25/6/2020
استهداف «ترامـب» «المـحكـمـة الجنائية الدولية».. أحدث رفض للتعاون الدولي
لم تشهد الولاياتُ المتحدة في تاريخها الحديث ظاهرةً مشابهةً لما شهده البيتُ الأبيضُ خلالَ فترةِ تولي «دونالد ترامب» رئاسته، من نقضٍ لتعهداتٍ ومعاهدات، وتحولات، وعواصف سياسية، وتراجع عن الاتفاقات الموقعة سابقا، وتقويض الحكومات الديمقراطية الأخرى، والتنازع مع الدول والمنظمات الحليفة، إذ اتخذت واشنطن في عهده خطواتٍ للوراء لا يمكن إنكارها في سمعتها الدولية ودورها كقائد عالمي. تتعلق الحلقة الأخيرة من هذه الأزمات، بفرضها عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية؛ بسبب قرارها بدء تحقيق في جرائم الحرب التي ارتكبتها القوات الأمريكية وغيرها في أفغانستان خلال «حربها على الإرهاب»؛ الأمر الذي قُوبل بردٍ ساخط من واشنطن، والتي تستخدم الآن ترسانتها الدبلوماسية ضد محكمة قانونية.
وتأسست المحكمة الجنائية الدولية عام 2002 في لاهاي بهولندا، كأول محكمة قادرة على محاكمة الأفراد المتهمين بجرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب وجرائم الاعتداء. ومن بين الشخصيات البارزة التي مثلت أمامها السياسي الصربي البوسني «رادوفان كاراديتش»، والزعيم الليبيري السابق «تشارلز تايلور». وعلى الرغم من أن 120 دولة، بما في ذلك العديد من الدول الأوروبية الرائدة، طرف فيها؛ فإن الولايات المتحدة ليست كذلك، إذ رفض الرئيس الأمريكي، «جورج دبليو بوش»، عام 2002. الانضمام إليها، ولم يعارض أي من باراك أوباما، ولا ترامب هذا القرار. وبينما اشتبكت الولايات المتحدة معها في كثير من الأحيان حول كثير من إجراءاتها، فإن التحقيق الخاص بدورها في أفغانستان يمثل تصعيدا كبيرا في خلافاتهما.
وتعود خلفية الأزمة إلى مارس 2020. حينما أعطيت المحكمة الجنائية الدولية الضوء الأخضر للتحقيق في جرائم حرب محتملة وجرائم ضد الإنسانية في أفغانستان بين عامي 2003 و2014. بما في ذلك جرائم يُزعم أن القوات الأمريكية ووكالة المخابرات المركزية «سي أي أيه»، وقوات حلف شمال الأطلسي وطالبان قد ارتكبتها.
ويبقى واضحًا، أنه تم اتخاذ الإجراء القانوني نفسه للمرة الأولى في عام 2017. إذ تلقت المحكمة ما يقرب من 700 طلب من الضحايا المزعومين منذ ذلك الحين. وفي ذلك الوقت كان مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق، «جون بولتون»، منتقدًا صريحًا لقرارات المحكمة لدرجة أنه دعا في مقال له في صحيفة «وول ستريت جورنال» عام 2017 -قبل أن يتم تعيينه مستشارًا- إدارة ترامب إلى «تقييد حريتها في توجيه انتقاداتها إلى أطراف معينة بما فيها واشنطن». ومن الواضح أن هذه الآراء المناهضة لعملها يتبناها بعض الشخصيات رفيعة المستوى في الإدارة الحالية.
وفي عام 2019. تم منع القضية من المتابعة. وزعم قضاة المحكمة أنه من غير المرجح أن تنجح بناءً على عدم تعاون المتهمين، وأبرزهم واشنطن. وتأثر ذلك أيضا بالضغوط الدبلوماسية الأمريكية، إذ هدد وزير الخارجية الأمريكي، «مايك بومبيو»، بأنه «إذا حدثت محاولة لمتابعة أي تحقيق مع الأمريكيين فستكون هناك عواقب»، كما هدد بإلغاء تأشيرات واشنطن لموظفي المحكمة. وبالفعل، تم إلغاء تأشيرة المدعي العام، «فاتو بنسودا»، كنوع من الترهيب الذي ستكون الولايات المتحدة أول من تدينه إذا ارتكبه أحد أعدائها.
وفي الوقت الحاضر، عندما تم الاستماع إلى القضية مرة أخرى هذا العام، قرر القضاة أن هناك أدلة كافية للمضي قدما في التحقيق، الأمر الذي أثار حفيظة واشنطن؛ ما جعل «بومبيو»، يعلق بقوله: «إن هذا إجراء مذهل من قبل مؤسسة سياسية غير خاضعة للمساءلة تتنكر كهيئة قانونية.. كما أن هذا الحكم متهورا لحدوثه بعد أيام قليلة من التوقيع على اتفاق سلام تاريخي بشأن أفغانستان، والذي يعتبر أفضل فرصة للسلام لهذا الجيل». ومن الجدير بالذكر، أن الغضب الأمريكي ينبع أيضًا من تحقيق آخر تمت الموافقة عليه مؤخرًا من قبل «الجنائية الدولية»، يتعلق بالنظر في الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل، إذ أشارت المحكمة إلى أنه «لا توجد أسباب جوهرية للاعتقاد أن التحقيق لن يخدم أهداف العدالة».
