مقالات رئيس المركز
د. عمر الحسن

10/3/2021
العلاقات السعودية الأمريكية .. ومفهوم الشراكة الاستراتيجية
شكّل مقتل الصحفي السعودي «جمال خاشقجي» يوم 2 أكتوبر عام 2018 ضغطا هائلاً على الشراكة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة والسعودية، وخاصة بعد سماح الرئيس الأمريكي «جو بايدن» بنشر تقرير مكتب مدير المخابرات الوطنية يوم 25 فبراير 2021 ورفع السرية عنه. وهو التقرير الذي رفض الرئيس «دونالد ترامب» نشره لاقتناعه بأن الاتهامات التي تضمنها تفتقد إلى دليل مقنع أو قاطع.
وبعد نشر التقرير، اتخذت إدارة «بايدن» إجراءات ضد السعودية اعتبرت من قبل بعض المعلقين في الغرب «غير كافية»، وأنه كان عليها اتخاذ المزيد من الإجراءات، وأن ما قامت به هو نفس ما قامت به الإدارة السابقة، وهو إصدار عقوبات ضد أفراد سعوديين مذكورين في التقرير وحظر سفرهم إلى الولايات المتحدة، وأضافت السماح للسعودية فقط بشراء أسلحة دفاعية وليست هجومية وتجميد الأصول المفروضة على الوحدات شبه العسكرية التي يُزعم أنها شاركت في عملية القتل، وفرض قيود على تأشيرات ضد 76 مواطنا سعوديا متهمين بمضايقة الصحفيين والنشطاء، والحد من الدعم الأمريكي للحرب التي تقودها السعودية في اليمن، لكنها وعدت في الوقت ذاته بمساعدتها على تعزيز دفاعاتها ضد المتمردين الحوثيين المدعومين من إيران البلد المهدد للسعودية ولدول الخليج الأخرى الحليفة لواشنطن.
من جانبها، رفضت «الخارجية السعودية» بشدة الاتهامات التي وردت بالتقرير في بيان لها صدر في اليوم التالي لنشر التقرير أي يوم 26 فبراير 2021، ورفضت أيضًا كل ما من شأنه المساس بقيادتها وسيادتها واستقلال قضائها، مشيرة إلى أن التقرير تضمن استنتاجات مسيئة وغير صحيحة لا يمكن قبولها، وأكدت أن الجريمة ارتُكبت من قبل عناصر مارقة، وأنها انتهاك صارخ لقوانين المملكة وقيمها قامت بها مجموعة تجاوزت كل الأنظمة وخالفت صلاحيات الأجهزة التي كانوا يعملون بها، وقد تم اتخاذ الإجراءات القضائية اللازمة وتم الحكم عليهم. وفي بيانها، ذكّرت الوزارة بالشراكة القوية والمتينة بين البلدين خلال العقود الثمانية الماضية على أسس قوامها الاحترام المتبادل، وأن المؤسسات في البلدين تعمل على تعزيز وتكثيف التعاون بينهما لتحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة والعالم.
وبالعودة إلى التقرير نجد أن هناك عديدا من المعلقين المحايدين اعتبروا ما جاء فيه عبارة عن «استنتاجات خاطئة»، وأنه بمثابة بيان يُعتقد أنه جمع معلومات استخبارية سرية، متضمنا أسماء 21 مواطنا سعوديا تعتقد واشنطن أنهم شاركوا بشكل مباشر أو غير مباشر في العملية، كما أنه لم يُقدم أي توصيات للسياسة الأمريكية المستقبلية تجاه السعودية، ولم يُقدم أي اقتراحات بشأن الإجراءات التي يجب اتخاذها ضد الأفراد المذكورين في التقرير، حيث استخدم لغة «ليست اتهامية» بشكل صريح عند الإشارة إلى الحكومة السعودية ومشاركة أفراد محددين.
