23/3/2020
دلالات انسحاب روسيا من التحالف النفطي «أوبك بلس»
شهدت أسواق النفط في الفترة الأخيرة تراجعًا كبيرًا بعد انهيار تحالف «أوبك بلس» الذي كان يضم دول منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك) وعلى رأسها السعودية وعشر دول نفطية من خارج المنظمة وعلى رأسها روسيا. ويتزامن هذا التراجع الحاد لأسعار النفط مع انتشار فيروس كورونا المستجد (كوفيد 19) وتداعياته الاقتصادية وبخاصة الطلب على الطاقة وهو ما يزيد من معاناة الدول النفطية.
وبينما كان من المتوقع أن يزيد التنسيق بين منتجي النفط في داخل الأوبك وخارجها؛ لتعزيز توازن السوق النفطي، في مواجهة تحديات انتشار فيروس كورونا؛ عادت العلاقة بين المنتجين والمصدرين إلى التنافس على الفوز بحصص الأسواق، وهو التنافس الذي كان قد اشتد بين عامي 2014 – 2016, وأخذ شكل موجات من تخفيض الأسعار، التي استهدفت أيضًا الضغط على إنتاج النفط الصخري، وخاصة في الولايات المتحدة، حتى لا يتمكن في ضوء كلفة إنتاجه المرتفعة، من النفاذ إلى الأسواق منافسًا للنفط التقليدي.
وبعد الانسحاب الروسي من «أوبك بلس»، بادرت المملكة العربية السعودية يوم 7 مارس- وهي أكبر مصدّر للنفط في العالم- بتخفيض الأسعار لكل درجات نفطها الخام ولجميع الجهات من أبريل 2020. وبهذه الخطوات انتهت اتفاقية استمرت ثلاث سنوات، وهي التي أنشأت صيغة «أوبك بلس»، لترفع الأوبك كل القيود على إنتاجها وتهوي أسعار النفط معيدة إلى الأذهان ما حدث في منتصف 2014.
ومن جانبها، تعتزم السعودية رفع سقف إنتاجها إلى أكثر من 10 ملايين برميل يوميًّا؛ تعويضًا عن الأثر المالي لتخفيض الأسعار في تراجع إجمالي الإيرادات النفطية، بينما كان الاتجاه قبل ذلك هو التوافق على خفض المعروض، وحجب كميات إضافية عن الأسواق لتعزيز وضع الأسعار في مواجهة انخفاض الطلب.
ولعل هذه التطورات السريعة، فضلاً عن الذعر المنتشر بسبب فيروس كورونا، زادت حالة السوق النفطية تدهورًا خاصة يوم 9 مارس، لتشهد أكبر خسائرها اليومية منذ حرب الخليج 1991, ليلامس خام برنت 30 دولارًا للبرميل ويبلغ خام غرب تكساس الوسيط 27 دولارًا للبرميل. وتضرب هذه الأسعار الاستثمار في عمليات التطوير، كما تضرب تنافسية النفط الصخري. ويعزز هذا الانخفاض للأسعار، التوقعات الصادرة من مصارف عالمية عن نمو الطلب الصيني، وفي مقدمتها بنك «مورجان استانلي» الذي أعلن أن نمو الطلب الصيني في 2020 قد يكون صفرًا. وتوقع بنك «جولد مان ساكس» انخفاضا في الطلب العالمي على النفط بمقدار 150 ألف برميل يوميًّا، وتوقع أن يستمر سعر خام برنت عند30 دولارًا للبرميل حتى الربع الثالث لعام 2020. أما «وكالة الطاقة الدولية»، فقد أعلنت يوم 9 مارس أن الطلب العالمي سينكمش في 2020 للمرة الأولى منذ أكثر من 10 سنوات، ليبلغ 99.9 مليون برميل يوميًّا منخفضًا بمقدار مليون برميل.
وكانت «أوبك بلس» تخطط قبل انسحاب روسيا لخفض إنتاجها بواقع 2.1 مليون برميل، وترتب على التطور الجديد واستفحال التأثيرات الاقتصادية لكورونا، تراجع كبير في أسواق المال الخليجية.
وعلى الجانب الآخر، كان للتدابير الاحترازية التي تتخذها حاليا معظم دول العالم، لمنع انتشار فيروس كورونا، كالتحول للعمل من المنزل وإيقاف الدراسة، وتأثير ذلك على قطاع النقل، شأنها في خفض الطلب على النفط. وزاد من ذلك التضخيم الإعلامي حول عدد الوفيات الناجمة عنه والتي لا تتخطى 6000 حالة حتى يوم 14/3/2020, وهي نسبة لا تكاد تُذكر من سكان العالم، وتأثير ذلك على قطاعات، الطيران والنقل والسياحة، ومن ثم، زادت توترات الأسواق النفطية. وفيما نجد أن الأسواق المالية تنشط فيها شركات الطاقة والبتروكيماويات، كان لا بد أن تتأثر هذه الأسواق بالموقف الجديد.
