27/4/2020
تداعيات انهيار أسعار النفط الأمريكي
في سابقة تعد الأولى من نوعها، انخفضت أسعار تداول النفط يوم 20 أبريل 2020 إلى ما دون مستوى صفر دولار للبرميل في الولايات المتحدة؛ الأمر الذي يشير إلى ظهور تأثير سلبي آخر للأزمة الاقتصادية التي سببتها جائحة فيروس كورونا، وذلك بعد أسبوعين من نجاح تحالف (أوبك+) في التوصل إلى اتفاق بهدف استقرار أسعاره عالميا، وقد يؤدي هذا الانخفاض إلى حدوث كارثة اقتصادية، ويؤثر على الأسواق المالية العالمية، ويهدد بوصول إنتاج النفط العالمي إلى أدنى مستوياته.
في السنوات الأخيرة، اتسم سوق النفط بالتقلب، بدءا من انهيار الأسعار عام 2014، إلى صدمة السوق التي حدثت نتيجة الهجمات الصاروخية الإيرانية على منشآت أرامكو السعودية في «بقيق وخريص» في سبتمبر 2019، مرورا بالانهيار في أسعار النفط الذي وقع يوم الاثنين 9 مارس2020، بعد اجتماع منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) في فيينا والذي نتج عنه اتخاذ السعودية قرارا بزيادة إنتاج النفط ردا على رفض موسكو تخفيض الإنتاج، مما أدى إلى أكبر انخفاض في الأسعار في يوم واحد ليصل إلى 27.34 دولارا للبرميل. وذلك بعد تفشي فيروس كورونا، الذي تسبب بوقف استخدام وسائل النقل في جميع أنحاء العالم، وتراجع التجارة الدولية والتصنيع في أكبر اقتصادات العالم.
ومع ذلك، لم يسبق للعالم أن شاهد مثل هذا الانهيار في أسعار النفط الذي وقع يوم 20 أبريل 2020. وكانت قيمة «خام غرب تكساس الوسيط» قد انخفضت بنسبة تصل إلى10% يوم 17 أبريل لتصل إلى 17.31 دولارا للبرميل، في أدنى مستوى تصل إليه منذ 18 عاما، ومع ذلك لم تتوقف الأسعار عن الانخفاض. ففي يوم 20 أبريل، تهاوت أسعاره إلى مستوى مذهل ليسجل سالب 37.63- دولارا للبرميل.
ويمكن الجزم بأن وجود فائض هائل في النفط المعروض مقارنة بانخفاض الطلب من مستهلكي النفط، ونقص السعة التخزينية في نقطة تسليم خام غرب تكساس الوسيط في مدينة «كوشينغ» بولاية أوكلاهوما، والمعروفة باسم «مفترق خطوط الأنابيب في العالم»، كانت هي العوامل الرئيسية التي أسهمت في انهيار الأسعار. ووصفت «آن لويز هيتل» من شركة «وود ماكينزي» الاستشارية الموقف بأنه «مع عدم وجود مكان لتخزين النفط الفائض الذي تم إنتاجه في «كوشينغ، اضطرت الشركات المنتجة لنفط غرب تكساس الوسيط إلى دفع مستهلكيها إلى إخراج النفط بعيدا عن أيديهم، وازداد البيع بشكل مكثف؛ ما أدى إلى وصوله إلى أقل من صفر دولار للبرميل للمرة الأولى».
في واقع الأمر، لا يعد نقص سعة التخزين مشكلة خاصة بالولايات المتحدة وحدها، فمرافق تخزين النفط في دول مصدرة للنفط، مثل البرازيل ونيجيريا، لديها بالفعل طاقة شبه كاملة. ويُقدر الخبراء سعة تخزين النفط في جميع أنحاء العالم بـ6.8 مليارات برميل، ولكن ما يقرب من 60% من التخزين مشغول بالفعل. وكلما طال استمرار أزمة الأسعار الحالية ازدادت الحاجة إلى مزيد من المرافق لتخزين احتياطيات النفط. وحذر «وارن باترسون» رئيس «استراتيجية السلع» في مؤسسة «اي ان جي» المالية من أن «المستقبل القريب لا يبعث على الآمال في الانتعاش، ومن المرجح أن التخزين في شهر مايو سيكون مشكلة أكبر بالنظر إلى زيادة الفائض، وبالتالي في حالة عدم وجود انتعاش للطلب، يمكن أن تستمر الأسعار السلبية لشهر يونيو».
