2/6/2020
سلطة المستشارين في الحكومات الحديثة.. وأزمة حكومة جونسون
عادة ما تحدث سلسلة من الأحداث عندما تواجه إحدى الحكومات فضيحة ما. فبدءا من رفض الشائعات الإعلامية وصولاً إلى الاعتراف بارتكاب مخالفات، عادةً ما تتوج هذه السيناريوهات بتقديم الطرف المسيء استقالته في محاولة مُرتبة بعناية لحفظ ماء وجه حكومته، وتجنب أي إحراج لا لزوم له في المستقبل، إلا أن حالة كبير مستشاري الحكومة البريطانية، «دومينيك كامينغز»، خالفت هذا الاتجاه.
ومن المعروف أن «كامينغز»، عندما كان يعاني من أعراض فيروس كورونا، قاد سيارته لمسافة 260 ميلاً من لندن إلى درهام لزيارة والديه بصحبة عائلته. وتمثل هذه الرحلة خرقا لقواعد الحكومة الخاصة بالحجر الصحي والسفر للضرورة، وذلك قبل فترة وجيزة من تدهور صحة رئيس الوزراء «بوريس جونسون». وبمجرد أن اكتسبت شائعات هذا الخرق زخما إعلاميا، كان رد الفعل الواسع سلبيا للغاية. وانتقدت صحيفة «ذا ديلي ميل»، المؤيدة لحكومة المحافظين، تصرفاته بشدة، ونشر حساب تويتر الرسمي للخدمة المدنية بيانا لاذعا واصفا إياه بأنه «متغطرس ومنتهك». وظهر أيضا فيديو على الإنترنت يوضح قيام بعض المواطنين بمقاطعة حديثه بالقرب من منزله، حيث حكى الكثيرون معاناتهم مع مواجهة الفيروس، كما تم تجاهل التقارير التي تفيد بأنه سافر أيضًا إلى قلعة بارنارد القريبة «لفحص بصره» وكانت محل سخرية على الإنترنت.
وعلى الرغم من حجم وشراسة النقد الموجه ضده، رفض «جونسون» إقالته من منصبه كأحد كبار مستشاري رئيس الوزراء، في الوقت الذي رفض فيه «كامينغز» نفسه الاعتذار في مؤتمر صحفي غير مرتب له ولم يقدم استقالته. ويبدو الآن بعد عدة أيام من الحملة الإعلامية ضده أن المستشار الأكثر نفوذًا في الحكومة قد نجا من واقعة سياسية محرجة. وسواء كانت سمعته تتعافى أم لا، فقد مثل دعم رئيس الوزراء لحليفه السياسي المقرب، مؤشرا قويا على الأهمية التي لا يمكن إنكارها بالنسبة للحكومة الحالية.
وفي حين ركز الرأي العام البريطاني اهتمامه على العوامل الأخلاقية لهذه الحادثة؛ فإن التداعيات السياسية أكثر دلالة على الوضع الحالي للحكومات والدور الذي يلعبه المستشارون فيها، خاصة أنها قد أثارت تساؤلا مهما وهو: هل سيتمكن المسؤولون الحكوميون الآن من تجنب فقدان وظائفهم إذا حافظوا على علاقات وثيقة برئيس وزرائهم مثل التي يتمتع بها كامينغز بشكل واضح؟
وبعد اندلاع الأزمة سارع «جونسون» وكبار مسؤوليه إلى الدفاع عن كبير المستشارين. وعندما سُئل عن سلوكه في مؤتمر صحفي ادعى أنه كان يتصرف «بشكل قانوني» و«مسؤول». وقوبل هذا الرد بغضب شديد وفشل في التأثير على الرأي العام. وعلى الرغم من تراجع شعبية رئيس الوزراء لاحقًا بنسبة 20% بسبب طريقة تعامله مع الفضيحة إلا أنه لا يزال يرفض إقالة حليفه السياسي. وبشكل إجمالي، دعا 24 نائبا محافظا كبير المستشارين إلى الاستقالة أو إقالته، ولكن من دون جدوى. وفي الواقع، فإن العضو الوحيد في الحكومة الذي ترك منصبه احتجاجًا على هذه الفضيحة هو الوزير الاسكتلندي «دوغلاس روس».