وفي اليوم التالي لإصدار التقرير وردا على الضغوط الداخلية لاتخاذ موقف من السعودية أكد وزير الخارجية الأمريكية «أنتوني بلينكن» للصحفيين أن «العلاقة مع المملكة العربية السعودية أكبر من أي فرد، وأن الإجراءات الأمريكية التي تم اتخاذها هي في الحقيقة ليست لقطع العلاقة، ولكن لإعادة تقويمها، لتكون أكثر انسجامًا مع مصالحنا وقيمنا»، وأن علينا اتباع نهج حذر ومدروس فيما يتعلق بالحفاظ على الشراكة الاستراتيجية الأمريكية السعودية. وهو ما يتوافق مع الاستنتاج الذي توصلت إليه النقاشات داخل البيت الأبيض، من أنه ليس في مصلحة الولايات المتحدة ولا السعودية إنهاء شراكتهما الاستراتيجية الإقليمية، وبدلاً من ذلك فإن «إعادة التقييم» المرغوبة ستناسب بشكل أفضل وجهة نظر واشنطن الدولية، وأن «الإدارة الأمريكية لا تستطيع المخاطرة بعلاقاتها مع المملكة، التي تعتمد عليها للمساعدة في احتواء إيران، ومواجهة الجماعات الإرهابية. ولهذا؛ على إدارة بايدن بدلا من ذلك اختيار ما يخفف من التأثير السلبي على المصالح الأمريكية الطويلة الأجل. لكن السؤال المثار الآن إلى أين تتجه العلاقات بين واشنطن والرياض بعد إعادة ضبط وتقييم العلاقات بين البلدين؟».
إن السيناريوهات والاحتمالات المتوقع أن تنفذها إدارة بايدن كجزء من جهود إعادة ضبط وتقويم سياستها في الشرق الأوسط ورغبتها في إعادة تشكيل علاقتها مع الرياض هي الابتعاد عن مواقف نظيرتها السابقة، لكن الواقع يوضح أن السعودية ستظل الشريك الاستراتيجي الأول للولايات المتحدة في الخليج، ومن ثم ستظل أيضًا أحد أكبر حلفائها في منطقة الشرق الأوسط ككل.
ويمكن الجزم بذلك الأمر من خلال التأكيد المستمر لمسؤولي إدارة بايدن منذ صدور التقرير أن هذا هو الحال وسيظل كذلك دائمًا. علاوة على ذلك، فإن حرص بايدن على استمرار العلاقة مع الرياض قد بدا واضحًا من خلال اتصاله بالملك سلمان قبل نشر التقرير، وهو ما يظهر أن الإدارة الأمريكية لا تريد تغيير مسار هذه العلاقة بل تتواءم مع مهامها الدولية بشكل أفضل من دون الإضرار بها. وأشارت «جوزي إنسور»، في صحيفة «دايلي تليجراف»، إلى أن «العلاقة الأمريكية السعودية قد تظهر أنها متضررة بعض الشيء، لكنها ستظل بقدر لا بأس به»، وبالمثل، قال «بِن هوبارد»، في صحيفة «نيويورك تايمز»، إنه على الرغم من الخيارات المتعددة المتاحة أمام بايدن فإنه فضل الحفاظ على العلاقة مع السعودية حرصًا على المصالح الأمريكية. وللمضي قدمًا في هذا الأمر، أوضح «سايمون هندرسون»، من «معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى»، أن «إدارة بايدن قد تضطر سريعًا إلى تغيير مسار سياستها من إعادة الضبط والتقويم إلى التكيف مع الواقع».
وبالنسبة إلى الجانب السعودي، فإن إعادة تأكيد واشنطن علاقاتها الأمنية والسياسية مع الرياض مرحب بها وكانت متوقعة، فهي تعترف بوضوح بأهميتها في حماية مصالحها في المنطقة. وكما أوضح «مارتن تشولوف»، في صحيفة «الجارديان»، فإن قرار واشنطن هذا هو إقرار بمدى فعالية وتأثير الرياض باعتبارها لاعبا رئيسيا في استراتيجية الولايات المتحدة التي تعتمدها تجاه الشرق الأوسط، بالإضافة إلى ذلك، كتب «برنارد هيكل»، من جامعة «برينستون»، أنه في حين أن الرياض «تحتاج إلى إرسال إشارة إلى الولايات المتحدة بأن لديها خيارات أخرى بديلة كالصين وموسكو وغيرهما، فإن الحقيقة هي أنه لا يمكن لأحد أن يحل محل الولايات المتحدة بالنسبة إلى المملكة العربية السعودية في الوقت الراهن».
