top of page
4/7/2020

احتمالات حدوث موجة كورونا ثانية في أمريكا

في معظمِ البلدان التي أصابتها جائحةُ فيروس كورونا خلالَ مراحلِها المبكرةِ تجاوزَ خطرُ الفيروس ذروته، وتناقصَ عددُ الإصاباتِ والوفياتِ كما في آسيا وأوروبا الغربية. في مقابل ذلك، لا يزالُ يتمُّ الإبلاغُ عن الآلافِ من الحالاتِ الجديدةِ كلّ يومٍ في الولاياتِ المتحدة؛ الأمر الذي دعَّم بقوةٍ حججَ مسؤولي الصحةِ العامة الذين حذَّروا من خطرِ إعادة فتح الشركاتِ والأنشطةِ خلالَ فترةِ الطوارئ الصحية، وطرحَ تساؤلاتٍ عما إذا كانَ من الضروري إعادة تطبيق إجراءات الإغلاق والتباعد الاجتماعي مرة أخرى من أجلِ حمايةِ الصحةِ العامة.
وكانت الولاياتُ المتحدةُ قد سجلت يوم 21 يونيو 27.465 إصابة جديدة بالفيروس، وهي ثاني أعلى نسبة إجمالية للبلاد خلال الجائحة، بارتفاع 21.486 حالة في الأسبوع السابق عليه، والتي تم تسجيلها في ذروةِ الموجةِ الأولى. ومنذ ذلك الحين زادت الأعدادُ بشكلٍ كبير. ففي 24 يونيو تم تسجيل 38.672 إصابة جديدة؛ بما يمثل أكبر زيادة يومية. وحدث هذا الارتفاع بعد أن أعطت الحكومةُ الضوءَ الأخضر للشركاتِ لاستئنافِ التداول. وبحلول 28 يونيو كان هناك ما يقرب من 2596770 حالة إصابة مؤكدة بالفيروس، وأكثر من128.152 حالة وفاة. ومن المتوقع أن تكونَ الأرقامُ أعلى بكثيرٍ من الأعداد المسجلة، خاصة أن هناك وفيات لم يتم تسجيلها على أنها ناجمةٌ عن الوباء. 
وعلى نطاقٍ واسع، أصبح من المُسلم به أن قرارَ إعادةِ فتح أجزاء من الاقتصاد والمجتمع قد لعبَ دورا رئيسيًّا في حدوثِ ارتفاع ثانٍ في العدوى. وكما أشار «بيتر ويلز»، في صحيفة «فاينانشال تايمز»، فإن «معظم الولايات التي أظهرت زيادات حادة سريعة في أعداد الحالات هي التي أعادت فتح اقتصاداتها»، وهي تحركاتٌ دفعت خبراءَ الصحةِ العامة إلى التحذيرِ من أن العديدَ من قراراتِ إعادةِ الفتح تتمُّ بسرعةٍ كبيرة. وتعد أكثر الولايات تأثرا بهذا الارتفاع الجديد كاليفورنيا، وتكساس، وفلوريدا، وأريزونا، وكارولاينا الشمالية والجنوبية، والتي ارتفعت نسبة الحالات بها إلى 50%. وفي البداية، عانت ولايات إقليم «نيو إنغلاند» من أعلى حالات الإصابة والوفيات؛ لكن في الأسابيع الأخيرة انخفضت بشكلٍ كبير. وفي ولاية نيو جيرسي تراجع العدد بنسبة 87% منذ أبريل. وحاليا، تعاني نيويورك من 1000 حالة دخول إلى المستشفيات مرتبطة بالفيروس، منخفضة من 18.000 في مارس.
