26/5/2020
كارثة فيروس كورونا أخطر تحدٍ لبوتين كزعيم وطني
في 8 مايو 2020، احتفلت روسيا بالذكرى 75 لاستسلام ألمانيا ونهاية «الحرب الوطنية العظمى». وفي «مينسك»، عاصمة بيلاروسيا المجاورة لها أقيم موكب انتصار فخم مع استكمال مسيرة الجنود والدبابات وعرض جوي للطائرات العسكرية. ومع ذلك، لم تكن هناك احتفالات مماثلة على بعد 700 كيلومتر شرقا في موسكو، التي تكافح ضد جائحة فيروس كورونا؛ فقد أصبحت أكبر مدينة في روسيا مركزا لانتشار الفيروس، ويتم الإبلاغ عن مئات الحالات الجديدة كل يوم.
وفي بداية الأزمة، أرسلت روسيا مساعدات إلى الولايات المتحدة، في إشارة إلى أنها في منأى عن الوباء. وإلى وقت قريب، كان انتشار الجائحة إلى حد ما بعيدا عن أعين وسائل الإعلام الغربية، حيث أبعد التركيز على صراعات الولايات المتحدة والصين والمملكة المتحدة في معاركها الخاصة ضد الفيروس، الانتباه عن الحالة الروسية؛ لكن تغير الوضع بعد الأخبار التي أفادت بأنها لديها ثاني أكبر عدد من الإصابات بالفيروس في جميع أنحاء العالم بعد الولايات المتحدة، الأمر الذي بدا معه الرئيس الروسي، فلاديمير بوتن في تحد صعب لاحتواء الأزمة وتداعياتها الصحية والاقتصادية.
وفقا للإحصاءات الرسمية، يوجد في روسيا حتى يوم 17/5، ما يقرب من 272.043 حالة إصابة مؤكدة بالفيروس، بالإضافة إلى أنها ثاني أسرع معدل للعدوى نموا في العالم. وقد تم الإبلاغ عن أكثر من 10.000 حالة جديدة خلال عشرة أيام متتالية، ووقعت أكثر من نصف الإصابات والوفيات في العاصمة موسكو، وكان من بين المصابين رئيس الوزراء الروسي، «ميخائيل ميشوستين»، والمتحدث باسم الرئيس، بوتين؛ الأمر الذي عزز المخاوف من احتمال إصابة الرئيس نفسه. وعلى النقيض، تم تسجيل نحو 2.537 حالة وفاة فقط بكوفيد-19، وذلك مقارنة بالعدد الكبير لحالات الإصابة المؤكدة. ويعد عدم التطابق بين عدد الإصابات والوفيات سببا واضحا للقلق بشأن مصداقية الإحصاءات الروسية الرسمية والنطاق الحقيقي لكارثة فيروس كورونا في البلاد.
ويشير تحليل أجرته صحيفة «فاينانشال تايمز»، إلى أن عدد الوفيات الحقيقي يمكن أن يكون أعلى بنسبة 70% من الرقم الرسمي. وكشفت ملاحظة للوفيات المسجلة في موسكو وسانت بطرسبرغ، عن وجود 2.073 حالة وفاة إضافية في أبريل2020، نسبة إلى متوسط الوفيات في نفس الشهر للسنوات الخمس الماضية. ويختلف هذا الرقم عن عدد الوفيات الرسمي بكوفيد-19 المشترك البالغ 629 في هاتين المدينتين. وإذا تمت إضافة هذه الوفيات الزائدة البالغ عددها 1.444 إلى العدد الرسمي للوفيات البالغ 2.009، فإن هذا يمثل زيادة بنسبة 72% في الوفيات جراء الفيروس. ويشير «إيفان نيشبورنكو» في صحيفة «نيويورك تايمز»، إلى نمط مماثل من الوفيات غير المبررة في بيلاروسيا، حيث رفض الرئيس ألكسندر لوكاشينكو تنفيذ إجراءات الإغلاق أو التباعد الاجتماعي.