من ناحية أخرى، رحب العديد من محللي الشؤون الخارجية وحقوق الإنسان بالقرار. وأشار «جميل دكوار» من «الاتحاد الأمريكي للحريات المدنية»، إلى أن «هذا القرار يناصر سيادة القانون ويعطي الأمل للآلاف من الضحايا الذين يسعون إلى فرض الخضوع للمساءلة عندما تفشل المحاكم والسلطات المحلية». وأضافت «بريثا جوبالان» من منظمة «ريبريف البريطانية لحقوق الإنسان»، أنه «يمثل خبرا مرحبا به لكل من يعتقد أن مرتكبي جرائم الحرب يجب ألا يتمتعوا بالإفلات من العقاب بغض النظر عن مدى قوتهم».
ومع ذلك، يبقى أن نرى إلى أي مدى يمكن أن تستمر المحكمة في عملها دون أي تدخل أمريكي. وأشار «ديفيد بوسكو»، من جامعة «إنديانا»، إلى أن التحقيق نفسه من غير المحتمل أن يكون ذا أهمية، بناءً على «العديد من العوائق اللوجستية وتقديم الأدلة التي قد يواجهها، إذ ستكون التداعيات الدبلوماسية ذات أهمية جيوسياسية كبيرة، وبناءً على رد فعل واشنطن -الذي قد يكون مؤثرا- ستتحدد العلاقة المستقبلية بينها وبين المنظمات العالمية من جهة أخرى».
وردا، على قرار «الجنائية الدولية»، أطلقت الولايات المتحدة ما أسماه «جوليان بورغر»، في صحيفة «الغارديان»، «هجوما اقتصاديا وقانونيا» على المحكمة، واتخذت قرارًا بفرض مزيد من العقوبات على قضاتها ومسؤوليها. وفي 11 يونيو، علقت تأشيرات دخول موظفي المحكمة وأفراد أسرهم المباشرين إليها. وفي مؤتمر صحفي، وصفها «بومبيو»، بأنها «محكمة الكنغر» أي محكمة غير رسمية تعمل على نحو لا يلتزم بمعايير القانون، وأضاف: «لسنا مسرورين لمعاقبتهم.. ولكن لا يمكننا السماح لمسؤوليها وعائلاتهم بالمجيء إلينا للتسوق والسفر والاستمتاع بالحريات الأمريكية، في الوقت الذي يسعون إلى محاكمة من يدافع عن هذه الحريات».
ومن جانبه، قال وزير الدفاع الأمريكي «مارك إسبر»: إن «أمتنا لن تسمح بتعرض مواطنين أمريكيين خدموا بلادنا بالخضوع لتحقيقات غير مشروعة». وبالإضافة إلى هذا، ألمح المدعي العام الأمريكي «وليام بار»، إلى أن المحكمة قد تم اختراقها من قبل النفوذ الروسي، وطعن في حياديتها، وشكك في نزاهتها، وزعم كذلك أن وزارة العدل الأمريكية «تلقت معلومات جوهرية ذات مصداقية تثير مخاوف خطيرة بشأن تاريخ طويل من الفساد المالي وسوء التصرف على أعلى المستويات في مكتب المدعي العام للجنائية الدولية». وفي بيان للسكرتيرة الصحفية للبيت الأبيض، «كايلي ماكناني»، أوضحت أن «المحكمة أنشئت لتختص بالمساءلة عن جرائم الحرب، ولكن عمليا شكلت بيروقراطية دولية غير خاضعة للمساءلة وغير فعالة تستهدف وتهدد موظفي الولايات المتحدة وكذلك حلفاؤها وشركاؤها».
وبناء عليه، يبدو واضحا أن الولايات المتحدة -على الأقل في ظل حكم «ترامب»- لن تشارك في أي تحقيق تجريه «الجنائية الدولية». ومع ذلك، إذا كانت واشنطن تأمل في إغراء أي حكومة غربية أخرى لإدانة المحكمة، فيبدو أنهم قد يشعرون بخيبة أمل، إذ لم يؤيد أي من حلفائها قراراتها. وأعاد «جوزيف بوريل»، مسؤول السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، تأكيد دعمه «الثابت» للمحكمة وأكد أنه «يجب احترامها ودعمها من قبل جميع الدول». وساندت فرنسا هذا الدعم، وأصدرت بيانًا ضد محاولات بومبيو تهديدها قالت فيه: «تدعم فرنسا، مع شركائها الأوروبيين، المحكمة الجنائية الدولية، من حيث مساهمتها في ميزانيتها أو في تعاونها معها.. يجب أن تكون قادرة على التصرف وممارسة صلاحياتها دون عوائق، وبشكل مستقل وحيادي، وفي الإطار القانوني المحدد من قبل نظام روما الأساسي».