ومع الارتفاع المطرد في الحالات، فإن المعضلةَ تكمنُ فيما إذا كانت الولاياتُ المتحدةُ ستُعيد إجراءاتِ الإغلاقِ والتباعد الاجتماعي أم لا. وحذرت «منظمة الصحة العالمية»، من أنه «إذا لم توقف واشنطن انتشار الفيروس من خلال التعقب والفحص والحجر الصحي، فقد يكون فرض المزيد من عمليات الإغلاق إجراء ضروريًّا». وصرح «مايكل ريان»، مدير برنامج الطوارئ بها بأنه «من الصعب للغاية التخلص من هذه الجائحة ما لم يتم فرض عمليات الإغلاق الإضافية». وحذر «روبرت ريدفيلد»، مدير «المركز الأمريكي للسيطرة على الأمراض» من أن الفيروس جعل واشنطن «تجثو على ركبتيها». وكان «مارك بوم» من مستشفى «هيوستن الميثودي»، أكثر صراحة في تقييمه إذ قال: «ارتضى الناس بذلك؛ وبصراحة تامة يعود الفيروس بضراوة من جديد». وعليه، عبرت «كايتلين ريفرز»، من مركز «جونز هوبكنز للأمن الصحي»، عن نظرة قاتمة للمستقبل، عبر قولها: «من الصعب تخيل كيف سنصل إلى حال أفضل.. يبدو أننا الآن أسوأ حالا من موجة كورونا الأولى؛ لأنه على الأقل كان هناك لدى قيادتنا نوع من السيطرة.. أشعر الآن أننا فقدنا تلك السيطرة».
وكانت ثلاث ولايات هي «نيويورك، ونيوجيرسي، وكونيتيكت»، قد فرضت حجرا صحيا مدة أسبوعين على الأشخاص الذين يصلون من ولايات ذات معدلات إصابة مرتفعة بالفيروس. وتنطبق تلك الإرشادات على أي شخص قادم من ولاية يزيد فيها معدل الإصابة على 10 أشخاص لكل100.000 من السكان، أو متوسط الحالة بمعدل إيجابي 10% أو أعلى خلال متوسط متداول مدة 7 أيام. وفي الوقت الحالي، تُخضع ولايات «ألاباما، وأركنساس، وأريزونا، وفلوريدا ونورث كارولاينا، وساوث كارولينا، وتكساس، ويوتا»، سكانها للحجر الصحي القسري. وبشأن هذا القرار، صرح حاكم «نيويورك»، «أندرو كومو»، بأنه «علينا التأكد من أن الفيروس لن يدخل على متن الطائرة مرة أخرى»، وأضاف حاكم «نيو جيرسي»، «فيل ميرفي»، أن «هذه ليست توصية مهذبة، بل إلزام». وكدليل على الجدية، فرضت هذه الولايات أيضًا غرامات باهظة على أولئك الذين يكسرون القواعد. ففي نيويورك، قد يتعرض الزائرون الذين لا يلتزمون بالحجر الذاتي إلى غرامات تصل إلى 10.000 دولار. 
فيما جاءت ردود أفعال حكام الولايات الأخرى على الطفرات الجديدة مُتباينة. ففي كاليفورنيا، التي سجلت 7.149 حالة جديدة يوم 24 يونيو وحده، تم الالتزام بارتداء كمامات الوجه. كما أعلن حاكم كارولينا الشمالية، أن «ارتفاع الإصابات قد يؤدي إلى «تأجيل إنهاء قيود التباعد الاجتماعي». وبعد أن تضاعفت حالات الإصابة الجديدة في «تكساس»، تم دعوة المواطنين إلى البقاء في منازلهم والعودة إلى الالتزام بالقيود التي تم التحلل منها قبل عدة أسابيع، وتم فرض قيود على التجمعات لأكثر من 100 شخص. 