وتشير الحالة الروسية -من ارتفاع عدد الإصابات مقابل انخفاض عدد الوفيات الرسمية- إلى طريقة التعامل مع الجائحة من قبل الحكومة الصينية. ورسميا، سجلت الصين 82.929 حالة إصابة مؤكدة، مع تسجيل فقط 4.633 حالة وفاة. ويثير المعدل المنخفض للغاية للوفيات المسجلة في كل من الصين وروسيا، وخاصة عند مقارنتها بتأثير الفيروس في أوروبا الغربية والولايات المتحدة، أسئلة جدية حول جدوى مصادر المعلومات في رسم خرائط الانتشار العالمي للوباء، كما يشير إلى مدى محاولة بعض الأنظمة التخفيف من آثار الصحافة السلبية على استقرار أنظمتها.
وأرجع بعض المحللين أسباب انتشار جائحة «كوفيد-19»، في روسيا على نطاق واسع إلى ضعف الخدمات الصحية. وأثارت الوفيات الغامضة لثلاثة أطباء روس، بمن فيهم رئيس مستشفى في مدينة «كراسنويارسك» بغرب سيبيريا، مخاوف بشأن تعامل الحكومة مع الكارثة الصحية العامة. وقد سقط الثلاثة من نوافذ المستشفى في ظروف غير واضحة. وأفادت صحيفة «واشنطن بوست»، بأن اثنين أصيبا بالفيروس وأُلقي باللوم على ثالثهما لنشره الفيروس. وعلى الصعيد الوطني، يمثل الأطباء والممرضات 7% من الوفيات المُسجلة بالفيروس التاجي، ووعد الرئيس بوتين بتخصيص 132 مليون دولار مكافآت للعاملين في مجال الرعاية الصحية وهو ما لم يتحقق بعد.
وتعكس طريقة تعامل المستشفيات الروسية مع حالات الإصابة الاستجابة السيئة التي بدأتها الحكومة. وأشارت الإحصاءات الرسمية المبكرة إلى أن معدلات الإصابة كانت منخفضة في بداية انتشار الوباء حول العالم، لكنّ الكرملين فوض وزراء ومساعدين من المستوى الأدنى لمعالجة الأزمة. وفي خطاب ألقاه في منتصف أبريل، أعلن الرئيس الروسي، «بوتين»، أن «الوضع تحت السيطرة تمامًا». ولكن حتى مع انتشار الوباء، ألغى أمرًا وطنيًا سابقًا بالبقاء في المنزل وأبعد أيضًا المساءلة عن الحكومة من خلال وضع المسؤولية عن إدارة انتشار الفيروس على حكام الأقاليم.
وتمتد الانتقادات الموجهة إلى دور بوتين في هذه الأزمة إلى أبعد من ذلك، فقد أعلن أن «الإغلاق المفروض من قبل الحكومة الفيدرالية قد انتهى، ولكن لا يزال لدى المحافظين الإقليميين الحق في فرضه على أراضيهم». وعلى الرغم من أن منح المحافظين مسؤولية تحديد أفضل نهج لمكافحة الوباء يبدو صحيحا في ظل تباين الحالة الاقتصادية والاجتماعية والصحية العامة في هذا البلد الشاسع، فإن إلقاء المسؤولية عليهم في الوقت الذي يفتقرون فيه إلى الأموال أو السلطات أو التوجيه المتخصص قد يؤدي إلى عواقب كبيرة.
وعلى سبيل المثال، وزعت الحكومة بعض الأموال على الأقاليم، لكنها في الوقت نفسه فرضت تعليمات صارمة حول استخدامها، فضلا عن عدم توافر رأسمال احتياطي لدى قادة المناطق والمدن لتمويل أي استراتيجية مميزة لمكافحة الفيروس باستثناء قادة موسكو وسان بطرسبرج وتتارستان. علاوة على ذلك، حتى لو توافرت لهم السلطات والموارد، فمن الصعب أن يضعوا استراتيجية جادة مصممة خصيصا لظروف محلية محددة، ذلك أن الأمر يتطلب نوعا من التوجيه العلمي المتخصص الذي يرتكز إلى حد كبير على المستوى الفيدرالي. وحتى مع امتلاك الحكومة احتياطيات تصل قيمتها إلى 600 مليار دولار، فإنها لا ترغب في إنفاق هذه الأموال لمعالجة هذه الأزمة.