وفي الواقع، يدرك صانعو القرار في واشنطن مكانة المملكة عربيا وإسلاميا، ودورها الحيوي في تعزيز الأمن والاستقرار والاقتصاد في المنطقة والعالم، منها التعاون الأمني والاستخباراتي؛ باعتبار أن الرياض عنصر أساسي لتحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة ورأس حربة في التصدي للقوى الراديكالية والإرهابية، كما أنها على المستوى الاقتصادي والاستثماري تتصدر قائمة شركائها التجاريين، فضلا عن دورها المحوري في استقرار أسواق النفط العالمية إلى جانب مكانتها الدينية والروحية، ومن ثم، لن تتم المخاطرة بالقيام بأي عمل يضر بمصالح وعلاقات البلدين التاريخية.
ورغم أن هذا الموقف الذي اتخذه بايدن لم يلق ترحيبًا أو استحسانًا من بعض المعلقين والمحللين في وسائل الإعلام الغربية، حيث تم وصفه بأنه ليس كافيًا، «وغير فعّال»، وأنه «نهج براجماتي»، فقد كانت هناك ردود متوازنة، حيث قدمت «كيرستن فونتروز»، من «المجلس الأطلسي»، وصفًا أكثر واقعية لخيارات السياسة الأمريكية، بحجة أن «العديد من هؤلاء الموجودين داخل الإدارة الأمريكية وبين الشعب الأمريكي يريدون من بايدن الرد على السعودية؛ بمجموعة واسعة من الخيارات المتاحة.. بعضها يحمل رد فعل سلبيا محتملا أكثر من الآخر عند تقييم نطاق الخيارات».
على العموم، إذا كان رد فعل بايدن تجاه الرياض قد أزعج بعض أتباع حزبه ومؤيديه، فإنه في الوقت ذاته قد عكس نهجًا واقعيا ضروريا من البيت الأبيض الذي يدرك أهمية الشراكة السياسية والاقتصادية والأمنية معها في مجالات عدة، وخاصة في مكافحة الإرهاب والتصدي لإيران، وهو ما استفادت منه واشنطن طوال سنوات عديدة؛ ليؤكد ما قاله «هوبارد» من أن المصالح الاستراتيجية الأمريكية تفوقت في النهاية لتكون أكثر أهمية من الخطابات والتصريحات السابقة التي أطلقها بايدن تجاه حلفاء واشنطن في الشرق الأوسط. لذلك ليس من المفاجئ أن العديد من خبراء السياسة الخارجية الغربيين قد دعموا تبني هذا النهج، منهم «دينيس روس»، الذي أشاد بمحاولات الرئيس الأمريكي المضنية «خلق نوع من الموازنة والجمع بين حماية قيم الولايات المتحدة ومصالحها في آن واحد».
ويبقى أن القاسم المشترك في كتابات المعلقين والخبراء بشؤون الشرق الأوسط هو أن بايدن تبنى نهجًا «محسوبًا» حافظ فيه على التحالف الأمريكي السعودي الضروري لكلا الطرفين. وعلى الرغم من أن إصلاح وإعادة العلاقات المتضررة إلى سابق عهدها قد يستغرق بعض الوقت فإنها ستتواصل وخاصة بين المسؤولين الحكوميين الأمريكيين وولي العهد سمو الأمير محمد بن سلمان. وتظل الحقيقة كما كتبها «ميلر»، أن بايدن «لديه العديد من القضايا الداخلية الملحة عليه الاهتمام بها، وأنه لا يزال يركز بشكل أساسي على مكافحة أسوأ أزمة صحية يشهدها العالم في تاريخه منذ قرن مضى، فضلا عن جهوده لإصلاح الاقتصاد المتهاوي، وأنه سيتحاشى أي أزمات أو قضايا خارجية قد تعرقل أو تعيق القيام بالإصلاحات الداخلية الأهم له ولحزبه».