13/4/2020
انعكاسات أزمة المهاجرين على تماسك الاتحاد الأوروبي
لأكثر من عقد عانى الاتحاد الأوروبي من حالة أزمة دائمة تقريبا منذ الانهيار المالي عام 2008، وأزمة منطقة اليورو، والعلاقات المضطربة مع روسيا، وصعود اليمين المتطرف، وأزمة البريكست، والأعمال العدائية للرئيس الأمريكي «دونالد ترامب»، وتهديد فيروس كورونا المستجد لدول القارة. وكان آخرها احتشاد آلاف اللاجئين على الحدود التركية اليونانية بعدما أعلن الرئيس التركي «رجب طيب أردوجان» فتحها؛ الأمر الذي يسمح لعدد كبير من اللاجئين السوريين والعراقيين والأفغان والإيرانيين الذين استضافتهم تركيا في السنوات الأخيرة من الوصول لأوروبا، مع ما يمثله ذلك من أزمة كبيرة لدول القارة.
ويمثل فتح الحدود محاولة واضحة من جانب تركيا للضغط على أوروبا لتقديم المساعدة لها في أزمتها في سوريا. وقال «أردوجان»، صراحةً يوم 4 مارس: «إذا أرادت أوروبا حل القضية فيجب عليها دعم جهود تركيا لإيجاد حلول سياسية وإنسانية في سوريا». ويأتي ذلك بعد مقتل 33 جنديا تركيا على أيدي القوات المدعومة من روسيا في محافظة إدلب الشمالية يوم 27 فبراير، ورفض الاتحاد الأوروبي دعم أنقرة وفقا للاتفاقية المبرمة بينهما في مارس 2016؛ والتي تقضي بأن تمنع الأخيرة اللاجئين من التدفق إلى أوروبا مقابل مساعدات مالية تقدر بـ6.6 مليارات يورو.
وأثارت هذه الأزمة مخاوف أوروبا من تكرار أزمة المهاجرين الأولى عام 2015، عندما وصل أكثر من مليون مهاجر إلى القارة هربا من النزاعات في الشرق الأوسط، مما أدى إلى حدوث أزمة سياسية واجتماعية أثرت بشدة على فاعلية تماسك الاتحاد كمؤسسة، وخاصة أن تركيا تستقبل على أراضيها أكثر من 4 ملايين لاجئ؛ لذلك أعرب وزراء خارجية دول الاتحاد الأوروبي في بيان مشترك عن قلقهم من الوضع على الحدود اليونانية التركية، ورفضهم استخدام أنقرة المهاجرين كوسيلة ضغط لتحقيق أغراض سياسية. وفي هذا الصدد صرحت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل «أنها تتفهم توقع الرئيس أردوجان الحصول على قدر أكبر من العون من أوروبا، لكن عليه ألا يستغل اللاجئين لإبداء استيائه، وعلى الاتحاد وتركيا أن يستأنفا المحادثات».
وعلى الرغم من ذلك، يرى بعض الباحثين أن أزمة 2015 في طريقها إلى التكرار، وهو ما سيترتب عليه ضرر مؤسسي ربما يقود إلى زوال التكتل. يؤكد «يانيس بابولياس» في صحيفة «فورين بوليسي»، أن عدم اتخاذ أوروبا أي إجراء ضد أنقرة جراء غزوها الأراضي السورية جعلت أردوجان واثقًا من أن دول الاتحاد لن تحرك ساكنًا إزاء هذا الأمر، وأنها فضلت وضع المتفرج وبرهنت على مدى سلبيتها إزاء الأزمة الإنسانية في إدلب، كما سيؤدي استمرار تقاعسها إلى تفاقم الأزمة على غرار عام 2015، بل إن هذه الأزمة وفقًا لما أشار إليه الخبراء، ستكون أوسع نطاقًا وأشد حدة مما كانت عليه في المرة السابقة». وأضاف «بابولياس» أن «صفقة الهجرة التي أبرمت بين الاتحاد الأوروبي وتركيا عام 2016، كان مصيرها دائما الفشل، ليس فقط لأن الأموال التي حصلت عليها الأخيرة أكثر بكثير من الخدمات التي تقدمها، ولكن أيضًا بسبب تاريخ أنقرة الطويل في استخدام المهاجرين لأغراض سياسية».
