مقالات رئيس المركز
د. عمر الحسن

10/7/2020
تسريبات خيمة القذافي
في أكتوبر 1981 أي في نفس العام الذي أُعلن فيه إنشاء مجلس التعاون الخليجي؛ عُقد المؤتمر الأول لوزراء الإعلام لدول المجلس في الدوحة؛ وبهذه المناسبة وجه وزير الإعلام القطري -رئيس ديوان الأمير المرحوم خليفة بن حمد آل ثاني- الدكتور عيسى الكواري دعوة لعدد من مجالس السفراء العرب في العواصم الأجنبية المهمة وهي (لندن - واشنطن - نيويورك - باريس – طوكيو)، بحيث تشمل الدعوة رئيس بعثة جامعة الدول العربية مع سفير يمثل السفراء العرب.. وتم ذلك بالتشاور بين وزير الإعلام القطري، وأمين عام جامعة الدول العربية –آنذاك- الشاذلي القليبي رحمه الله.
توافدت وفود مجالس السفراء إلى الدوحة؛ من واشنطن ونيويورك، عبدالله صلاح، مندوب الأردن الدائم لدى الأمم المتحدة، ومعه الدكتور كلوفيس مقصود، رئيس بعثتي جامعة الدول العربية في نيويورك وواشنطن، ومن باريس السفير السوداني إبراهيم بكري، ومعه إبراهيم الصوص السفير الفلسطيني، ومن لندن السفير السوري عدنان عمران، ومعه السفير الدكتور عمر الحسن رئيس بعثة جامعة الدول العربية في لندن ودبلن، ومن طوكيو السفير الأردني عامر شموط، ومعه رئيس بعثة جامعة الدول العربية خليل الأزهري.
كان أمير قطر الراحل كريما في عطائه لقضايا العرب والعروبة، وكان رئيس ديوانه ووزير إعلامه عيسى الكواري، يتحلى بنفس الروح والتوجه ولا يألو جهدا في دعم قضايا الأمة والدفاع عنها.. دعا الأمير المجموعة العربية القادمة من العواصم الأجنبية على غداء عمل في قصره الذي كان يطل على معظم أحياء الدوحة.. استقبلنا على مدخل القصر بكل حفاوة وبشاشة وترحاب نالت ارتياح الجميع، وكان إلى جانبه ولي عهده حمد بن خليفة آل ثاني الأمير السابق، الذي لم يُظهر ما أظهره والده من ترحيب بالوفد الضيف.
كان اللقاء مع الأمير الراحل رائعا.. وسألنا عما تحتاج إليه مجالس السفراء للمساعدة في أداء عملها، وقال إن قطر على استعداد لتغطية أي نفقات أو كلفة لأنشطتها الإعلامية والسياسية.. وشرحنا لسموه طبيعة عملنا والتحديات التي تواجهنا واحتياجاتنا. وقدمت لسموه الخطة الإعلامية المعتمدة من مجلس السفراء العرب في لندن ودبلن والكلفة التقديرية (65 ألف جنيه استرليني).. بعدها وجه الأمير، الدكتور عيسى الكواري، بتحويل المبلغ إلى مجلس السفراء العرب عن طريق سفير قطر -آنذاك- شريدة الكعبي، أما باقي المكاتب فلم تكن لديها خطط معتمدة.
في هذه الأثناء، لاحظ الجميع أن ولي العهد لم يشارك في المناقشات ولا في الحديث وظل صامتًا لا يتكلم حتى أثناء مأدبة الغداء؛ الأمر الذي أشعر الجميع أنه غير راضٍ عن المناقشات الدائرة.. بعد عودتنا إلى الفندق اجتمع الوفد لتقييم اللقاء مع الأمير، وكان الإجماع على أننا أمام أمير عربي نفخر به وبمواقفه هو ووزير إعلامه، الذي يستحق الإشادة والتقدير والاحترام؛ ولكن ظل موقف ولي العهد القطري أنذاك يثير علامات استفهام متعددة.