من جانبه، كرر الرئيس الأمريكي «دونالد ترامب» خطط الحكومة لاحتياطي النفط الاستراتيجي لتخزين النفط الفائض. وكان الكونجرس قد رفض تمويل المشتريات الفيدرالية من النفط الخام عندما اقترح البيت الأبيض الفكرة لأول مرة منذ عدة أسابيع، لكن «وزارة الطاقة» نظرت أيضًا في إمكانية تأجير الطاقة للمنتجين. وصرح «ترامب» في مؤتمر صحفي قائلا: «نحن نملأ احتياطياتنا النفطية الاستراتيجية، ونتطلع إلى وضع ما يصل إلى 75 مليون برميل في الاحتياطيات.. سنطلب إما الإذن لشرائها، وإما سنقوم بتخزينها، بطريقة أو بأخرى، ستمتلئ».
ومع انخفاض أسعار خام غرب تكساس، تأثرت أسعار الأسواق الأخرى؛ إذ انخفض خام «برنت»، وهو المؤشر العالمي لأسعار النفط، بنسبة 9% يوم 20 أبريل. وتعرضت شركة «أرامكو» السعودية العملاقة للنفط لانخفاض أسهمها بنسبة 2% وانخفض مؤشر ADX العام في أبوظبي بنسبة 2.7%. وتعرضت آمال المستثمرين المتفائلين، بهدف شراء النفط بسعر رخيص وبيعه بمجرد ارتفاع الطلب في وقت لاحق من العام؛ لخسائر أكبر مما كان عليه الحال عندما استثمر، كما شهد صندوق نفط الولايات المتحدة تدفقات تصل إلى 1.5 مليار دولار، وتراجعت استثماراته الحالية بنسبة 15% في20 أبريل وحده. وفي هذا الصدد، يقول «ستانلي ريد» في صحيفة «نيويورك تايمز»: «أصبحت المصافي غير راغبة في تحويل النفط إلى بنزين وديزل ومنتجات أخرى؛ جراء انخفاض أعداد من يتنقلون أو يستقلون رحلات الطائرات، فضلا عن تباطؤ التجارة الدولية بشكل حاد، حتى جرى بالفعل تخزين النفط على السفن وفي أي مكان يمكن للشركات توفيره». وهو ما وصفه «دوغ كينغ»، أحد مؤسسي صندوق السلع التجارية، بأنه «يوم مدمر لصناعة النفط العالمية». وقالت وكالة «بلومبرج» العالمية إن «انخفاض أسعار النفط إلى أقل من صفر لن تزول آثاره سريعا وسيتسبب في موجة انكماش للاقتصاد العالمي الذي يعاني أصلا من تداعيات أزمة فيروس كورونا».
وبدا واضحًا تماما أن الاقتصاد العالمي سيعاني على المديين القصير والطويل معًا بسبب التداعيات الخطيرة التي ستجلبها صدمة انهيار أسعار النفط في الأسواق العالمية. ربما سيكون لتلك الصدمة -إذا ما أرادت لها الأقدار الاستمرار طويلاً- بالغ الأثر على ملامح المنافسة الاقتصادية القوية بين كل من واشنطن وبكين والدائرة منذ سنوات. بالنسبة للولايات المتحدة، فإن هذه الصدمة «تمثل تهديدًا وجوديًا لصناعة النفط الصخري التي ستشهد أوقاتًا عصيبة في الأيام القادمة»، وذلك وفقًا لما أشارت إليه «إيلين والد» في «بلومبرج». فمن شأن هذا الانخفاض في أسعار النفط الصخري أن يكون له آثار مدمرة ويقوض بالتالي قدرة واشنطن على التمتع بأي نوع من الاستقلالية عن موارد الطاقة التي تستوردها من الدول الأخرى، وهنا، سيكون الاقتصاد الأمريكي ذاته أكثر عرضة للتأثر بالصدمات الاقتصادية وانخفاض إيراداته على حد سواء. ناهيك عن أن تلك الصدمة ستحمل بين طياتها أنباءً تبعث على التفاؤل نوعًا ما من الناحية الجيوسياسية؛ إذ قد يتضاءل نفوذ واشنطن وهيمنتها على مجريات السياسة الخارجية والمصالح الاقتصادية الدولية».
