top of page
15/5/2020

الخليج العربي والقرن الإفريقي.. نحو نظام إقليمي جديد

اكتسب البحر الأحمر أهمية جيوسياسية كبيرة، نظرًا إلى أنه ملتقى ثلاثي قارات العالم القديم، وكونه حلقة الوصل بين ثلاث مناطق إقليمية مهمة في العالم، وهي: القرن الإفريقي ومنطقة الخليج والشرق الأوسط؛ الأمر الذي زاد من حدة الاستقطاب بين دول الخليج مثل: السعودية وقطر والإمارات بسبب التنافس القوي بينها على اقتسام الموارد المتاحة والاستثمار فيها، وبسط نفوذها على الدول الجديدة والقوى القديمة، مثل: الصين والاتحاد الأوروبي وأمريكا، وهو الأمر الذي أدى إلى تبعات سياسية وأمنية متشعبة.

 

وفي هذا الصدد، قام «زاك فيرتين»- من مركز «بروكنجز» - بنشر تقرير بتاريخ 3/11/2019. تناول فيه كيفية هيكلة دول الخليج وشرق إفريقيا والعلاقات المتزايدة بينها، وفي هذا التقرير سلط الضوء على طرق الدمج بين المصالح الخليجية والمصالح الشرق إفريقية في السنوات الأخيرة، لزيادة التنمية الاقتصادية، وتقليل المخاطر الأمنية، والتغلب على الخلافات السياسية التي ستنشأ بينها، بسبب المنافسة التي ستصدرها القوى المحلية والإقليمية والدولية.

 

ووفقا لهذه الحيثيات تُناقش حكومات ساحلي البحر الأحمر تأسيس ما يُسمى بـ«منتدى البحر الأحمر»، وهو عبارة عن منظمة متعددة الجنسيات، تتألف من دول الخليج ودول شرق إفريقيا، وتتمتع بسلطة التشريع والتحكيم في القضايا السياسية والأمنية والاقتصادية، وعلى مدار عام كامل أُطلقت العديد من المبادرات الهادفة إلى حوكمة هذا النوع من العلاقات بمقاربات متعددة، ومستويات مختلفة من النجاح.

 

وفي الواقع، لم يكن «فيرتين» أول من تعرض لهذا الموضوع؛ حيث أشار «أليكس دي وال»- من كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية في تقرير عام 2017 - إلى أن «من سمات منطقة القرن الإفريقي والبحر الأحمر عدم وجود مجتمع أمني متفاهم»، ومن ثم «هناك حاجة ملحة الى تعددية تشمل آلية أمنية جماعية لا تضم فقط دول المنطقة ولكن أيضًا المناطق المجاورة، وتعددية أعمق، تشمل جداول الأعمال الأمنية والاقتصادية والحكومية والديمقراطية في منطقة البحر الأحمر».

 

بداية، بيَّن «فيرتين» وقدم حُججا قوية للفوائد المحتملة لولادة هذا المنتدى، موضحًا أن الدافع وراء ذلك هو رغبة دول الخليج في تأمين أهداف سياسية معينة، ووفقًا لمقال مجلة «ذا إيكونوميست» البريطانية، «بالنسبة الى السعودية كان الاهتمام المتجدد بالقرن الإفريقي مدفوعًا في المقام الأول بالمنافسة مع إيران»، وأضاف «فيرتين» أنه «في عام 2014 شجعت السعودية كلا من السودان وإريتريا على قطع العلاقات مع إيران وطرد الدبلوماسيين الإيرانيين»، ومنذ ذلك الحين بذلت جهود كبيرة لضمان عدم إحراز إيران أي تقدم جديد في المنطقة كما فعلت في اليمن.

 

ومن جانبها أعطت الإمارات الأولوية للعمل مع الدول المحلية، للقضاء على الجماعات المتشددة في شرق إفريقيا؛ وهي المنطقة التي كانت مرتعا للنشاط السياسي المتطرف، من قبل جماعة الإخوان المسلمين، التي تسعى للحصول على مأوى في السودان، إلى جانب الجماعات الإرهابية الجهادية، مثل: حركة الشباب في الصومال وكينيا.