وأود أن أشير هنا إلى مكرُمة أخرى سابقة من مكارم الأمير خليفة آل ثاني -رحمه الله- في دعم العمل العربي المشترك، وهي أن قطر كانت تتبرع سنويًا بنصف مليون دولار للمنظمة العربية الأوروبية (ANAF) «Arab- non Arab Foundation»، ومقرها جنيف، والتي كانت مسؤولة عن تمويل نشاط 79 جمعية صداقة عربية -أوروبية. وكان المرحوم الشيخ زايد يتبرع أيضًا بنفس المبلغ، والمرحوم الشيخ جابر الأحمد الصباح بمبلغ 100 ألف دينار كويتي، والمرحوم الملك فهد بن عبدالعزيز بمبلغ مليون دولار. وقد تكرم الشيخ خليفة آل ثاني بقبول طلب من مجلس إدارة المؤسسة بتسمية عيسى الكواري عضوًا في مجلس الإدارة إلى جانب الأعضاء العرب، وهم السفير اللبناني نديم دمشقيه، والسفير عمر الحسن، ممثل الأمين العام لجامعة الدول العربية، وهو ما يبين أن دول الخليج ومنها قطر كانت الداعم الأساسي لقضايا العمل العربي المشترك على الساحة الدولية من خلال علاقات الاحترام التي كانت تحظى بها، والدعم المالي الذي كانت تقدمه لأنشطة سفرائها في عواصم العالم وخاصة المهمة منها.
حادثة أخرى كنتُ شاهدا عليها.. وكما هو معلوم تحتفل سفارات البحرين يوم 16 ديسمبر من كل عام في كل العواصم الموجودة فيها بالعيد الوطني. وفي 16 ديسمبر من عام 2003 كان سفير البحرين في بريطانيا الشيخ عبدالعزيز بن مبارك آل خليفة يحتفل في فندق الدورشستر الشهير المطل على حديقة الهايدبارك في شارع البارك لين بلندن، وذلك بحضور مئات المدعوين من نواب ولوردات ووزراء وسفراء وصحفيين ورجال أعمال وأعضاء من الجالية البحرينية والعربية، والذين كانوا يتوافدون على مدخل الفندق في صف طويل. وكانت هناك مجموعة بحرينية متمردة تُسمي نفسها المعارضة عددها لا يزيد على 12 شخصًا تهتف هتافات معادية بالميكروفونات ليُسمع صوتها. في هذه الأثناء، تصادف أن كان يسير في الشارع المشار إليه أمير قطر السابق حمد بن خليفة آل ثاني، ومعه وزير خارجيته حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني.. سأل الأمير أحدهم ماذا هناك؟.. فرد عليه وأخبره عن المناسبة، وكان قد لاحظ الأشخاص الذين يهتفون.. عندها نادى الأمير على أحد حراسه -وفق ما صرح به أحد رجال أمن السفارة- وطلب منه الاتصال بقناة الجزيرة لتحضر وتغطي الهتافات المعادية للبحرين.. وهو ما يعني أن الأمير السابق حمد آل ثاني كانت لديه نوايا سلبية مبكرة تجاه البحرين.
