18/9/2020
اتجاهات الصراع على المياه في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا
تُعد منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا أكثر مناطق العالم سخونة، فهي واقعة في قلب العالم القديم، وقد تكالبت عليها القوى الكبرى عبر التاريخ وحتى الآن، فمن يسيطر عليها يملك زمام السيطرة على العالم، كما أنها غدت في العصر الحديث مركز العالم في إنتاج النفط والغاز، فهي الأكثر إنتاجًا وتصديرًا واحتياطيا في هذه السلع بالغة الحيوية، إلا أنها في المقابل من أقل مناطق العالم من حيث وفرة المياه. وفي حين، يقطنها نحو 6% من سكان العالم إلا أنها لا تمتلك أكثر من 1% من موارد العالم المائية.
ووفقا لتقرير الأمم المتحدة لعام 2019 فإن الدول العربية «في حالة فقر مائي، ومن المتوقع في 2025 أن يبلغ نصيب الفرد فيها أقل من 300 متر مكعب سنويًا في حين أن الحد الأدنى هو 1000متر». وتهطل الأمطار على هذه المنطقة بشكل شحيح، وتكاد بلدانها تكون واحات معتمدة على المياه الجوفية وبعض الأنهار المشتركة، التي أصبحت موضع تنازع، وخاصة أن بلدان المنابع لديها إمكانية التحكم في كميات المياه التي يمكن أن تصل إلى بلدان المصب والعبور. وبدلاً من أن تكون موضوعًا للتعاون والاستثمارات المشتركة، تحولت إلى أحد أهم مصادر الصراع.
برزت تلك الصراعات بشكل جلي بعد أن أقدمت أثيوبيا على إقامة سد النهضة على النيل الأزرق الرافد الرئيسي الذي تعتمد عليه مصر بنسبة 85%، كما نراها في سرقة إسرائيل للمياه من الأراضي الفلسطينية ولبنان، والمشكلات في نهري الفرات ودجلة بين تركيا وكل من سوريا والعراق، ونهر الأردن وروافده بين إسرائيل وسوريا ولبنان والأردن وفلسطين. وتبلغ كمية الموارد المائية المشتركة بين دول عربية وغير عربية نحو 174 مليار متر مكعب، وفضلاً عن الأبعاد الأمنية والسياسية والاستراتيجية لموضوع المياه، هناك أيضًا تأثيرات تغير المناخ، والأبعاد المختلفة المتعلقة بالتنمية المستدامة، وكلفة الحصول على المياه ومعالجتها، وكفاءة ورشادة استخدامها وخاصة في الزراعة التي تستهلك نحو 80% منها.
واستجابة لهذه التحديات، عقد «المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية»، بلندن، ندوة بعنوان «المياه المشتركة للشرق الأوسط وشمال إفريقيا.. الصراع والتعاون»؛ بهدف تقديم الرؤى والتحليلات من المنظورين الاستراتيجي والبيئي المتعلقين بالموارد المائية وإدارة المياه. رأستها «إليانور بيفور»، من برنامج الصراع والأمن والتنمية بالمعهد، وتحدث فيها «كاوه مدني»، نائب رئيس مكتب جمعية البيئة في الأمم المتحدة سابقا، و«لمى الحتو»، الخبيرة في تغير المناخ، وإدارة المياه العابرة للحدود، و«حازم الناصر»، وزير المياه والزراعة الأردني الأسبق، و«آرون وولف»، أستاذ الجغرافيا بجامعة أوريغون في الولايات المتحدة.
في البداية، شدد «مدني» على أن قضايا البيئة والأمن المائي في هذه المنطقة «لا ينبغي نسيانها»، حتى في الوقت الذي لا يزال فيه العالم منشغلاً بأزمة كورونا وتداعياتها الاقتصادية. وخلال عرضه لأسباب صعوبات إمدادات المياه في المنطقة، أشار إلى وجود «توجه مشترك» في الشرق الأوسط إلى «تمويل قطاعي المياه والزراعة، من عائدات النفط والغاز الكبيرة». وبالنسبة إلى دول الخليج، كان استيراد نسب كبيرة من احتياجاتها الغذائية بديلاً أرخص لمحاولة بناء قدراتها الزراعية الخاصة. وعلى الرغم من إقراره بأن معظم هذه القضايا «غير مقصودة»، فإنه رد بأن الوضع قد تفاقم بسبب عدم قدرة هذه الدول على الاستجابة لأوجه عدم كفاءة استخدام المياه بالطريقة التي يمكن أن تفعلها الدول المتقدمة اقتصاديًا.
وبالإضافة إلى ذلك، أوضح أن قضية إدارة المياه برغم خطورتها، تفتقد أحيانًا مكان الأولوية في تسلسل صنع السياسات داخل حكومات الشرق الأوسط، والذين يتعاملون مع القضايا المُلحة الأخرى، مثل السياسة الخارجية والاقتصاد، وبالتالي ليس لديهم «وقت محدود وميزانية محدودة» للتعامل مع قضايا الأمن المائي. وعلى الرسم البياني الذي شكله لقياس مدى إلحاح وأهمية قضايا السياسة العامة، وضع قضية الأمن المائي في الوسط بشكل عام؛ بمعنى أنه «لا يعتبر مهمًا بدرجة كافية للتخطيط الحكومي التفصيلي، ولا يمكن تجاهل التخطيط له تمامًا».