يقول محلل الشؤون الروسية، «مارك غاليوتي»، إن «بوتين عمد إلى الابتعاد عن مسؤولية التعامل مع الوباء والإجراءات الصعبة لمكافحته، ورغم أنه أنشأ نظاما سياسيا شديد المركزية، فإنه قرر ألا يكون القائد العام لهذه الحرب، وبدلا من ذلك أجبر الزعماء المحليين على اتخاذ القرارات الصعبة، وباتوا مطالبين بإنقاذ الأرواح والاقتصاد، بينما اتخذ هو موقع المتفرج الذي يوجه إليهم الانتقادات». مضيفا: إن هذا «يُعد تخليا عن المسؤولية، فقد اكتشف فجأة مهندس النظام الرئاسي في روسيا أن هناك سلطات محلية بالبلاد عندما بدا له ذلك مناسبًا». وتشير «تاتيانا ستانوفايا» من مركز «كارنيجي»، إلى أن «استجابة بوتين الأولية لتفشي الفيروس كانت ضعيفة نتيجة ميل موظفيه إلى تجميل الحقائق، فقد انصبت تقاريرهم على إنجازاته وليس على المشاكل». وبالمثل، رأى «هنري فوي» في صحيفة «فايناننشال تايمز»، أنه «في ظل نظام البيروقراطية كانت هناك تناقضات في تنفيذ جهود مكافحة الوباء، حيث سمحت بعض المناطق للمواطنين بتجاهل تدابير الحجر الصحي في حين تشددت الإجراءات في مناطق أخرى».
وفي ظل غياب دور الدولة، خصصت بعض الشركات الكبرى والأفراد مبالغ طائلة لمحاربة الوباء. وكتب «انطون ترويانوفسكي» في صحيفة «نيويورك تايمز» أن «طبقة الأثرياء أصبحت شخصيات مركزية ومؤثرة في الاستجابة الوطنية للوباء». وعرض رجل الأعمال «فلاديمير بوتانين»، 150 مليون دولار لمكافحة الفيروس، كما وعد «بوتين جينادي تيمتشينكو»، بمبلغ 17 مليون دولار لشراء أجهزة تنفس اصطناعي. علاوة على ذلك، تعهد قطب المعادن، «أوليغ ديريباسكا»، أيضًا بتمويل بناء مراكز للعلاج في سيبيريا.
وحتى مع هذه الجهود، لم يتوقف انهيار الاقتصاد في الأسابيع الأخيرة. ومع افتقارها لأية إيرادات من قبل الصادرات النفطية، فتحت «موسكو»، صندوقا احتياطيا وطنيا بقيمة 165 مليار دولار لدعم صناعة النفط المتعثرة وسد العجز في موازنة الدولة جراء نضوب إيرادات صادرات النفط. وحاليا، بدأ يتم استنزاف هذا الصندوق بمعدل يزيد على 300 مليون دولار يوميًا، وبالتالي سيتم إفراغه في غضون عامين فقط إذا ظل الإنفاق بخطى ثابتة.
وفي الوقت الحالي، شُكلت لجنة حكومية مختصة بتعزيز الاقتصاد ومواجهة تداعيات تفشي الوباء، وبادرت بإجراءات انكماشية، فألغت منتديات اقتصادية دولية كبرى كانت تنظمها سنويًّا في البلاد، مثل منتدى «كراستو بارسك الاقتصادي»، الذي كان من المقرر أن ينعقد ما بين 19 و21 مارس، كما تم تأجيل انعقاد منتدى «بطرس بورج الاقتصادي الدولي» الذي كان من المقرر أن ينعقد ما بين 3 و6 يونيو. وبحسب تقديرات مصلحة الجمارك الفيدرالية، فإن خسائر كورونا تبلغ نحو مليار روبل يوميًّا، وتحول هذه المصلحة إلى الخزانة الروسية نحو 5.34 تريليونات روبل سنويًا، فيما كان من تداعياته تراجع أسعار النفط وانخفاض قيمة الروبل، ليبلغ 67.92 روبل لكل دولار، و76.86 روبل لكل يورو، وكان من الممكن أن ينشط هذا الانخفاض الصادرات الروسية، لكن حالة الركود الاقتصادي العالمية منعت نشاطها.