وللتاريخ، أود أن أشير هنا إلى أحداث ثلاثة مهمة نستطيع من خلالها معرفة توجهات الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني -ولي العهد القطري آنذاك، ونواياه تجاه أشقائه.. الأول: في اجتماع القمة الخليجي الاستثنائي في ديسمبر 1990 بالدوحة؛ لمناقشة موضوع احتلال صدام حسين للكويت، وإصراره، ورفضه مناقشة موضوع الاحتلال العراقي، إلا إذا بحثت القمة أولاً الخلاف الحدودي بين قطر والبحرين.. متجاوزًا ومتحديًا والده الذي كان يرأس القمة، ولولا حكمة المرحوم الملك فهد بن عبدالعزيز لفشلت أهم قمة عرفها مجلس التعاون. وكان الثاني، بعد تحرير الكويت، حيث كانت قناة الجزيرة تبث برامج معادية للكويت بشكل ممنهج، تستضيف فيها قادة عراقيين نذكر منهم: طه ياسين رمضان، وطارق عزيز، وعزة الدوري، وإعلاميين وسياسيين عراقيين وعربا وأجانب يتطاولون على أمير الكويت وولي عهده.. ولأن الشيء بالشيء يُذكر، كان أمير الكويت الشيخ صباح الأحمد قد صرح قبل سنتين في مؤتمر صحفي مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، أن الكويت عانت الكثير من ممارسات قطر.
أما الثالث، فقد كان انقلاب الأمير حمد على والده يوم الثامن والعشرين من يونيو عام 1995، وهو الحدث الأبرز والأكثر حساسية، والذي سيبقى يلاحقه مهما حاول نسيانه، حيث لم يكتف بالانقلاب عليه، بل وجه له تهمًا تمس نزاهته؛ منها الاستيلاء على أموال الدولة وطالبه باسترجاعها من خلال المحاكم البريطانية، مما كان له ردود فعل سلبية من قبل قادة دول الخليج وأبنائها، باعتبار أن مثل هذا التصرف خروجا عن الثوابت الخليجية في العلاقات الأسرية.
لا أريد أن أفتح في هذا المقال ما تسبب به نظام الأمير السابق، ووزير خارجيته بتدخلاته غير المبررة من دمار وخراب لدول عربية أثناء أحداث ما سُمي زورًا بـ«الربيع العربي».. قُتل فيها وشُرد الملايين بسبب حب الزعامة والطموح غير المشروع. ولكنني أريد هنا التركيز وبإيجاز على ما كشفته التسريبات الجديدة، أبدأها بتسريبات نُشرت قبل ثماني سنوات كشفت بالصوت والصورة تآمر الأمير حمد بن خليفة آل ثاني ووزير خارجيته حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني، ومعهما معمر القذافي في جلسة بخيمته على نظام المملكة العربية السعودية، وعلى حياة المرحوم الملك عبدالله.
أما عن التسريبات الحديثة التي نشرها المعارض القطري خالد الهيل قبل أيام، فهي تشير إلى أن هذا النهج التآمري ظل مستمرًا. يضم التسريب الأول، الذي نشر يوم 31 مايو 2020، تسجيلا لأمير قطر السابق حمد بن خليفة، ووزير خارجيته حمد بن جاسم آل ثاني، والرئيس الليبي السابق معمر القذافي، وهم يبحثون كيفية زعزعة أمن واستقرار المملكة العربية السعودية. أما الثاني والثالث فقد تم نشرهما يوم 21 يونيو 2020، ويضمان تسجيلات لكل من حمد بن جاسم آل ثاني مع القذافي، وبين القذافي والقيادي في جماعة الإخوان المسلمين حاكم المطيري (وهو كويتي هارب في تركيا) على التوالي، تم التطرق فيهما إلى خطط لنشر الفوضى والعنف في ثلاث دول خليجية هي الكويت والسعودية والبحرين، والتحريض على قلب أنظمة الحكم فيها. ونشر يوم 7/7/2020 تسريبًا رابعًا يطلب فيه المطيري من القذافي الدعم المالي لتأسيس قناة فضائية أو صحيفة يومية تستهدف زعزعة استقرار منطقة الخليج وبث الفوضى، وقال المطيري إن المتبرعين يخشون من الدعم المباشر لحزب الأمة الذي يقوده والذي وصفه بـ«الثوري».
والجدير بالذكر أن الهيل أكد أن هناك تسجيلات أخرى لشخصيات كويتية بارزة ستصدم الجميع وعد بالكشف عنها قريبا، وأضاف أن قطر حاولت إتلاف هذه التسريبات بإحراقها وتدمير أرشيف القذافي، ولكنها فشلت في ذلك، وختم تصريحاته بالقول إن «90% من التسريبات الأخرى تعمل لإسقاط أنظمة السعودية والكويت والبحرين».