وفي حقيقة الأمر، فإن «كامينغز» ليس أول مسؤول كبير يُكتشف خرقه لقواعد الإغلاق. واستقال كبير خبراء الأوبئة والمستشار الحكومي، «نيل فيرغسون»، وكبيرة مسؤولي الصحة في اسكتلندا، «كاثرين كالديروود»، بعد مخالفات أقل أهمية بكثير من هذه الفضيحة. وبدلاً من تقديم الاعتذار أو الاستقالة، اختار «كامينغزو» الانحياز لأفعاله. ومع تزايد الضغط الإعلامي اتخذ خطوة غير مسبوقة بعقد مؤتمر صحفي في حديقة مقر الحكومة في 10 داونينغ ستريت، وهو مكان مخصص عادة لخطب رئيس الوزراء، حيث دافع، وهو لا يشعر بالأسف، عن أفعاله بالقول صراحةً: «أنا لست نادمًا على ما فعلته.. أعتقد أن الأشخاص العقلاء قد يختلفون تماما حول طريقة تفكيري فيما أفعله في تلك الظروف، ولكن أعتقد أن ما فعلته كان عقلانيا بالفعل».
وسواء جاءت فكرة هذا المؤتمر من «جونسون» أو «كامينغز»، فهي غير واضحة. وأشار كل من «كارلا آدم» و«آدم تايلور» في صحيفة «واشنطن بوست» في أغسطس 2019، إلى أنه «على الرغم من شخصيته البارزة، لا يقوم كبير المستشارين بإجراء مقابلات»، وعلى ما يبدو «ملتزما بمدونة سلوك المستشار الخاص». كما كتبت «سيسيل دوكورتيو» في صحيفة «لوموند» الفرنسية أنه «عادة، يبقى المستشارون الخاصون في الظل.. وفي أسوأ الأحوال يستقيلون عندما تسوء الأمور، فهم لا يتحدثون في العلن أبدًا.. ولكن ما حدث أنه لأكثر من ساعة، أخذ يتحدث ويؤكد أن كل ما فعله تم «بشكل عقلاني»، من دون خرق القواعد».
ولفهم سبب نجاة «كامينغز» من هذا النوع من الأخطاء السياسية التي كان من شأنها إنهاء الحياة السياسية للعديد من مسؤولي الحكومة الآخرين، من المهم فهم الدور البارز الذي يلعبه في تشكيل السياسة الداخلية البريطانية في الحكومة الحالية. ويعد المستشار نفسه بلا شك شخصية معقدة. وعلى حد تعبير «جورج باركر»، من صحيفة «فاينانشال تايمز»، فإنه: «شخصية شعثاء بصوت ناعم وبمظهر عالِم غريب الأطوار». ولكن خلف هذا المظهر الوهمي، هناك تصميم وعزم راسخان لتغيير السياسة البريطانية. وقد وُصف بأنه «قوة الطبيعة وراء سياسات الحكومة». وهو الاستراتيجي الرئيسي لحملة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي الناجحة في عام 2016. ووفقًا لـ«إيشان ثارور» من صحيفة «واشنطن بوست»: «لقد أدى تاريخه الوظيفي إلى عقد مقارنات لجميع أنواع مخططي السياسات في الغرف الخلفية، بدءا من راسبوتين، وصولاً إلى مستشار ترامب السابق والمشاكس المتشدد ستيفن بانون». ويمثل المستشار البالغ من العمر 48 عامًا، «تفعيل الخطاب المناهض للمؤسسة الذي برز في السياسة الغربية في السنوات الأخيرة». وعلى حد تعبير «توم ماكتيغ» في مجلة ذا أتلانتيك، فإنه: «فوضوي ليبرالي يستخف بحزب جونسون المحافظ، وما يراه كنخبة ليبرالية في ويستمنستر».
وفي فترة وجوده القصيرة في الحكومة، كان الهدف الرئيسي لحملته من أجل التغيير هو جهاز الخدمة المدنية البريطاني -ترفعا عن سمعته في رفضه المستمر للتطور- حيث حاول إدخال العديد من الإصلاحات، ومعظمها لا يحظى بشعبية، لتغيير ثقافة العمل به. وعلى خلفية الحجة القائلة بأن «الحياد السياسي للخدمة المدنية ينتج خبراء من دون انتماءات سياسية يمكنهم تقديم المشورة النزيهة للمسؤولين»؛ يؤكد «كامينغز» أن هذا النهج يحرم الجهاز من القدرة على إيجاد طرق بديلة للعمل، بل يبقي على اتجاهه لإضاعة الوقت والموارد مع الحفاظ على الوضع القائم الذي عفا عليه الزمن.
وفي يناير 2020، دعا في مدونته الشخصية، «علماء البيانات ومديري المشروعات وخبراء السياسة وغيرهم من المتخصصين الغريبي الأطوار» للتقدم لوظائف حكومية. ويواصل «ماكتيغ»، قوله إنه: «من الأفضل فهم منظور «كامينغز» من ناحية فلسفية، وليس من خلال منظور سياسي يساري أو يميني تقليدي.. إنه منظور ثوري في طبيعته، يسعى إلى تغيير منهجي، وليس فقط إصلاحًا للسياسات، ويعني أن الإخفاقات الفردية لا تُفسَّر على أساس وقائعها المحددة وحدها، ولكن كجزء من معركة أوسع حول طبيعة الحكومة نفسها».