ويرى «تشارلز ليستر»، من «معهد الشرق الأوسط»، أنه «في حال ازداد الأمر سوءًا في إدلب، واستمر زحف القوات السورية نحو شمال البلاد باتجاه الحدود التركية، مع استمرار تشبث قوات المعارضة المسلحة بسيطرتها على إدلب، فإن حصيلة الضحايا ستزداد، وهو ما سيترتب عليه تشريد 2.5 مليون لاجئ من المدنيين الذين لن يظلوا عالقين على الحدود لفترة طويلة، ومن ثم سيتحركون بجموع غفيرة نحو أوروبا».
وفي حال وقوع هذا السيناريو فإن أوروبا ستعاني ضغوطا سياسية ستلحق بالغ الضرر بتماسكها الأيدولوجي؛ فمن جهة، ستؤدي الحدود المفتوحة إلى استمرار تدفقات اللاجئين ليس فقط السوريين، بل من شعوب الدول الإفريقية والآسيوية المتوترة النزاعات؛ ومن جهة أخرى سيمثل تدفق المهاجرين فرصة سانحة أمام الشعبويين أو العنصريين الأوروبيين لزيادة شوكتهم بصورة أكثر شراسة مما هم عليه الآن، ولا سيما أنه معروف عنهم كراهية الآخر وتشككهم في جدوى استمرار الاتحاد كقوة متحدة، وهو ما سيقوض سلطته في العمل على حل تلك الأزمة.
وفي الإطار ذاته، أكدت «إيمي أوكيف» في صحيفة «الإندبندنت»، أن «وقوع أزمة أخرى من المهاجرين ستمثل دعمًا لأجندة عمل القادة الشعبويين والتيارات اليمينية المتشددة داخل الدول الأوروبية، ولا سيما في ظل إجراء الانتخابات المحلية في فرنسا، والانتخابات الوطنية المقرر إجراؤها في كل من ألمانيا والنمسا خلال هذا العام، وهو ما سيذبذب استقرار الاتحاد الأوروبي».
ويهدد صعود اليمين المتطرف في أوروبا ووصوله إلى الحكم بقاء الاتحاد الأوروبي نفسه، حيث يعزي البعض إليهم خروج بريطانيا من التكتل. فمع الضغوط الاقتصادية والاجتماعية والسياسية اللاحقة على أزمة المهاجرين الأولى لعام 2015، رفض العديد من الأحزاب الشعبوية اليمينية المتطرفة استمرار بريطانيا، وروج حزب استقلال المملكة المتحدة وبعض نواب حزب المحافظين في حملتهم من أجل البريكست لفكرة الخوف من تدفق المهاجرين إلى دول الاتحاد لجذب الناخبين. يقول «أندرياس كلوث» في مجلة «الايكونوميست»، «إن لم يكن بمقدور الاتحاد السيطرة على حدوده فمن الصعب التنسيق بين أعضائه وسيكون مصيره إلى زوال».
وعلى صعيد آخر، هناك من يرى أن الإجراءات التركية الأخيرة ما هي إلا ضغوط معتادة على الدول الأوروبية، للإسراع بتقديم دعمها المالي إلى أنقرة، وعدم معارضتها لأي أعمال عسكرية تقوم بها في سوريا. علاوة على ذلك، فإنه على الرغم من تضرر تركيا من ازدياد عدد اللاجئين على أراضيها فإنها في حاجة إلى عدد كبير منهم للترويج لنموذجها التنموي، ولشحن قواتها المسلحة بعدد منهم، نظرًا إلى انخراطها في العديد من صراعات المنطقة.
ويؤكد أنصار هذا الفريق أنه حتى لو أن تركيا جادة في إجراءاتها الأخيرة، فإن الدول الأوروبية تدرك أنه لا مجال للتقاعس، فهم يدركون خطورة مثل هذا الأمر على الاتحاد الأوروبي كمؤسسة، وعلى دولهم كأعباء اقتصادية تتمثل في الضغط على نفقاتهم، وسياسية تتمثل في قوة شوكة الشعبويين. تؤكد «ديفني أرسلان»، من «المجلس الأطلسي»، أنه «ربما سيدفع هذا أوروبا أخيرا لإظهار بعض الحكمة نحو الأزمة على حدودها، حتى وإن لم يكن لسبب آخر سوى منع موجة جديدة من اللاجئين السوريين تتسبب في زعزعة استقرار المشهد السياسي الداخلي». ويرى «ستيفن إيرلانجر» في صحيفة «نيويورك تايمز» أنه «لا تزال حالة الفوضى الناجمة عن سوء التعامل مع تدفق المهاجرين عام 2015، والتي أنتجت صورا مروعة لأطفال قتلى، وحشودا غير مُسجلة تجوب الطرق والانقسامات السياسية، ماثلة في أذهان الأوربيين».