ومع ذلك، توقع المراقبون انكماش النمو الاقتصادي بنسبة 6% على الأقل في عام 2020، وأن تتضاعف مستويات البطالة. ويبلغ حجم الدعم المالي المقدم للأشخاص والشركات المتضررة من الفيروس 40 مليار دولار فقط، أي ما يعادل 2.8% من الناتج المحلي الإجمالي. ويعد هذا معدل أقل بكثير مما التزمت به البلدان الأخرى، كما أن المساعدة المالية التي بلغت 160 دولارا التي قدمتها الحكومة للعمال لتغطية جزء من رواتبهم لشهري أبريل ومايو تظل بلا أدنى فائدة، حيث تم إتاحتها فقط للشركات التي أبقت على استمرار عمل90% من موظفيها. كما أن المبلغ المقدم يظل غير مناسب تمامًا؛ فهو لا يغطي سوى ثلث متوسط الراتب فقط.
وبعد إلغاء الأمر الوطني بالبقاء في المنزل، سيعود 500 ألف عامل إنشاءات وإنتاج إلى العمل، وهو ما يهدد بارتفاع آخر في حالات الإصابة بالفيروس. وتشير صحيفة «فاينانشيال تايمز»، إلى عدم اهتمام بوتين الواضح بالأمور الاقتصادية كان سببا رئيسيا في المعضلات الاقتصادية التي تشهدها البلاد. ففي معظم فترة رئاسته، ركز على السياسات الخارجية والدفاعية والأمنية، وترك الأمور الاقتصادية والمالية بشكل رئيسي لرئيس وزرائه وكبار مساعديه.
وبصرف النظر عن الصحة العامة والأضرار الاقتصادية؛ قد تكون هناك أيضًا عواقب سياسية خطيرة تحدق بروسيا. فقد تراجعت معدلات الثقة في بوتين خلال الأزمة؛ وتمنح تقييمات شهر مارس تصنيفًا إيجابيًا له بنسبة 63%. ويبدو هذا الرقم مرتفعًا جدًا بالنسبة إلى سياسي يقود دولة في حالة طوارئ، لكن مع عدم وجود خصوم سياسيين رئيسيين وتقديرات سابقة تزيد بنسبة أكبر من 80% في السنوات القليلة الماضية بات هناك تراجع واضح لشعبيته خلال هذه الأزمة. وتشير أحدث الأرقام إلى تراجع ثقة الجمهور بالرئيس الروسي بنسبة 28% فقط، وهو أدنى رقم منذ عام 2006.
وتهدد التداعيات السياسية خطط بوتين لتطبيق تعديلات على الدستور، والتي ستمنحه سلطات سياسية أكبر بمجرد انتهاء ولايته. ويعتقد «مارك غاليوتي»، أن «هذا هو أخطر تحد يواجه الرئيس الروسي كزعيم وطني في السنوات العشرين التي قضاها في السلطة». وتضيف «تاتيانا ستانوفايا»، إنه «لسوء الحظ، يسلط الوباء الضوء على واقع طال أمده.. لقد أصبح بوتين منفصلا بشكل متزايد عن الأمور والقضايا الداخلية لدولته وبات يفضل تقويضها بدلا من حلها».
على العموم، لا يمكن التقليل من تداعيات كورونا على الصحة العامة والحالة الاقتصادية في روسيا. وعلى الرغم من أن الأرقام الرسمية لا تزال عرضة للشك نتيجة عدم التطابق بين معدل الإصابة المرتفع للغاية ومعدل الوفيات المنخفض للغاية؛ فمن المؤكد أن قيادة «بوتين» كانت غير كافية في تجنب هذه الكارثة. وكان من المفارقة أن يعيد لا مركزية السلطة إلى أجندته في حين لا تزال القوى والأصول والميزانيات الرئيسية ثابتة في يديه، الأمر الذي أدى إلى تقويض الاستجابة للوباء.