وبالنسبة إلى العديد من حكام الولايات، يظل إعادة تطبيق إجراءات الإغلاق مرة أخرى خيارًا يُصاحبه التردد. وعلى الرغم من أنه أدخل بعض تدابير الصحة العامة، فقد ظل حاكم تكساس مُصمما على أن «العودة إلى الإغلاق مرة أخرى سيكون دائما الخيار الأخير»، وحث حاكم فلوريدا المواطنين على تجنب الاتصال الوثيق مع الآخرين، لكنه رفض الالتزام بفرض مزيد من القيود». فيما كان حاكم «ميسوري» أقل دبلوماسية وكتب على تويتر: «نحن لا نُقهر.. نحن لا نشهد حاليا موجة ثانية.. ليس لدينا نية للإغلاق في هذه المرحلة».
وفي نهاية المطاف، من المرجح أن يؤدي عدم إعادة فرض إجراءات الإغلاق والتباعد إلى تسهيل حدوث موجة ثانية قد تكون أشد خطرا. وتنبأت جامعة واشنطن أنه بحلول أكتوبر القادم سيكون هناك حوالي 180.000 حالة وفاة بسبب الفيروس. ومن المحتمل أن ينخفض العدد إلى 146000 في حالة ارتداء 95% من الأمريكيين أقنعة الوجه والكمامات. ووفقا للعديد من المحللين، تعود حالة التردد في العودة إلى تشديد الإجراءات الاحترازية إلى الخوف من التعرض لمزيد من الأضرار الاقتصادية. 
وتهدد جهود استئناف العمل بالأنشطة الاقتصادية المعتادة بمزيد من انتشار الإصابة بالعدوى ليس فقط في الولايات المتحدة، وإنما في العالم برمته. وتأثرت أسواق المال العالمية جراء أنباء ارتفاع معدلات الإصابة في الولايات المتحدة، إذ انخفض مؤشر «فاينانشيال تايمز» البريطاني بنسبة 1.2%، وانخفضت مؤشرات بورصة «وول ستريت» بنسبة 2.6% في 24 يونيو، كما أجرى الاتحاد الأوروبي محادثات حول ما إذا كان سيتم حظر دخول الأمريكيين عندما يتم إعادة فتح الحدود.
وفي نفس السياق، أظهر الكثير من تجار التجزئة أيضًا ترددًا في المضي قدمًا في إعادة فتح متاجرهم. وقامت شركة «أبل» بإغلاق متاجرها في ولايتي تكساس وأريزونا. وانتاب أيضا الكثير من المحللين الاقتصاديين الخوف من الموجة الثانية المحتملة للوباء. وتوقع «تشارلز إيفانز»، في صحيفة «كوريدور بيزنس جورنال»، أن يتم عرقلة النمو الاقتصادي جراء الاستجابة الراهنة للفيروس بسبب عودة العمل بكثير من الأنشطة بصورة أسرع من المتوقع. وفي تلك الحالة، سيتم تخصيص الكثير من الموارد للمحافظة على الصحة العامة في ظل أن العلاجات ستصبح متاحة مع حلول عام 2022. ومع ذلك، رأى أن «العودة إلى الانخراط في الحياة الطبيعية يجب أن يكون بحلول أواخر العام الحالي، وليس قبل هذا التاريخ».
من ناحية أخرى، تم التشكيك في الأرقام الرسمية بشأن إصابات موجة كورونا الثانية. وأخبر نائب الرئيس الأمريكي، «مايك بنس»، أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين، أن 12 ولاية فقط، و3% فقط من المقاطعات، تشهد زيادة في الإصابة بالوباء. ومع ذلك، تؤكد صحيفة «واشنطن بوست»، أن الرقم الحقيقي هو أن 20 ولاية و5% من المقاطعات لديها أرقام إصابات أعلى مما كانت عليه قبل تلك الموجة. 
