسيدات أعمال وغيرها. يضاف إلى ذلك أن هذه المجالس تحظى بخصوصية تميزها عن وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة، من خلال اعتمادها على التواصل المباشر بين الأفراد، الأمر الذي يجعلها أكثر تأثيرًا في تعزيز التقارب والحوار فيما بينهم.
وإدراكا من القيادة لأهمية المجالس الرمضانية باعتبارها تعبّر عن نبض المجتمع البحريني وتعكس قضاياه ومشكلاته وهمومه؛ يحرص الملك على استقبال أصحابها ووجوه وأعيان جميع المحافظات، وقد أكد خلال استقبالهم هذا العام على أن قوة النسيج الوطني البحريني يمثل خط الدفاع الأول للمملكة، وسبيل تماسك جبهتها الداخلية، ودرعها لصد جميع أشكال العنف والتطرف، وإحباط أي محاولات لإثارة الفتن لشق الصف، والناجمة عن سوء استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، ونشر الشائعات، وهو ما واجهته المملكة بأجهزتها الأمنية المختصة. 
ومن خلالها أيضا وجه بضرورة تأهيل الشباب وممارسة أدوارهم في خدمة وطنهم، وتنمية مهاراتهم الفردية، وتوعيتهم بالاستخدام الأمثل للتكنولوجيا الحديثة، بما يعود بالنفع عليهم وعلى المجتمع، ويعزز الأمن والسلم الأهليين، معبرا عن رضاه عن أداء أجهزة وزارة الداخلية في مواجهة أي تجاوز أو مخالفة للأنظمة والقوانين لتنعم المملكة بالأمن والأمان، وهو ما تشهده عموم محافظات البحرين. وفي هذه الأثناء أكد جلالته دعم المملكة لجهود خادم الحرمين الشريفين الملك، "سلمان بن عبدالعزيز"، ومبادراته، ودعوته لحضور اجتماعات مكة المكرمة، التي ستجمع شمل العرب، وتعلي من شأنهم.
وفي إطار هذا التوجه حرص رئيس الوزراء خلال استقباله عددًا من الوجهاء والمسؤولين، على التأكيد على دعم البحرين وتضامنها مع المملكة العربية السعودية الشقيقة، فيما تتبناه من أجل تعزيز التعاون الخليجي والتضامن العربي والتكافل الإسلامي، باعتبارها المرتكز الأقوى والأجدر الذي يمثل العمق التاريخي والحضاري إنسانيًا وإسلاميًا وعربيًا.. داعيا العرب والمسلمين أن يضعوا ثقلهم خلفها في مواجهة التطورات المتسارعة والمستجدات والتحديات الخطيرة التي تشهدها المنطقة، والتي تتطلب من الجميع تعزيز التعاون والتنسيق المشترك.. متمنيا التوفيق في أن تخرج القمم؛ الخليجية والعربية والإسلامية بالقرارات التي تعزز مصالح هذه الدول وشعوبها.
وبمناسبة الذكرى الثامنة والثلاثين لتأسيس مجلس التعاون الخليجي، أشاد سموه بدور المجلس ككيان خليجي قام من أجل تعزيز أمن واستقرار دوله ونماء وتطور شعوبه، مؤكدا أهمية صيانة هذا الكيان بالحفاظ على مكتسباته ومنجزاته ليستمر بفضل قادته كيانا متينا متماسكا ورمزا معبرا عن اتفاق مصالح دوله وشعوبه حاضرا ومستقبلاً، مشيدا بمنجزات المجلس التي تحققت منذ تأسيسه.
وخلال هذه اللقاءات أكد أيضا أن البحرين تتمتع بكل مقومات الأمن والأمان والاستقرار؛ مما يعتبر حافزًا في جذب المزيد من الاستثمارات ومضاعفة عوائده في الاقتصاد الوطني.