وكانت روسيا قبل موقفها من «أوبك بلس»، قد شكلت لجنة حكومية مختصة بتعزيز الاقتصاد الروسي في مواجهة تداعيات تفشي الإصابة بفيروس كورونا، وبادرت بإجراءات انكماشية، فألغت منتديات اقتصادية دولية كبرى كانت تنظمها سنويًّا في البلاد، مثل منتدى «كراستو بارسك الاقتصادي»، الذي كان من المقرر له أن ينعقد ما بين 19 إلى 21 مارس، والذي لم يتم تأجيله لأول مرة منذ انطلاقه 2004, كما تقرر تأجيل انعقاد منتدى «بطرس بورج الاقتصادي الدولي» الذي كان من المقرر أن ينعقد ما بين 3 إلى 6 يونيو. وبحسب تقديرات مصلحة الجمارك الفيدرالية الروسية، فإن خسائر كورونا تبلغ نحو مليار روبل يوميًّا، وتحول هذه المصلحة إلى الخزانة الروسية نحو 5.34 تريليونات روبل سنويًا، فيما كان من تداعياته تراجع أسعار النفط وانخفاض قيمة الروبل، ليبلغ 67.92 روبلا لكل دولار، و76.86 روبلا لكل يورو، وكان من الممكن أن ينشط هذا الانخفاض الصادرات الروسية، لكن حالة الركود الاقتصادي العالمية منعت نشاطها.
وللحد من التأثير المحتمل لانسحاب روسيا من «أوبك بلس»، سارعت وزارة المالية الروسية، والبنك المركزي بالإعلان عن تدابير وخطوات استباقية، منها إطلاق تصريحات مطمئنة مثل أن صندوق الثروة السيادي، أصبح لديه ما يغطي تراجع أسعار النفط على مدى 10 سنوات حتى إذا بلغ السعر 25 إلى30 دولارًا للبرميل، وكشفت أن حجم هذا الصندوق يبلغ نحو 150 مليار دولار، أي نحو 9.2% من الناتج المحلي الإجمالي.
وإذا كان للموقف الروسي جانب سياسي يتمثل في الحيلولة دون تمكن الولايات المتحدة من أن تصبح أكبر منتجي النفط في العالم، نتيجة التطور الذي قامت به في إنتاج النفط الصخري، وأصبح إنتاجها يتجاوز 12 مليون برميل يوميًّا، وبلغ قبل نهاية العام الماضي 12.45 مليون برميل يوميًّا؛ إلا أن هذا الموقف له تأثيره السياسي والاجتماعي بالغ الخطورة على الدول النفطية التي تعتمد بشكل كامل تقريبًا على إنتاج وتصدير النفط الخام، ويضع بلدان العراق ونيجيريا وأنجولا تحت ضغوط شديدة، ولن يمكنها من المضي في خطط إنمائية.
ومع ذلك، يمكن القول أن هذه الحالة للسوق النفطية، هي من تقلبات الأجل القصير، مرتبطة بشدة بحالة الذعر جراء انتشار الإصابة بكورونا، فإذا ما أمكن احتواء هذه الحالة -ونعتقد أن العالم كله يسير في هذا الاتجاه- فإن توقعات نمو الطلب على النفط ستتعافى في العام القادم 2021 ليرتفع بنحو 2.1 مليون برميل يوميا، حسبما أشارت الوكالة الدولية للطاقة. ولكن معدلات نمو الطلب لن تسير بنفس الوتيرة في الأعوام التالية؛ بسبب تطبيق سياسات تحسن من كفاءة استخدام الطاقة. ومع نمو الطلب، فإن الوكالة تتوقع أيضًا نمو الطاقة الإنتاجية بحلول 2025 لتتجاوز الطلب قليلاً، وأن يأتي معظم النمو في الإنتاج من النفط الصخري الأمريكي، وزيادة الإنتاج في البرازيل وكندا والعراق والإمارات. ويعزز توقع عودة السوق إلى التوازن ما شهدته هذه السوق بعد إعلان السعودية تخفيض أسعارها من تسابق بين شركات التكرير الآسيوية الكبرى على الشراء، من بينها شركة «هندوستان بتروليام»، و«بهارات بتروليام»، في مؤشر على انتهاز فرصة انخفاض الأسعار لبناء ومراكمة مخزونات نفطية تحميها من أثر ارتفاع الأسعار بعد ذلك.
ومن المعلوم أن دول الخليج العربية، قد سبق لها التعامل مرات كثيرة مع موجات انخفاض أسعار النفط، وصارت أكثر تحوطًا، وأكثر حصانة، فأنشأت صناديق ثروة سيادية تمكنها من الصمود فترات مع وضع هذا الانخفاض، كما اكتسبت سياساتها الاقتصادية المرونة الكافية بما يمكنها من اجتياز مثل هذه الفترات، كما نما قطاعها غير النفطي بما يعوض كثيرًا عن هذا الانخفاض في أسعار النفط، ولكن كان من الأفضل لجميع المنتجين ولروسيا الاتجاه الذي سبق الموقف الروسي، وهو الاتجاه الذي كان يعزز توازن السوق النفطي واستقراره، ولكن روسيا وباقي المنتجين قد خسروا هذه الفرصة البديلة وكان من الأفضل ألا تلجأ روسيا إلى هذا الموقف الذي قوض إنجازا استمر لسنوات، ولكنها السياسة.