بينما أوضحت «الحتو»، أن الاعتبارات البيئية لأزمات إمدادات المياه لم يتم أخذها في الاعتبار بشكل جيد فوق المخاوف الجيوسياسية، مشيرة إلى أن سد النهضة، هو موضوع ساخن، مع تجاهل الآثار البيئية له. وعلى الرغم من القول إنه سيوفر ما يكفي من الكهرباء لسكان إثيوبيا البالغ عددهم 115 مليون نسمة، فإنه سيؤدي إلى تناقص حصتي السودان ومصر من المياه.
ومع وضع هذا المثال في الاعتبار، جادلت بأن البلدان المتشاركة في خطط التنمية الوطنية في المنبع والمصب «لا تتشاور أبدًا» مع بعضها البعض. ووافق «الناصر»، على أن بلدان المنطقة ليست على استعداد «لتبادل المعلومات»، التي من شأنها أن توفر بيانات لصياغة استجابات أفضل لمشاكل نقص المياه. وكتبت «أنيا زولينياك» من «مجلس العلاقات الخارجية»، أن «ندرة المياه أصبحت تمثل تهديدًا متزايدًا للأمن البشري، في ضوء الأحداث الأخيرة في إثيوبيا والشرق الأوسط؛ والتي تسلط الضوء على كيفية ضغط الديناميكيات الجيوسياسية والإقليمية على إجهاد النظام الحالي لإدارة النيل وتهديد الوصول الآمن والمضمون إلى المياه».
ومع ذلك، وبالنسبة إلى هذه المخاوف، رأت أن تغير المناخ يمكن أن يُمثل «فرصة» للتعاون. ومع المشاكل البيئية الحادة التي يجلبها ستضطر البلدان إلى التنسيق بشكل أفضل لحماية أمنها القومي ومصالحها التنموية. وكتب «آرييل إزراحي»، من «المجلس الأطلسي»، أن «التهديدات الأمنية تتفاقم بسبب الآثار المرئية بالفعل لتغير المناخ في المنطقة، والتي من المقرر أن تزداد سوءًا مع زيادة الطلب على الطاقة لتلبية احتياجات السكان». ومن أجل إيجاد حلول دبلوماسية للنزاعات حول المياه، دعت «الحتو»، إلى نهج جديد للتفاوض يكون أكثر «شمولاً» لجميع الجهات الفاعلة المتأثرة بالتغيرات في موارد المياه، بما في ذلك الأطراف غير الحكومية وغير الرسمية والمعنيين، وذلك، من خلال «تقاسم المنافع» لبلدان المنطقة.
وفي السياق ذاته، أشار «الناصر» إلى أن حالة توافر المياه وإدارتها في المنطقة العربية كانت «أسوأ» مما هي عليه في مناطق أخرى من العالم، مؤكدا أن ارتفاع عدد السكان من أهم أسباب تفاقم نقص المياه، بالإضافة إلى ما اسماه «الحلول التكنولوجية الضعيفة»، و«انخفاض الوعي العام حول كيفية إدارة المياه النادرة بشكل مسؤول». من جانب آخر، تطرق إلى «التوترات» و«الصراعات» في الشرق الأوسط المتعلقة بالمياه. وفي هذا الصدد، حدد المشاكل الأمنية المتعلقة بالأنهار التي تعبر الحدود الوطنية، مثل نهري الفرات والأردن؛ كأسباب للصراع بين الدول. وفي زمن الحرب ظهر استخدام إمدادات المياه لإضعاف الخصوم في الحرب الأهلية السورية. وفي أغسطس 2020 اتهمت السلطات الكردية في شمال سوريا الحكومة التركية بتعمد قطع إمدادات المياه من نهر الفرات إلى الأراضي التي يسيطر عليها الأكراد، بهدف إحداث جفاف وإضعاف السيطرة الكردية على المنطقة.
وبناء عليه اقترح الوزير الأردني إجراءات لتخفيف المواجهات حول الوصول إلى المياه، ودعا إلى التعاون الدولي كجزء من «نقلة نوعية» في «إطار الأمن المائي» في المنطقة. ويشمل هذا الإطار إعادة النظر في السياسة بشأن عوامل، مثل البيئة وحقوق الإنسان والتعاون الإقليمي لصالح الأمن الغذائي والطاقة؛ غير أنه أقر بأنها ستكون «عملية طويلة الأجل»، حيث إن التغيير بين عشية وضحاها لن يكون عمليًا، فضلا عن أن هذه التغييرات ستعتمد على «خطة إدارة» متفق عليها.