وكانت «الجنائية الدولية» قد علقت في بيان لها، أن «الهجوم عليها يمثل اعتداءً على مصالح وحقوق الكثير من ضحايا الجرائم والانتهاكات المروعة، فضلا عن أنها تمثل بالنسبة إلى كثير منهم بارقة أمل أخيرة في تحقيق العدالة». كما أثار التحرك لفرض عقوبات عليها انتقادات متوقعة من خبراء الشؤون الخارجية. وقال «ستيفن بومبر» من «مجموعة الأزمات الدولية»: إن «استهداف المحكمة باستخدام العقوبات الاقتصادية، ستكون له تداعيات، وسيؤدي إلى تقويض شرعية العقوبات الأمريكية كأداة لتعزيز حقوق الإنسان وكذلك تقويض الثقة في الولايات المتحدة باعتبارها صوتا لسيادة القانون». فيما أوضح بعض المحللين، أن إجراءات الولايات المتحدة ضد المحكمة الدولية، هو ما ينبغي أن تتخذه ضد منتهكي حقوق الإنسان الحقيقيين في جميع أنحاء العالم. وقال مدير برنامج العدالة الدولية في منظمة «هيومن رايتس ووتش»: إن «تجميد الأصول وحظر السفر ما هو إلا عقوبة لمنتهكي حقوق الإنسان، وليس المدعين العامين والقضاة الذين يسعون إلى تحقيق العدالة لضحايا الانتهاكات الجسيمة في العالم أجمع». وأوضح «ويليام وايت»، أستاذ القانون الأمريكي في جامعة بنسلفانيا: أن «نظام العقوبات الجديد يحمل أوجه تشابه قوية مع تلك التي فرضتها الولايات المتحدة في الماضي ضد الجماعات الإرهابية، والديكتاتوريين، ومنتهكي حقوق الإنسان»، مضيفا كذلك أن هذه الخطوة «قد تقوض إحدى أقوى الأدوات وأسلحة الردع في ترسانة السياسة الخارجية الأمريكية».
وفي واقع الأمر، يعد استهداف «ترامب» للمحكمة الجنائية، ما هو إلا جزء آخر من تراجع إدارته عن قيادة العالم، والانسحاب من أي تعاون مشترك مع الهيئات والمنظمات العالمية. وفي هذا الصدد يصف «ريتشارد هاس»، رئيس «مجلس العلاقات الخارجية»، هذا النهج، بأنه «مبدأ الانسحاب». ومنذ بداية رئاسته، أكد أن سياسة إدارته تقوم على مبدأ «أمريكا أولا»، وتعهد بالانسحاب من عدد من الاتفاقات التي أبرمت في عهد سلفه باراك أوباما؛ باعتبارها أضرت بمصالح البلاد؛ منها اتفاقية «الشراكة عبر المحيط الهادي»، واتفاق نيويورك حول الهجرة. وفي أكتوبر 2019. تعهد بالانسحاب من اتفاق باريس لتغير المناخ لعام 2015. ولطالما كانت وكالات الأمم المتحدة أيضًا أهدافًا متكررة لهجماته. ففي يناير 2019. انسحب من «منظمة اليونسكو». وفي نهاية مايو2020. أعلن أنه سيسحب تمويله ودعمه لمنظمة الصحة العالمية في الوقت الذي يعاني فيه العالم من أزمة صحية طاحنة بسبب فيروس كورونا. وخلال رئاسته، كان هناك أيضًا انسحاب ملحوظ للقوة العسكرية الأمريكية في جميع أنحاء العالم، فإلى جانب انسحاب قواته من سوريا في 2018 والعراق، التزمت واشنطن مؤخرًا بإخراج 9700 جندي أمريكي -30% من قوتها الحالية- من القواعد العسكرية هناك.
على العموم، تعد المحكمة الجنائية الدولية ليست سوى آخر منظمة دولية لم تسلم من بطش ترامب. وعلى الرغم من أن قدرة واشنطن على منع التحقيقات المستمرة بشأن حرب أفغانستان لم تحدد بعد على أرض الواقع، فإن ما هو واضح بالفعل هو أن هذه الخطوة التي اتخذتها لفرض عقوبات على محكمة مستقلة تشكل سابقة غير مرغوب فيها تستهدف خنق هذه الكيانات الدولية وتقويض التعاون الدولي بين الحكومات والمنظمات متعددة الجنسيات، ليتم تذكر رئاسة «ترامب»، على أنها فترة قلصت خلالها الولايات المتحدة الأمريكية من التزاماتها التاريخية الخارجية، وسعت بدلا من ذلك إلى اختيار مبدأ أمريكا أولا.