وعلى المدى الطويل، تبدو الصورة قاتمة. يقول «ستيفن شورك» محرر نشرة «شورك ريبورت» في بنسلفانيا: «ليس هناك أمل كبير في انتعاش صناعة النفط في المستقبل القريب. إن الأمر قد يصبح أسوأ من الآن، فقد قل الطلب في هذا الصيف، والأشهر المعروفة بالطلبات الكبرى لن تأتي». وحذر «مايكل تران» المدير الإداري «لاستراتيجية الطاقة العالمية» في مجموعة «ار بي سي كابيتال ماركتس» من هذا الأمر قائلاً: «مع رفض شركات التكرير للعديد من معروضاتها النفطية بصورة غير مسبوقة تاريخيًا، ومع ارتفاع مستويات التخزين الأمريكية إلى حد الحافة، ستُلحق بقوى السوق المزيد من لحظات الألم والتعثر حتى نصل إلى أدنى مستوياتها إلى أن يتم القضاء على فيروس «كوفيد -19».
ولا يخفى أيضًا أن الآثار بعيدة المدى على الاقتصاد الأمريكي ذاته. وسيتطلب إغلاق العديد من آبار النفط وإعادة تشغيلها مرة أخرى نفقات كبرى ستستنزفها القوى العاملة والموارد المالية على حد سواء. كما أنه من غير المحتمل أن تصل آبار النفط التي أعيد فتحها إلى مستويات الإنتاج السابقة قبل تفشي الوباء. وفي هذا الصدد، يشير «كليفورد كراوس» في صحيفة «نيويورك تايمز»، إلى أن بعض الشركات قد تستمر في إنتاج النفط، حتى في حال خسارتها المالية الفادحة، من أجل البقاء في السوق ودفع الفوائد على ديونها المتراكمة حاليًا. وتوظف صناعة النفط الأمريكية حوالي 10 ملايين عامل في قطاعها. ويوضح رئيس شركة «لاتيجو بتروليوم»، وهي شركة منتجة في غرب تكساس «كيرك إدواردز»، أن ما يصل إلى40 ألف عامل في غرب تكساس وحدها يمكن أن يفقدوا وظائفهم على أساس أنه «لا يوجد سبب للحفر والتنقيب أو استكمال العمل بأي آبار أخرى في العام الجاري لأنه لا يوجد فرصة لاستهلاك ما كان يتم إنتاجه». وأفاد «سكوت شيفيلد» الرئيس التنفيذي لشركة «بايونير ناتشورال ريسورسز» لإنتاج النفط الصخري بأنه «يمكن أن ينخفض إنتاج النفط بما يصل إلى الربع يوميًا، أي ما يعادل 3 ملايين برميل يوميًا».
وبغضّ النظر عن خسائر منتجي النفط العالمية، عانى مستهلكو النفط بالفعل من خسائر مالية كبرى بسبب جائحة الفيروس التاجي. وسجلت «يونايتد ايرلاينز»، شركة طيران وطنية أمريكية، خسارة قدرها 2.1 مليار دولار في الربع الأول من عام 2020. وبالمثل، سجلت «هاليبرتون لخدمات الطاقة» أيضًا خسائر مالية هائلة بلغت مليار دولار في الربع الأول من عام 2020.
ولا يمكن تجاهل كذلك أن انهيار سعر الخام الأمريكي قد أفسد الآمال التي كانت منصبة على محاولات العديد من حكومات الدول المنتجة للخام السيطرة على أزمة النفط والمحافظة على استقرار الصناعة العالمية في الأسابيع القليلة الماضية. ونظرًا إلى الضغوط الأمريكية، نجح تحالف (أوبك+)، المكون من أعضاء منظمة الدول المنتجة للنفط (أوبك) بقيادة المملكة العربية السعودية، والدول الخارجية المنتجة له (بقيادة روسيا)، في التوصل إلى اتفاق أوائل أبريل 2020 لخفض الإنتاج العالمي من النفط، والذي يعدّ أكبر خفض من نوعه في تاريخ إنتاج الخام، حيث تم الاتفاق على خفض الإنتاج بمقدار 9.7 ملايين برميل يوميًا من أجل ضمان وجود أفضل سعر للخام في الشهور القادمة وما يعقبها.
على العموم، من المرجح أن يكون انهيار أسعار خام غرب تكساس الوسيط هو الأول من بين العديد من حالات الانهيار المقرر حدوثها في الأسابيع والأشهر المقبلة. وستشعر الدول التي تعتمد على إنتاج النفط أكثر بكثير من الولايات المتحدة، مثل نيجيريا وروسيا والدول الأعضاء في منظمة أوبك، بالأعباء الاقتصادية الكاملة، حيث إن تراجع أسواق تصدير النفط العالمية سيترك آثارًا ضارة على الموازنات المالية لهذه الدول.