وباعتباره القوة المحركة للتغيير السياسي في الحكومة الحالية، ليس من المستغرب تردد «جونسون» في إقالته. علاوة على ذلك، يعكس أيضا بقاؤه في منصبه كأحد كبار المستشارين، الأهمية المتزايدة لكبار المستشارين في الحكومات. وفي المملكة المتحدة يبرز التأثير الكبير للسكرتيريين الصحفيين في الشؤون الحكومية. ومن بين أبرز هؤلاء «برنارد أنغهم»، المستشار الإعلامي في حكومة «مارغريت تاتشر»، و«ألاستير كامبل»، المستشار الإعلامي في حكومة «توني بلير». ويأخذ تأثير «كامينغز» فكرته إلى آفاق جديدة، حيث يزعم العديد من النقاد أنه هو الذي يدير البلاد في الواقع.
وقد يبدو هذا النموذج الحكومي من كبار المستشارين الذين لديهم وزن سياسي كبير غير مرحب به من قبل الكثيرين في ويستمنستر، بيد أنه أمر شائع في واشنطن. وفي الواقع، أصبح اعتماد الرؤساء الأمريكيين على معاونيهم الذين يحملون ألقابا، مثل «المستشار الخاص» أو «كبير الاستراتيجيين» هو القاعدة. في الفترة الأولى من رئاسة «دونالد ترامب» المضطربة، عمل «ستيف بانون»، المحرر السابق في شبكة بريتبارت الإخبارية، في منصب «كبير الاستراتيجيين»، حيث لعب دورًا رائدًا في صياغة كل من السياسة الداخلية والخارجية كجزء من حملة ترامب «أمريكا أولاً». كما قام الرئيس الأمريكي بتجنيد خدمات صهره، «جاريد كوشنر»، كمستشار خاص. ومن بين المهام الكبيرة في نطاق اختصاص كانت خطة الحكومة الأمريكية للسلام في الشرق الأوسط في يناير 2020.
وبطبيعة الحال، يذهب بنا دور «كامينغز» المتزايد في شؤون الحكومة إلى عقد مقارنة بالنموذج الأمريكي. ووصف «جيمس بالمر» من مجلة «فورين بوليسي، كبير المستشارين بأنه: «ستيف بانون بالنسبة للرجل المسكين (جونسون) في بلد مازال يهتم بالقواعد في بعض الأحيان».
ويقابل مثل هذا التوبيخ الآن رفض «جونسون» عزل مستشاره الأكثر ثقة من الحكومة على خلفية هذه الفضيحة، الأمر الذي يجعل هناك تساؤلا عما إذا كان أحد المسؤولين الحكوميين سينجو من مثل هذا الإحراج السياسي، وهل سيحصل على مثل هذا الدعم الراسخ من رئيس الوزراء؟ في الواقع قد لا يبدو مثل هذا السيناريو مرجحا، بالنظر إلى استقالات أعضاء الحكومة في أعقاب أحداث ذات ضجة سياسية أقل بكثير. وأُجبرت وزيرة الداخلية الحالية «بريتي باتيل»، على الاستقالة من منصب وزيرة الدولة لشؤون التنمية الدولية في عام 2017 بعد فضيحة تنطوي على اجتماعات غير معلنة مع الحكومة الإسرائيلية، واضطرت «أمبر رود»، إلى الاستقالة من منصب وزيرة الداخلية في عام 2018 بسبب فضيحة ترحيل المهاجرين «ويندراش»، لذلك يبدو أن «كامينغز»، قد حصل على مستوى من الدعم السياسي من أعلى السلطة لم يتوافر دائمًا لأعضاء المناصب العليا في السياسة البريطانية.
على العموم، مثلت التصرفات المثيرة للجدل التي قام بها كبير المستشارين معضلة أخلاقية واضحة بالنسبة للحكومة البريطانية، حيث خرق القواعد التي فرضتها من أجل الحفاظ على الصحة العامة في حالة الأزمة. وعلى الرغم من مطالبة معظم المراقبين والمعلقين بإقالته لم يلجأ «جونسون» إلى ذلك الخيار، ما يشير بوضوح إلى أنه شخصية ذات أهمية كبيرة له كحليف سياسي وصانع للسياسات، أو أنه أكثر أهمية له من كبار أعضاء الحكومة.
وهكذا، على الرغم من أن الخلاف السياسي الذي يحيط بكبار المستشارين الذين يخالفون قواعد الإغلاق يبدو أنه قد تلاشى، يبقى أن نرى ما إذا كان «كامينغز» سيعزز دور كبير المستشارين الحكوميين في السياسة البريطانية أم لا.