من جانبه سعى «وولف» إلى معالجة قضايا الأمن المائي في المنطقة من وجهة نظر «وسيط». مستشهدا بحوض النيل كمثال على المنافسة للوصول إلى المياه. ومع ذلك، طرح فكرة «حزمة الفوائد» المحتملة، حيث لا يزال بإمكان البلدان المتنازعة تحقيق احتياجاتها الأمنية من خلال استخدام مصادر المياه البديلة. وكمثال على كيفية «نزع فتيل الخلافات» على الصعيد الدبلوماسي أشار إلى اتفاقيات السلام المبرمة في التسعينيات بين الأردن وإسرائيل. وفي هذه الحالة طالب الأردن بالمناطق المتنازع عليها والتي زرعها الإسرائيليون بأيديهم. وكان الحل الدبلوماسي هو الاعتراف بالسيادة الأردنية، وتسهيل تأجير الأرض وضمان بقائها تحت السيطرة الإسرائيلية، وحصل كلا البلدين بالنهاية على ما يريدانه -بحسب وصفه- حيث أكد أنه بمجرد انتهاء مدة عقد الإيجار للمناطق الأردنية والتي بلغت 25 عامًا، أعيدت الأرض إلى الأردن دون جدال، وبالتالي، على الرغم من أنها عملية سلام طال مداها، فإنها جنبت وقوع صراع على تلك الأراضي الزراعية.
وردًا على سؤال حول كيفية تفعيل الاتفاقيات الخاصة بالحصول على المياه والالتزام بها من قبل دول متعددة، أجاب «مدني»، أنه «لا توجد قوة عظمى يمكنها معالجة قضايا الأمن المائي»، وأن الموارد المائية وحمايتها تظل جزءًا واحدًا فقط من سلسلة واسعة من القضايا المرتبطة بالمخاوف الاقتصادية وتوليد الطاقة. ووافقت «الحتو»، على هذا التقييم، وأشارت إلى أن هناك افتقادًا واضحًا لدى بعض الأطراف «لضبط التوترات فيما بينها بخصوص التنازع على موارد المياه»؛ لكنها أكدت أن «الغالبية العظمى» من الدول المتورطة في النزاعات، مثل إثيوبيا، والسودان ومصر أبدوا «اهتمامهم» بأن تأتي جهود التعاون والتحاور من داخل البلدان نفسها وليس بأيدي مؤسسات دولية أو نفوذ خارجي. ومع وضع ذلك في الاعتبار دعت إلى «إشراك أصحاب المصلحة والأطراف الخارجية» بشكل أكبر في مسائل الأمن المائي، كآلية مهمة لتجنب نشوب أي صراع.
وحول التساؤل عن إمكانية نجاح أي منظمة دولية قد تشارك في الجهود المبذولة لتخفيف التوترات حول الموارد المائية؛ أشار «وولف»، إلى أن البنك الدولي والعديد من «وكالات الأمم المتحدة» يمكن أن تشارك. ومع ذلك، وافقت «الحتو» أيضًا على أنه لا توجد حاليا «قوة أمنية أو تكتل وتحالف أمني» للبلدان يمكن أن تلجأ إليها». وأوضح «الناصر»، أنه في الوقت الحاضر، لا يوجد أكثر من مجرد «إرشادات» للدول لاتباعها. وعلى الرغم من اتفاقيات الأمم المتحدة فإنه لم يتم حتى الآن تفعيل هذا الأمر بشكل صحيح وناجح.
لكن مع كل ذلك أشار «ازراحي» في تقريره -السابق الإشارة إليه- إلى أن «توفير الطاقة ومسألة توليدها سيكون أمرًا حاسما في ضمان الأمن المائي»، حيث «لا يمكن لأي دولة أن تكون آمنة طالما أنه لم يتم تلبية احتياجات جيرانها من الطاقة والمياه الأساسية». مضيفا أنه «من المرجح أن الحروب الإقليمية في المستقبل ستكون بسبب استنزاف موارد المياه»، وأن القضايا الأمنية المائية «لا يمكن معالجتها ما لم تكن هناك طاقة كافية لتحلية المياه وضخها لتلبية الطلب المتزايد».
وفي الختام قدمت الندوة عرضًا قيمًا ووافيا لقضايا موارد المياه في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وعلى الرغم من أنها أشارت إلى الصعوبات الشاملة للتوصل إلى اتفاقيات بشأن تقسيم وتخصيص موارد المياه بين الدول، لكنها أظهرت أيضًا أن هذه عملية يمكن تحقيقها من خلال إطار عمل للتفاوض والتعاون بين الدول المعنية، وإن كان طويل الأمد.
ومع أن القضايا ذات الصلة ببلاد الشام والخليج لم يتم تناولها بالتفصيل والدقة مثل قضية إثيوبيا والسودان ومصر في حوض النيل، فإن إطار الحوار الذي تم التركيز فيه على تناول قضايا المياه والجهود المبذولة لصياغة اتفاقيات ثنائية ومتعددة الأطراف لتأمين الوصول إليها، من المؤكد أنه أشار إلى أن مشكلات المياه واستخدامها الفعال في المستقبل ستصبح تحديات وثيقة الصلة بدول الشرق الأوسط والخليج بشكل خاص.