وبعد أن استعرضنا ما قام به القذافي من تآمر محموم على دول الخليج وخاصة المملكة العربية السعودية، أشير إلى أنه بينما كانت ليبيا في عنق زجاجة قضية لوكربي -وهو المكان الذي أسقط فيه نظام القذافي الطائرة الأمريكية فوق الأراضي البريطانية وعليها قرابة 300 راكب مدني- والتي استمرت لسنوات طويلة، فإنه لا أحد ينكر ما قام به الملك عبدالله بن عبدالعزيز من جهد طليعي ومؤثر مع الرئيس الأمريكي بيل كلينتون، لإنهاء هذه الأزمة وإنقاذ ليبيا من الحصار الذي طبق عليها والعزلة الدولية التي تعرض لها شعبها، والنظام نفسه وهو ما اعترف به معمر القذافي قائلا: «كان للملك عبدالله الأثر الكبير والدور المميز في حل قضية كانت تشغل العالم»، كما نوه بدور الأمير سعود الفيصل رحمه الله، والأمير بندر بن سلطان في التوصل إلى اتفاق.. بمعنى آخر، أنه في الوقت الذي كانت قيادة المملكة العربية السعودية تسعى لإيجاد حل لهذه الأزمة بإلحاح متواصل من معمر القذافي، لمساعدة الشعب الليبي؛ كان الأخير يعقد جلسات تآمرية في الخيمة -التي أُطلق عليها البعض «الصندوق الأسود»- تسعى لقلب نظام الحكم في السعودية ودول الخليج الأخرى من خلال نشر الفوضى وضرب الوحدة الوطنية وتهديد السلم الأهلي ونشر الفتنة الطائفية بين السنة والشيعة... إلخ.
وبهذا المعنى، أوضحت هذه اللقاءات حجم المؤامرة التي كانت تحاك ضد السعودية ودول الخليج الأخرى وهو ما وصفه بعض المعلقين بأن «قطر تتآمر على الشقيقة -السعودية ودول الخليج- وتطعن من الخلف الحليف الليبي في آن واحد».. ويعتقد أن النظام القطري السابق هو الذي جنّد متسترين بالدين أو عملاء ممن باعوا أوطانهم وذممهم، وبات ولاؤهم لأعداء دولهم أولوية، وقدمهم إلى معمر القذافي، ليصبحوا جزءًا من مؤامرة كبرى، ومنهم د. حاكم المطيري، الأستاذ في جامعة الكويت سابقا، والذي يشرح خططه للقذافي في هذه التسريبات بشكل واف لنشر الفوضى في الكويت والبحرين والسعودية، وهو ما تسبب حال مشاهدة الكويتيين له في صدمة حكومية وشعبية وأكاديمية، وكذلك لقاء مبارك الدويلة، مع القذافي الذي طالبه باستخدام القبائل لزعزعة أمن الخليج.
على العموم يُستدل من تسريبات خيمة القذافي أنها كانت «مشروعا تآمريا كبيرا»، أساسه تقسيم السعودية وتفتيت الُلحمة الخليجية؛ دون مراعاة للمبادئ الدينية والقيم الأخوية والإنسانية.. وهو حلم اشتهر به القذافي وعمل على تنفيذه، فالتسريبات أوضحت لكل المتابعين أن المؤامرة لم تكن وهمًا، بل حقيقة ماثلة للعيان بشواهدها وشخوصها، وبأصواتهم وكلماتهم وتفاعلهم؛ لذا فإنه على الحكومات المستهدفة والمتضررة من هذه المؤامرة المطالبة بتسليم المتآمرين عبر الإنتربول من الدول التي يقيمون فيها لمحاكمتهم.