 

لقد شاركت السعودية والإمارات في تحالف دولي في الحرب اليمنية الدائرة منذ عام 2015؛ حيث اقتضت الحرب المندلعة إقامة وجود عسكري وسياسي متزايد في المنطقة، وظهر ذلك في تجاوب السودان مع مبادرة التحالف ودعمها عبر التدخل بالقوات البرية، واستخدام المملكة والإمارات الموانئ والقواعد في جيبوتي لدعم الحصار البحري ضد الحوثيين في الموانئ اليمنية، والمنطقة كانت منذ عام 2017 ساحة لنزاع آخر ناشئ عن أزمة مجلس التعاون الخليجي الحالية، فقد سعت قطر إلى توسيع نفوذها في المنطقة عبر الدول والفصائل وحتى قبل اندلاع هذه الأزمة، في تحد مباشر للسعودية والإمارات، كما عملت على ازدياد هذا النفوذ ردا على مقاطعتها من قبل حلفائها السابقين؛ وقد فعلت ذلك من خلال الاستثمارات والتواصل السياسي في بلدان، مثل الصومال وإثيوبيا وجيبوتي.

 

ويعد توسيع العلاقات الاقتصادية المشتركة أساس هذا التواجد السياسي والأمني لدول مجلس التعاون في شرق إفريقيا؛ ولذلك ازدادت الاستثمارات التجارية الخليجية بشكل كبير في المنطقة لحاجة هذه الدول إلى تنويع اقتصاداتها، وفي هذا السياق يقول «ويل تودمان»- من مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن-: «طورت دول مجلس التعاون الخليجي استراتيجياتها، وقللت اعتمادها على النفط من خلال استثمارها في الأسواق الإفريقية؛ حيث ازدادت أهميتها بعد انهيار أسعار النفط في عام 2014»، وأضاف أن «الاستثمارات في إفريقيا تعد وسيلة لتحقيق الأمن الغذائي للدول الخليجية»؛ حيث تنمو مشتريات المزارع وتدفقات التجارة الزراعية إلى دول مجلس التعاون الخليجي.

 

ويقدم «فيرتين» تصوره حول كيفية تنظيم هذه المشاركة المتزايدة وتنميتها، وكيفية تنظيم هذا المنتدى وإدارته، فيرى أن «هناك نظاما جديدا في المنطقة في طور الإعداد، على الرغم من أن طابعه- كمنطقة تنافس أو تعاون – لم يحدد بعد»، من أجل ضمان أن يسود المنطقة طابع التعاون بدلا من التنافس، ويقترح إنشاء «إطار عمل للحوكمة عبر الإقليمية» يشبه مجلس دول بحر البلطيق وغيره من المنظمات الجيوسياسية، بحيث يطلق عليه اسم «منتدى البحر الأحمر».

 

ويرى «فيرتين» أن قيام هذا المنتدى من شأنه إفادة دول الخليج ونظرائها الأفارقة؛ ووجوده سيعمل على تحقيق أقصى قدر من الأهداف الاقتصادية والسياسية والأمنية، ومستقبليا سيكون وجوده ضروريًا لضمان احتفاظهم بدرجة من السلطة في المفاوضات والمناقشات حول الموضوعات ذات الأهمية، ولهذا جاء في التقرير: «بالنسبة إلى الدول النامية في القرن الإفريقي، يُشكل المنتدى منصة لإدارة الموجة في الانخراط الخارجي الجديد، بما في ذلك إعادة موازنة العلاقات غير المتكافئة أبدا مع الدول الخليجية الغنية».

 

وقد حظيت- في الآونة الأخيرة- المبادئ التأسيسية والخصائص المحددة لـ«منتدى البحر الأحمر» باهتمام كبير بين صانعي السياسات على كل من المستوى المحلي والإقليمي والدولي؛ حيث اتسمت الفكرة بالمصداقية منذ عام 2017 على الأقل- وفقا للباحث- وكان الموضوع محل نقاش على أعلى المستويات في الاتحاد الأوروبي؛ ولذلك استضافت ألمانيا مؤتمرا في 2018 لمناقشة اقتراح إنشاء منظمة على غرار «منتدى البحر الأحمر»، رغم قلة حضور الدول المحلية، وفشلت محاولات مماثلة لجهود الاتحاد الإفريقي والهيئة الحكومية للتنمية «إيقاد»- وهي اتحاد من 8 دول في شرق إفريقيا-، حيث عقدت كلتا المنظمتين مؤتمرات واجتماعات ثنائية وحلقات نقاشية، ولكن لم يتم تنفيذ الكثير بعد الاجتماعات، على ما يبدو كنتيجة للافتقاد إلى الحماس.