وإذا كان الحال كذلك، فإن هناك العديد من الخيارات التي قد تتبعها أوروبا لإنهاء الأزمة القائمة منها؛ زيادة الدعم المالي المقدم لتركيا، وهو ما أكده تصريح «جوزيب بوريل»، مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد، من أن «حكومات التكتل ستبحث تخصيص المزيد من الأموال للمهاجرين في تركيا، لكنها لن تقبل استخدامهم كأداة مساومة، وأن الاتحاد عازم على الإبقاء على الاتفاق مع أنقرة». لكن من الصعب قبول ذلك بين الدول الأعضاء في وقت تختلف فيه على الدعم المقدم وفقا لاتفاق 2016.
وهناك خيار آخر يتمثل في تشديد الرقابة على الحدود وهو الخيار الأقرب، حيث أعلن وزير الدفاع البلغاري «كراسيمير كاراكاتشانوف»، أن بلاده مستعدة لنشر ما يصل إلى 1000 جندي ومعدات عسكرية على الحدود مع تركيا لمنع تدفق المهاجرين غير الشرعيين، علما بأن بلغاريا لها حدود برية تمتد لأكثر من 300 كيلومتر مع تركيا، كما أكدت المفوضية الأوروبية استعدادها لإشراك وكالة الحدود الأوروبية (فرونتكس) في المساعدة على مراقبة حدود التكتل الخارجية مع تركيا في اليونان وبلغاريا. ويبقى الخيار الثالث وهو تقديم المساعدات والدعم المالي لمناطق النزاع، التي يتدفق منها اللاجئون كمنطقة إدلب في شمال غرب سوريا، وهو ما أشار إليه «تشارلز ميشيل»، رئيس المجلس الأوروبي، لكنه سيناريو ضعيف الاحتمال نظرًا إلى فشل هذه التجربة في عدد من المناطق، حيث كانت تصل المساعدات بالأساس إلى جماعات مسلحة مما يزيد من حدة النزاعات، ومن ثم زيادة تدفق اللاجئين.
ووفقا للعديد من المحللين، فإن التحركات التركية الأخيرة تنبئ بالفعل عن وقوع أزمة هجرة، نظرًا إلى إدراك «أردوجان» أن استمرار التهديد بلا تنفيذ فعلي سيظهر أنقرة ضعيفة وليس لديها القدرة على اتخاذ قرار حاسم على الأرض، كما سيعطي الدول الأوروبية الوقت لاتخاذ إجراءات وتدابير تمنع تكرار هذه الإجراءات مرة أخرى، فضلا عن رغبة الرئيس التركي في التخفيف من بعض أعباء اللاجئين في وقت تشهد فيه تركيا أزمات اقتصادية ملحوظة. ومع ذلك لن تكون الأزمة بحال من الأحوال تكرارا لسيناريو 2015. وكانت تركيا قد زعمت محاولة 76.000 مهاجر العبور عبر أراضيها، فيما أعلنت الأمم المتحدة عن رقم أقل من ذلك يصل إلى 13.000، وفي كلتا الحالتين فهي أرقام أقل بكثير من عام 2015 عندما دخل أكثر من مليون شخص أوروبا، وبالتالي فالضرر المؤسسي لن يكن قابلاً للمقارنة بما كان عليه الوضع حينها.
على العموم، يمكن الجزم بأنه من الصعوبة التنبؤ بمسار هذه الأزمة، لكنها ستتوقف على مدى قدرة الاتحاد الأوروبي على التعامل معها، فإذا استطاع التحرك بسرعة وإقناع أنقرة بإغلاق حدودها أو تشكيل سياسة ذات فاعلية في التعامل مع تلك الأزمة على المستوى الدولي، فإن الاتحاد سيخرج من هذه الأزمة أكثر قوة مما كان عليه. لكن من المؤكد أن تكرار سيناريو عام 2015 هو الاحتمال الأضعف، نظرًا إلى أنه سيعني تدهور العلاقات الأوروبية التركية بشكل كبير، وهو ما لا يريده لا أردوجان الذي لا يزال يرغب في الانضمام للاتحاد، ولا الدول الأوروبية الراغبة في استمرار تماسك التكتل وتقليل نفوذ الشعبويين.