ومن جانبه، زار ولي العهد منذ بداية الشهر وحتى تاريخه (54) مجلسًا، تناول خلالها الوضع الاقتصادي في المملكة، ومقدرتها على تجاوز مختلف التحديات، وأن ما يتم العمل عليه اليوم من أجل التنمية المنشودة، مستمد مما تم التوافق عليه في ميثاق العمل الوطني، ومبادئ الرؤية الاقتصادية للبحرين 2030، والمبادرات والخطط المختلفة التي تم استحداثها من أجل رفد عملية التطوير والتحديث. وفي هذا الإطار، أكد على دور القطاع الخاص باعتباره المحرك الأساسي للنمو، وتحدث عن الصناعة كأساس للتطور الاقتصادي، وإلى استمرارية العمل نحو دعم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة بما يعود بالنفع على المواطنين، وتعظيم الاستفادة من كافة الموارد والإمكانات المتاحة. 
وفي هذه المجالس أثار ولي العهد العديد من الموضوعات المرتبطة بتحقيق التنمية، مثل اتجاه المملكة لسياسة الخصخصة لتحسين وضعها الاقتصادي، وتم التأكيد على عدم تطبيق تلك السياسة في الوقت الحالى؛ لاحتياجها إلى دراسات مسبقة عميقة ومتأنية من قبل المتخصصين. وفيما يتعلق بسياسة "البحرنة" كأساس لقطاع الأعمال، أكد أنه لا يمكن الاستغناء التام عن العمالة الأجنبية في الوقت الحالي، مشيرا إلى أن كثيرا من الدول التي أعلنت مرارًا أنها ستتخلص من الأجانب، مثل أمريكا وفرنسا وإنجلترا والمكسيك؛ تجد نفسها مضطرة إلى اللجوء إليها لأنها رخيصة ومتوافرة.
وتحدث عن منجزات السلطة التشريعية على المستويات المختلفة، والتي جاءت بفضل تعاون أعضاء مجلسي الشورى والنواب خلال الفصول التشريعية المتعاقبة، والذي أسهم في إقرار العديد من التشريعات والقوانين، بما يخدم المسيرة التنموية الشاملة
ومن خلالها أيضا، أشار إلى ما يجمع المملكة من مواقف مشرفة مع أشقائها في السعودية، والإمارات، والكويت، والذين طالما دعموا جهود التنمية في البحرين، وهي المواقف التي تعكس عمق الارتباط بين الأشقاء ويدعم التكامل المشترك، وأن ميزة البحرين أنها ترتبط بعلاقات قوية مع الدول العربية العريقة، مثل مصر، كما تعتز بالأزهر الشريف كواجهة ومنبر إسلامي عالمي، تستلهم منه سماحة الدين الإسلامي الحنيف، ما يزيدها رسوخًا في تكريس الوسطية، والتسامح، والتعددية. 
ومن الاستعراض السابق لمحاور اهتمام القيادة فيما يحضرانه من مجالس رمضانية يتضح كيف أنها تتسم بما يسمى "شمولية الأهداف"، فلا يقتصر هدفها على مجرد التواصل مع المواطنين، بل يمتد إلى الاطمئنان على مدى وصول خدمات الدولة إليهم، وفي نفس الوقت نقل هموم وقضايا المواطنين التي تطرح خلال المناقشات إلى المسؤولين في البلاد، والأكثر من ذلك جعل المواطن شريكًا أساسيًّا في النقاش حولها ليكون عنصرًا إيجابيًّا، وله دور في رسم سياسات وطنه.

على العموم، تعد المجالس الرمضانية نوعا جديدا من الديمقراطية يلتقي فيه المواطن مع قيادته بعيدًا عن الرسميات والقيود، فيعرض رؤاه ومشاكله ومطالبه بصورة مباشرة ودون وسيط، وهو نموذج تنفرد به البحرين وشقيقاتها الخليجيات، مستعيدة بذلك تراث الأجداد ومتجاوزة الكثير من النماذج الغربية، وهي علاقة فلسفتها أن الجميع أسرة واحدة، ومحور اهتمامهم واحد، وهو النهوض بالبحرين، والحفاظ عليها، وعلى لحمة شعبها.

{ انتهى  }
bottom of page