 

على الجانب الآخر تعدُّ جميع المبادرات التي تمت في السنوات الأخيرة، والتي تبنتها المملكة العربية السعودية الأكثر نجاحًا- وإن أحجمت بعض الدول عن المشاركة لرفضها السماح للقوى الخارجية بإملاء شروط؛ مفضلين أن تبقى شأنا محليا- حيث توجت جهود المملكة، التي شملت جماعات الضغط المحلية والمؤتمر الذي عقد في الرياض في 12 ديسمبر 2018, بحضور وزراء خارجية مصر وجيبوتي والأردن والصومال والسودان واليمن، بخطة لتأسيس- في نهاية المطاف- إطار عمل اسمه: «مجلس الدول العربية والإفريقية المشاطئة للبحر الأحمر وخليج عدن».

 

وإلى الآن تتوافر معلومات قليلة عن المخطط، مما يجعل من الصعب مناقشة التفاصيل، ومع ذلك، فقد ألقى تقرير صادر عن (كاسلرا)- وهي شركة لدراسة المخاطر السياسية- بعض الضوء على تكوينه، ومما جاء فيه: «ليس فقط تعزيز الاستقرار في المنطقة عن طريق زيادة التعاون الإقليمي لتجاهل التأثير الخارجي السلبي، سيتم هيكلة الكيان من أجل خلق تعاون بين مختلف البلدان والعمل بشكل رئيسي كمحرك للتنمية الاقتصادية والأمن البحري». وأضاف التقرير أيضًا أن الخطة ستتضمن في النهاية مجموعة واسعة من الدول المحلية، مثل إريتريا، وربما الدول الساحلية غير المُطلة على البحر الأحمر، والتي تمتلك مصالح في المنطقة، مثل: سلطنة عُمان والإمارات العربية المتحدة.

 

وفي ظل حيثيات التأسيس المطردة وحالة المخاض المتعثرة التي قد تنتج عنها ولادة هذا الكيان تتواجد بعض التحديات التي تواجه أي منظمات متعددة الأطراف، تسعى إلى تحقيق الارتباط؛ أولها هو صعوبة التمييز بين الدول التي ينبغي أن تنضم إلى مُنتدى البحر الأحمر، فقد أبدت بعض الدول كمصر اهتمامًا بإدراج الدول المطلة على البحر الأحمر مباشرة في المنتدى، لمواجهة أي منافسات أو صراعات إقليمية واسعة النطاق، ومع ذلك، فإن هذا المنتدى بحسب ما يشير «فيرتين» يسلط الضوء على أهمية إدراك دور الدول الخارجية وممارستها النفوذ على المنطقة كي تلعب دورًا رئيسيًا في تشكيل التطورات الاقتصادية والسياسية والأمنية.

 

إجمالا يمكن القول: إن دول شرق إفريقيا والخليج ستستفيد من تأسيس وتطوير «منتدى البحر الأحمر» بصورة تدريجية وفق رؤية «فيرتين»؛ لأن هذا المنتدى سيقدم استفادة حقيقية لجميع المنضمين إليه، عن طريق التقليل إلى أدنى حد من أشكال التنافس السياسي والاقتصادي، والاتجاه إلى تعظيم أوجه التكامل التنموي، وزيادة التعاون الأمني، وتنمية العلاقات الدبلوماسية؛ ورغم وجود عدد من التحديات، فيما يتعلق بتكوين هذا المنتدى والاتفاق على شكله وتوجهاته، مما يجعل من الصعب تأسيسه، فإن هذا التقرير مهم؛ لأنه وضَّح للمسؤولين في الخليج وشرق إفريقيا ما ينبغي عليهم فعله، من إعطاء الأولوية لهذا المشروع، واعتباره ضرورة حتمية لتأمين مصالحهم الاقتصادية والسياسية والأمنية بالتزامن مع استمرار نمو علاقاتهم المطردة.

{ انتهى  }
bottom of page