ومع محاولة الحكومة الأمريكية تحقيق «المعادلة الصعبة»، باستئناف الحياة الطبيعية مع محاولات إبقاء الفيروس تحت السيطرة في ظل عدم وجود لقاح له حتى الآن، يجب أن تكون لديها السلطة العليا للتوجيه والتخطيط. ومع ذلك، كانت قيادة دونالد ترامب لهذا الملف غير مجدية. ففي تجمع انتخابي بولاية أوكلاهوما، أخبر الحشود أن اختبارات التأكد من الإصابة بالفيروس تعدُّ بمثابة «سيف ذو حدين»، وأضاف: «عندما نختبر هذا الكم الهائل من المواطنين سنجد بالتالي المزيد من الحالات، وقد أشرت إلى القائمين على هذه الاختبارات بإبطاء وتيرتها!». وعندما حاول مسؤولو الحكومة التخفيف من حدة التصريحات والادعاء بأنها «مزحة»، خرج لينقضها قائلا: «أنا لا أمزح»، وأضاف يوم 23 يونيو، أن «الحالات تتزايد لأننا نختبر أعدادًا أكثر بكثير من أي دولة أخرى، ونتوسع باستمرار؛ ولكن مع الاختبارات لعدد أصغر، سنحصل في النهاية على حالات إصابة أقل!».
وطوال الأزمة، أظهر «ترامب» تفضيلا واضحًا للاقتصاد على الصحة العامة، زاعمًا أن هذا الفيروس تسبب في إحداث أضرار اقتصادية للولايات المتحدة، ولا سيما أن 26 مليون أمريكي يطالبون بالحصول على إعانات البطالة في ظل موجة تسريح العمالة من كل الشركات المغلقة أو المنهكة بسبب نقص الطلب على منتجاتها. وفي أواخر أبريل، انهارت أسعار النفط الأمريكية إلى أدنى مستوى لها. ولعل انخفاض الطلب على إمدادات النفط وانخفاض الإنتاج وتراجعه في قطاعات الطيران والتصنيع خاصة صناعة السيارات سيلقي بظلاله على الاقتصاد الأمريكي سنوات عديدة قادمة.
وفي أعقاب هذه الأخبار القاتمة، انتشرت العديد من الاحتجاجات عبر الولايات المتحدة الأمريكية، داعية إلى إعادة فتح الاقتصاد لتجنب التعرض لمزيد من الأضرار الاقتصادية. ومع أن هذا النهج قد يكون خطرًا كونه سيؤدي إلى انتشار الفيروس بشكل أكبر، وسيتسبب في إزهاق عشرات الآلاف من الأرواح، وفي الوقت نفسه يتعارض مع التحذيرات التي أطلقها مسؤولو الصحة العامة؛ فإن الإدارة الأمريكية تمضي قدمًا في خططها لإعادة فتح الاقتصاد في ظل إدعاء وزير الخزانة الأمريكي «ستيف منوشين» أنه: «بعد أن تمت إعادة فتح الاقتصاد خلال شهري مايو ويونيو، سينتعش حقًا في كل من أشهر يوليو وأغسطس وسبتمبر القادمة».
على العموم، لا يمكن اعتبار الطريقة التي أدار بها «ترامب» أزمة كورونا حتى الآن إلا كارثة حقيقية، فقد تجاهل تحذيرات مسؤولي الصحة العامة، وركز على سفاسف الأمور والحروب الكلامية مع الصين، ومع منظمة الصحة العالمية، وتعامل مع وسائل الإعلام جراء تشكيكها وانتقادها لاستراتيجيته غير العملية على أنها منبوذة، في حين لم يظهر أي قدرة على تولي زمام القيادة في وقت الأزمات. وفي الوقت الذي يتم فيه التصدي لموجة كورونا الثانية، تواجه واشنطن قيادة سياسية غير فعالة مع مطالبة الرئيس علنًا بتقليص التدابير الاحترازية للحفاظ على الصحة العامة!، فضلا عن انعدام الوحدة وعدم توافق الآراء بين حكام الولايات؛ الأمر الذي جعل أمريكا من أعلى الدول في معدلات انتشار الفيروس.

{ انتهى  }
bottom of page